حالة من التغيير الجذري شهدها الخطاب الغربي، تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، بدا واضحا في الأسابيع الماضية، مقارنة بلحظة اندلاع القصف الوحشي على القطاع، حيث تمحورت المواقف في اللحظة الأولى حول حق إسرائيل في "الدفاع عن نفسها"، بينما تراجعت تدريجيا، جراء الانتهاكات الكبيرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال، والتي لم تقتصر على قتل آلاف المدنيين الأبرياء، وإنما أيضا في استهداف المستشفيات ودور العبادة، وحتى دعوات التهجير القسري، والتي تمثل جريمة حرب متكاملة الأركان، تضع المسؤولين عنها تحت طائلة المحكمة الجنائية الدولية، طبقا لميثاق روما الأساس المؤسس لها، بينما كانت نقطة الانطلاق، في حالة التغيير الكبير، في المواقف والنبرة الغربية، من القاهرة.
ولعل الدعوة التي أطلقتها الدولة المصرية بعقد قمة دولية على أراضيها، تحت شعار "القاهرة للسلام"، تعكس إدراكا كبيرا في أهمية إنهاء حالة التنافر بين الوضع الدولي بصورته الجمعية، في ضوء انحياز الغرب لإسرائيل من جانب، والحالة الإقليمية، التي طالما دافعت عن مركزية فلسطين في أجندتها، والدفاع المستميت للقوى الرئيسية بمنطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم مصر، عن الحق الفلسطيني، والقائم على تأسيس دولة مستقلة ذات سيادة، على حدود الرابع من يونيو، وعاصمتها القدس الشرقية.
ولعل التنافر الكبير بين المواقف الإقليمية والدولية، كانت بمثابة "الفرصة" التي سعت الدولة العبرية لاقتناصها، في بداية الصراع، حيث تمادت في عدوانها استنادا على التأييد الغربي لها، بينما سعت إلى توسيع الفجوة، عبر إطلاق دعوات "التهجير" لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، وأهمها تصفية القضية، عبر تجريد الدولة المنشودة من أركانها (الشعب والأرض)، وهو ما يحقق هدفا رئيسيا، طالما سعت إليه سلطات الاحتلال وهو تقويض الشرعية الدولية.
وهنا انطلقت المواجهة من القاهرة، عبر تعزيز ثوابت القضية، وتحقيق توافق عالمي "عابر للحدود والثقافات" حولها، خلال قمة "القاهرة للسلام"، وعلى رأسها الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وضرورة عبور المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى رفض التهجير، ناهيك عن تأكيد الحاجة إلى تحقيق التهدئة، مما يغلق الباب أمام السلطات الإسرائيلية في استغلال الزخم الناجم عن التنافر بين الحالتين الإقليمية والدولية، لإضفاء الشرعية على ممارساتها غير الإنسانية، بينما تحركت الدولة المصرية في إطار فردي مع القوى الغربية المؤثرة في دوائر صناعة القرار الدولية، لتحقيق اختراقات، فيما يتعلق بالقضايا الخلافية.
فلو نظرنا إلى القادة والزعماء الذين توافدوا على مصر خلال الأسابيع الماضية، نجد أن القاهرة استقبلت 4 من قادة مجموعة السبع الكبار، وهم المستشار الألماني أولاف شولتس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني، ورئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك، وهي الدول التي تحمل تأثيرا يتجاوز الحالة الاقليمية المحدودة بصورتها التقليدية، باعتبارهم قوى مؤثرة في صناعة القرار الأوروبي وإنما يمتد تأثيرهم إلى مناطق أخرى تبتعد عنهم جغرافيا، عبر عضويتهم في تكتلات أخرى، على غرار مجموعة السبع، ومجموعة العشرين، والتي يشتركون فيها مع قوى دولية نافذة، على رأسها الولايات المتحدة، التي تمثل القيادة الفعلية لدول المعسكر الغربي، ناهيك عن كونها في مقدمة الداعمين لإسرائيل، بالإضافة إلى الصين وروسيا وكندا واليابان، وهي قوى معتبرة لديها نفوذ كبير داخل مناطقها الجغرافية.
فلو نظرنا إلى موقف فرنسا، باعتبارها أحد أبرز القوى المؤثرة في صناعة القرار الأوروبي، نجد أن ثمة تغييرا ملموسا في خطاب ماكرون، يتجلى في التصريحات التي أدلى بها خلال لقاءه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث اعتبر أن "حل الدولتين" أحد الأسس المهمة لحل القضية، مشددا على ضرورة عبور المساعدات الإنسانية لغزة وتعد بإرسال سفينة محملة بالمواد الغذائية والإغاثية للقطاع، وإرسال طائرة لمطار العريش، محملة بإمدادات رئيسية، بالإضافة إل تأكيد على أنه من الخطأ استهداف المدنيين في غزة ولا يتوافق مع قواعد القانون الدولي
ويعد حديث ماكرون عن عدم احترام إسرائيل لقواعد القانون الدولي، في إطار العدوان على غزة، تحولا آخر في الموقف الدولي، انتقل فيه الغرب، من مجرد تعزيز الثوابت المرتبطة بالقضية، على النحو سالف الذكر، إلى ما يمكن اعتباره "إدانة" ضمنية للممارسات الوحشية التي ترتكبها سلطات الاحتلال في القطاع.
الإدانة الدولية لإسرائيل ربما كانت أكثر صراحة داخل أروقة الأمم المتحدة، وعلى لسان أمينها العام أنطونيو جوتيريش، والذي لم تقتصر كلماته على مجرد "إدانة" العدوان الحالي، وإنما امتدت إلى ممارسات الاحتلال التي طالت لعقود طويلة، موضحا أن الشعب الفلسطيني يتعرض لاحتلال مستمر منذ أكثر من 75 عاما، ورأوا أراضيهم تلتهمها المستوطنات وتعاني العنف، خُنِقَ اقتصادُهم، ثم نزحوا عن أراضيهم، وهُدمت منازلهم، وتلاشت آمالهم في التوصل إلى حل سياسي لمحنتهم، وهي الكلمات التي نزلت كالصاعقة على دوائر السلطة في إسرائيل، إلى حد مطالبتهم باستقالته.
وهنا يمكننا القول بأن نجاح الدولة المصرية في إدارة الأزمة التي يشهدها قطاع غزة، يتجسد في تضييق الفجوة الكبيرة بين المواقف الدولية المنحازة للاحتلال، من جانب، والمشهد الإقليمي الداعم للحق الفلسطيني من جانب آخر، وهو ما قطع الطريق أمام سلطات الاحتلال لاستغلال التنافر في المواقف لصالحه عبر تصفية القضية، والقضاء على أي أمل في تحقيق أمال الفلسطينيين في بناء دولتهم المنشودة.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع