حسني حنا يكتب :سوريا الطبيعية... بين الجغرافيا والتاريخ (1)

حسني حنا يكتب :سوريا الطبيعية... بين الجغرافيا والتاريخ (1)
حسني حنا يكتب :سوريا الطبيعية... بين الجغرافيا والتاريخ (1)
 
"السياسة هي إبنة التاريخ، والتاريخ هو ابن الجغرافيا، والجغرافيا ثابتة".
*Napolion Bonaparte
يُقصد بـ (سوريا Syria) الاصطلاح العام، الذى استخدمه اليونانيون القدماء، للدلالة على المساحة الواقعة بين جبال طوروس شمالاً، والصحراء العربية جنوباً، ونهر الفرات شرقاً، والبحر المتوسط غرباً. وذلك كما حددها المؤرخ زالجغرافي اليوناني الشهير (هيرودوت Herodotus) في القرن الخامس قبل الميلاد. وهو أول من ذكر اسم سوريا في كتابه (التاريخ: الكتاب الأول فقرة 5) وفي أماكن أخرى من كتابه.
وفي مسرحية (أغاممنون) لأستخيلوس (ت 455م) ورد ذكر (العطر السوري).
وتشكل سوريا القسم الغربي من (الهلال الخصيب The Fertile Crescent)
وكان العالم الأمريكي (جيمس هنري برستد J.H.Breasted) أول من عمم هذا الأسم، على منطقة في الشرق الأوسط، بدأت فيها الحضارة. وهو يشمل سوريا القديمة قبل التجزئة. أو ما بات يعرف اليوم باسم (سوريا ولينان والأردن وفلسطين وشبه جزيرة سيناء، وبلاد النهرين Mesopotamia).
وتمتد سوريا التاريخية القديمة، على مساحة تزيد على مليون كيلو متر مربع. وقد كانت لها حدود مشتركة، مع ايران في الشرق، ومع أرمينيا في الشمال، والمدن اليونانية في غرب الأناضول، ومصر في الغرب، ومع شبه جزيرة العرب في الجنوب. وقد أطلق الجغرافيون على البحر المتوسط في ذلك الحين اسم (البحر السوري) ومنهم بطليموس Ptolemy (القرن 2م) كما نشر العالم الجغرافي (الأدريسي) خريطة رسمها عام (1154م) يظهر فيها البحر المتوسط باسم (البحر السوري).
ويطلق المؤرخ البريطاني (أرنولد تويتبي Arnold Toynbee) على المنطقة الممتدة من الهند شرقاً، إلى البحر المتوسط غرباً اسم (العالم السوري Syrian World).
وقد مرت فترة طويلة كانت فيها اللغة الآرامية (السورية) لغة رسمية، ولغة الثقافة والتجارة والادارة، في العديد من دول الشرق القديم، ومنها الإمبراطورية الفارسية. كما كانت اللغة الآرامية معروفة في مصر القديمة، وبلاد الأناضول وغيرهما. كما كانت لغة الحياة في منطقة الهلال الخصيب-ولغة السيد المسيح.
ومن الجدير بالذكر أن الملك. حزائيل الآرامي (843 – 803 ق.م) ملك مملكة دمشق الآرامية وأشهر ملوك الآراميين، كان يعرف أحياناُ باسم (ملك سوريا).
 
 
سوريا بمدلولها الواسع
سوريا ليست سطوراً في التاريخ، سوريا هي تاريخ وحضارة وثقافة رائعة. وهي بمدلولها الواسع، واقع تاريخي وجغرافي، يمتد على مدى العصور. وهي وحدة لاسبيل الى إنكارها. بين الشعوب التي تحيط بها من البر والبحر.
ومن المستحسن معالجة تاريخ سوريا بمعناه الشامل. وهو اصطلاح موفق، أخذ به الجغرافيون. على أنه موضوع واحد. دون أية حدود صناعية. غير أن الحدود بين هذا القسم الغربي من الهلال الخصيب، وبين قسمه الشرقي/ كانت دائماً حدوداً مائعة، وغير ثابتى. تقوم أو تتبدل، أو تزول بتبدل الأزمنى والدول وحيث تشكل سوريا الامتداد الطبيعي لبلاد النهرين، والعكس صحيح.
ويروي ياقوت الحموي (ت 1179 م) في كتابه (معجم البلدان) أن الشام والعراق تسمى سورستان أو سوريان (مجلد 5 ص 165) ويروي المسعودي (ت 956م) أن سوريا تشمل بلاد الشام والعراق وهو يقول: "والروم يسمون البلاد التي سكنها المسلمون في هذا الوقت من الشام والعراق (سوريا). انظر (التنبيه والاشراف للمسعودي ص 150) كما يتفق عدد من المؤرخين والجغرافيين العرب على تسمية البلاد الممتدة من شمال شبه جزيرة العرب جنوباً، إلى سلسلة جبال طوروس شمالاً اسم (سوريا) أو (بلاد الشام).
وكان العرب قد أعطوا لسوريا بعد الفتح (635م) أسماً جديداً هو (الشام) وقد ذكر الهمذاني (ت1007م) هذا الاسم لأول مرة في كتابه (الإكليل).
وتتوسط سوريا وبلاد النهرين (البادية السورية Syrian Stepps) التي كانت ولازالت معبراً للقوافل، وصلة وصل بين جناحي الهلال الخصيب، لذلك لايمكن اعتبارها حدوداً طبيعية، وكذلك نهر الفرات.
وقد ورد اسم (سوريا Syria) في أقدم الخرائط العالمية والمدونات الجغرافية، عند استرابون Strabo (ت 21م) وبطليموس Ptolemy (ت 168م) بل أقدم من ذلك. وهو بحق أقدم اسم دولة مازالت قائمة إلى اليوم.
وتعتبر كتابات كل من هيرودوت Herodotus (ت 425 ق.م) وكسينوفون Xenophon (ت 354 ق.م) التي وصلتنا بدقة، من أقدم المؤلفات، التي سطرت مشاهد حية عن سوريا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
وقدم وليام الصوري William Of Tyr (القرن 13م) زصفاً محكماً لعدد من المدن السورية. وتعتبر فارتيما Vartima الرحالة الإيطالي الشهير، أول رحالة غربي كتب عن سوريا، وعدد من مدنها، بالمفهوم المعاصر لأدب الرحلات. وقد نشرت أخبار رحلاته باللغة الإيطالية عام (1510م).
وتتابعت بعد هذه الرحلة، رحلات غربية عديدة، لم تنقطع أبداً، وتصاعدت وتيرتها باستمرار. وما رحلات دارفيو D’Arviex ونيبور Niebuhr وفولني Volney وموندريل Mondrell وغيرهم، إلا أمثلة واقعية على ذلك.
وكتب عن سوريا علماء الاثار والجغرافيون والمؤرخون والرحالة، آلاف المجلدات (قدرها بعضهم بـ 40 ألف مجلد) ومئات آلاف الأبحاث والمقالات والدراسات. انظر كتاب (الاستشراق Orientalism) للدكتور أدوارد سعيد. Dr.Edward Said
 
 
اكتشاف تاريخ سوريا
كان لاكتشاف المدن التاريخية الهامة في سوريا، مثل مدينة ماري Mari وأوغاريت Ougarit و إبلا Ebla وغيرها. وما أظهرته أعمال التنقيب الأثري، في مئات من التلال الأثرية السورية، أكبر الأثر في تعريف العالم، بحضارة سوريا عبر العصور. وقد حددت المكتشفات الأثرية مكانة سوريا الحضارية، في تاريخ الحضارة الإنسانية، من الناحيتين الفكرية والروحية، على أنها أجل شأناً من أي بلد آخر.
 
