ساحرتي السبتمبرية بقلم د. نجوى محمد سلام

ساحرتي السبتمبرية بقلم د. نجوى محمد سلام
ساحرتي السبتمبرية بقلم د. نجوى محمد سلام

الآن أدرك لماذا أعشق كتابة الرسائل، أيتها الملهمة التي فجّرت ينابيع المعنى في داخلي، كيف لي أن أصفكِ وقد صرتِ اليوم فكرة تتجاوز حدود الأشخاص؟ أنتِ الآن أكثر من مجرد ذكرى؛ أنتِ وطنٌ أسكنه حين تضيق بي العوالم، وأعود إليه كلما خذلتني الخرائط.  

كنتِ الحاضنة الأولى لبنات أفكاري الهشة، تلك التي كانت تتسرب كالماء بين أصابعي، وكنتِ أنتِ من جمعها في كؤوس الحكمة والصبر. دفعتني حصافتك وفصاحتك  لأرى الحرف كمعجزة، كنافذة أطل منها على نفسي أولاً ثم أنطلق بعدها لمجرات العالم حولي ، وكأنكِ كنتِ تقولين لي: "انظري جيدًا، العالم لوحةٌ لم تكتمل، ولعلك أنت يا فراشتي الحالمة  من سيضع اللمسة الأخيرة."   

أدرك الآن، في ضجيج هذا الزمن الذي يلهث وراء اللامنطق وتغرقه بحور اللامعنى ، أنكِ كنتِ تعلّمينني فنّ الاستثناء بصمتكِ الحكيم. كنتِ تزرعين فيَّ بذور الإدراك دون أن أشعر، تجعلين من كل لحظة عابرة درسًا خفيًا، ومن كل صفحة بيضاء حياةً تنتظر أن تُكتب.  

ساحرتي السبتمبرية، لستِ مجرد أم فقط علمتني في مهدي كتابة يومياتي ، بل فكرةٌ تمتد في داخلي كجذور شجرة عتيقة. علمتني أن الحنين ليس استعادة الماضي، بل استنطاقه ليخبرنا عن الحاضر والمستقبل. أنتِ من زرعتِ فيَّ الإيمان بأن لكل إنسان وطناً داخلياً، وأن أعظم الأوطان هو ذلك الذي يبنيه الحب والخيال والإبداع والأحلام .  

وأنا الآن، بين دفاتري وأحلامي، أدرك أنكِ كنتِ البداية التي قادتني إلى حيث أنا، وأنني مدينةٌ لذلك الحضن الأول الذي فهمني دون كلمات، ورأى في صمتي أفقًا لا ينتهي.

شدّني الحنين للذكريات، فسافرت بين صفحات الماضي، أستعيد طيفاً من نورك الشفيف. نبشتُ دفاتر يومياتي القديمة كمن يحفر في عمق الزمن باحثاً عن كنزٍ مدفون، فاستوقفتني تلك الرسالة الأولى التي كتبتها إليكِ. كنتُ حينها صغيرة ، لم أبلغ بعد الثامنة ، وكنتِ أنتِ عالمي الأول والوحيد ، ذلك الحضن الذي أهداني دفترًا وقلمًا، وكأنكِ كنتِ تقولين لي: "اكتبي يا صغيرتي، فالحرف بابُ النجاة من صخب العالم."  

في كل مرة كانت تنهشني مخالب الحنين لفضفضاتنا اليومية، كنت أهرع إلى ذلك الدفتر، أنثر مشاعري كمن يزرع بذورًا في أرض عطشى. كنتِ تعرفين أن الطفولة لا تستوعب صخب المسؤوليات، لكنكِ كنتِ حاضرة بعينيكِ الذكيتين، تقرئين جوعي الذي لا يُقال، وتوجّهين مسار حديثي نحو ضفاف الإبداع.  

لم أفهم وقتها أنكِ كنتِ تنحتين في داخلي تمثالًا من الجمال، أن كل كلمة كنت أكتبها كانت مرآةً لروحك التي علمتني كيف أرى العالم بعين مختلفة. الآن، وأنا أقلب دفاتر يومياتي عبر السنين، أدرك أن كل حرف كتبته كان صرخة شكر صامتة، وأنكِ كنتِ ملهمتي الأولى، يا وطني الذي علّمني أن الجمال يكمن في التفاصيل، وأن الصمت أحيانًا يكون أبلغ من الكلام. 

د/ نجوى محمد سلام 

( الفراشة الحالمة )