وحدة الأمة السورية
من الأجدى أن نطلق على سوريا التاريخية اسم (سوريا الطبيعية) بدلاً من (سوريا الكبرى) أو (الهلال الخصيب) وغيرهما. لأن اسم (سوريا الطبيعية) يعبر عن الوحدة الجغرافية الثابتة. حيث تتبدل الأزمنة والدول.
ويقول (نابوليون بونابرت) في هذا المجال: "السياسة هي إبنة التاريخ، والتاريخ هو ابن الجغرافيا، والجغرافيا ثابتى".
وعلى الرغم من وجود (الوحدة الجغرافية) لسوريا عبر التاريخ، الا أن الوحدة السياسية أو الكيان السياسي الثابت لم يتحقق. ولم تعبر عنه دولة مستقرة، كما كان الأمر في مصر وبلاد فارس، والدولة الحثية فى الاناضول وكذلك في اليونان.
ومنذ مطلع الأف الثانية قبل الميلاد -أو حول ذلك- تشكلت في الساحل السوري (ممالك المدن) ومنها (أوغاريت أرواد، وجبيل وصيدا وصور) وكان الكنعانيون أو (الفينيقيون) سكان الساحل السوري، أول شعب بحري في العالم. بنوا السفن، وخاضوا غمار البحر المتوسط، وزرعوا على شواطئه المدن والمستطونات التجارية. التي مازالت آثارها موجودة الى اليوم. تتحدى صروف الأزمان.
وفي سوريا الداخلية، وعلى غرار الكنعانيين، أاقم الآراميون (ممالك المدن) في دمشق وقطنا (قرب حمص) وفي حماه وحلب وغيرها.
وهذه الممالك وسواها، لم تكن هناك وحدة فيما بينها، ولا اتحاد!..
وبسبب الموقع الجغرافي في الهام لـ (سوريا الطبيعية) وخصوبة أرضها، وفرة مياهها، فقد كانت محط أطماع الدول والامبراطريات المجاروة كالفرس في الشرق والحثيين في الشمال، والمصريين في الجنوب واليونان والرومان في الغرب. تلك الأطماع والصراعات على سوريا، قادت الى وقوع البلاد تحت سلطة المحتلين، والى وجود حالات عدم الاستقرار. يضاف إليها عدم وجود وعي سياسي جمعي.. كل هذه الأمور، منعت قيام كيان سياسي موحد في سوريا. وبالمقابل أوجدت تلك الصراعات على سوريا، تغيرات سياسية ولغوية وعقيدية، عميقة ومتتالية.
ولكثرة ماتعرضت له سوريا من احتلالات، كانت تعجز عن مقاومتها وصدها، فتضطر للاستكانة والخضوع للمحتلين. وهذا مادفع المؤرخ اليوناني بولييوس Polybius (القرن 2 ق.م) الى القول: "لايوجد بلد واحد، يخضع من حيث ميوله الفطرية، وسرعة انطباعاته للمنتصر، بمثل الرغبة التي تخضع بها سوريا"!...
 
سوريا في عهد السلوقيين
لم تتوحد سوريا عبر التاريخ، الا ضمن الامبراطوريات، التي احتلتها وضمتها إليها (الحثيون من الشمال، والمصريون من الجنوب، والفرس من الشرق، واليونان والرومان من الغرب، وصولاً الى العرب والأتراك العثمانيين). ولم توجد فيها ممالك سورية محاربة!..
وكانت المرة الأولى والوحيدة، التي أصبحت فيها (سوريا Syria) كياناً سياسياً، ومملكة موحدة مستقلة في عهد الدولة السلوقية (نسبة إلى مؤسسها سلوقوس الأول الكبير أحد قواد الأسكندر المكدوني) والتي حكمت سوريا بين عامي (333- 64 ق.م) حيث صار اسم (سوريا) محدداً جغرافياً وتاريخياً. وكانت لسوريا عاصمة مزدهرة هي (أنطاكية Antioch) التي بنيت نحو عام (300 ق.م) والتي ظلت عاصمة سوريا السياسية والثقافية والدينية، لمدة تقارب (900) عام إلى أن غزا العرب سوريا، وسقطت بأيديهم (635- 638م).
وكان الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث الكبير Antiochus III (222- 187 ق.م) قد أعلن وهو في مدينة نينوى في بلاد النهرين قوله: "إني أعلن سوريا دولة مستقلة" وكان الملك أنطيوخوس الثالث يحكم سوريا الطبيعية وغرب آسيا. وهو أول من وحد سوريا بكامل أقسامها.