أخبار عاجلة

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (3)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (3)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (3)

 يده تقبض على يدها  ، يخشى أن تفلت منه ، تأملت ميرفت روعة الحديقة المترامية الأطراف التي تحتضن فيلا بيضاء ، تتوه العين بين أرجائها ، تُنبيء عن ذوق التصميم . بجانب أحد أضلاع حمام السباحة ، تجلس سيدة فوق أحد المقاعد الملتفة حول منضدة مستديرة ، أمامها فنجان ممتلئ بالشاي ، لم تخفِ الأمتار الفاصلة بينهما المهابة التي تحيط بوجهها ، جمال هادئ وقور وأناقة متميزة . ابتسمت السيدة ، نظرت إلى عادل وقالت بصوت رقيق :

_ هذه المرة الأولي التي تعود إلينا وفي يدك شيء جميل يا عادل ، اعتدنا أن يصحبك زملاء من الجنس الخشن .

ضحك عادل وقال ونظرة مبتهجة تطل من عينيه :

_ أقدم لك ميرفت يا أمي .. جٌنَّية قفزت من بحور الشعر ، فتلقفتها قبل أن تغوص ثانية .

لم تدر سميحة والدة عادل ما الذي دعاها لأن تنهض ، لتأخذ ميرفت بين ذراعيها وتقبلها .. انجذبت إليها كفراشة نحو الضوء ، قهقه عادل قائلا :

_ يبدو أن هذه الجنية ستأسر قلوب الجميع في غمضة عين .

قالت والدة عادل وهي تحتضن ميرفت بعينيها :

_ لست أدري شيئاً عن بحور الشعر ، ولكن أعتقد أن هناك بحراً يسمي بحر الرقة والجمال ، هو الذي قفزت منه هذه الجنية ..

قالت ميرفت بصوت ممتلئ بشعور حقيقي :

_ إحسست وأنا بين ذراعيكِ يا سيدتي  بأنني في حضن أمي ، بالرغم من أن هذه المرة الأولي التي أتشرف برؤيتكِ .

قال عادل وهو ينفذ بينهما ويحيط خصريهما بذراعيه :

_ حديثكما أثار في نفسي الندم على إحضاري لجنيتي هنا ، تبعثران العواطف بينكما ولا ينالني منها حتى الفتات.

عادت السيدة سميحة لمقعدها وعيناها لا تزالان ترمقان  وجه ميرفت برقة وقالت :

_ لكم تمنيت أن أنجب ابنة مثلك .

تولى  عادل الأجابة ضاحكا:

_ إذاً اشكريني يا أمي فلقد حققت لك أمنيتك .

_ لست أنا وحدي الذي سأشكرك.. عندما يعود والدك بعد قليل ، ويشاهد جنيتك التي قفزت من بحور الشعر سيشكرك أيضا . تطلعت والدة عادل إلى السماء وبدا على وجهها ابتسامة رائعة هي صدى لذكريات جميلة ، نظرت إلى ميرفت ووجهها لا يزال يحمل نفس الابتسامة .. رحل عقلها للماضي تلتمس حلاوته في كل مناسبة وقالت :

 هل تعلمين أنني تقابلت مع الدكتور عزيز علوي ، بنفس أسلوب تعارفكما  .. ليلتها كنت في عرس ابنة عمتي وكان هو صديق لإخيها .. في وسط الزحام التقت أعيننا ، سار كلانا نحو الآخر وكأننا في حلم ، أمسك بيدي وهمس في أذني :

_ لا أرى أي ثقب في السقف ، من أين هبطت يا ملاكي الجميل .. انتظرتك طويلا ، لم أكن أعلم أن موعدي معك هذه اللحظة التي ستكون عنواناً لحياتي القادمة ، ما قرأه داخل عيني كان فيه الكفاية ، أمسك بيدي قائلا : هذا الحفل لا يهم سوى العروسين فدعينا نستنشق نسمات الحب الوليد في هواء الحديقة . لم نتحدث كثيرا، لم نكن في حاجة للحديث ، في نفس الليلة خطبني عزيز ، أجمل أمنية أهداها لي القدر الذي لم يلق علينا سوى بثوب السعادة ، أنجبنا سامي الذي يدرس دكتوراه في الطب في أمريكا ثم عادل ، أمنيتي التي لم تتحقق في أن أنجب ابنة ، أبى أن يحرمني القدر منها ، وأرسلك إلى عادل لتكوني ابنتي التي انتظرتها .

كادت دموع السعادة تقفز من عيني ميرفت ، لا تصدق ما حدث .. كالحلم خفق قلبها لعادل .. كالحلم وجدت نفسها في حضن أمه الدافئ ، ليعوضها عن حضن أمها التي فقدتها ، لتعيش وحيدة مع أبيها الكاتب الكبير ناجي عنايت . رفض الزواج ثانية من أجلها ، كان لها كل شيء . اكتملت سعادة عادل ، الكاتب ناجي عنايت الذي يعشق قلمه ، هو والد فتاته التي كان يحلم بها،  فقفزت أمامه كجنية من بحور الشعر كما أطلق عليها .

 

*********

       لا يصدق أحد أن هذا القصر الذي يشبه قصور السلاطين ملكاً لجاد الكومي ، أو المعلم جاد النقاش كما أطلق عليه أهل الشارع سابقا ، أو جاد بك الآن . انفرج فم جاد بك عن ابتسامة عائمة وبدا ركنا شفتيه كقطبي مغناطيس متنافرين ، أحدهما يجنح نحو العظمة والمباهاة ، والآخر يجنح نحو الذل والهوان ، عظمة ومباهاة بما خلفِهما من ثروة لا تحصى ولا تعد ، وذل وهوان وخلفهما قصة بدأت برحيله عن قريته .

 رحل جاد الكومى ذات ليلة في سكون وصمت عن قريته التي ولد وتربي بها في صعيد مصر . لم تخطو قدماه خارجها منذ ولادته ، حتى تلك الليلة التي خرج فيها كالعادة وهم يظنون أنه ذاهب لمقهى القرية . انحرف عن طريقه اليومي ليسلك الطريق المؤدي لمحطة القطار ، لا يشغل رأسه سوى كيفية الوصول للقاهرة . يكتسحه شعور هيمن على عقله تماماً بأنه يجب أن ينسلخ عن جلده كما ينسلخ الثعبان . خلبت لبه مناظر القاهرة ونسائها والعيش بها ، طالما حلم بها عقب مشاهدته لأفلام الفيديو . اتخذ قراره بترك زوجته وطفليه وأرضه وأبيه وأمه ، دون أن يحرك هذا القرار نبضة واحدة من نبضات قلبه . تضافرت عليه أنانيته وكبت أبيه وزوجته المهملة في نفسها ، ترى في الماء وباء يمكن أن يقتلها ، لا تقربه من جسدها إلا إذا زجرها . كل هذا دفعه لأن يلقي بكل شيء خلفه . هرب من القرية بجلبابه الذي لم يكن يمتلك غيره ، وبضعة جنيهات جمع بعضها من لعب الورق على المقهى والبعض الآخر كان يختلسه من أبيه الذي كان يوكل إليه بيع محصول البرسيم . كان عليه أن يتدبر أمره للمعيشة بالقاهرة بما يتبقى بعد أن ينتقص منه ثمن تذكرة القطار بعربة من عربات الدرجة الثالثة . دوت دقات قلبه مع صفير القطار ، هذه هي المرة الأولى التي ستطأ قدماه هذه المركبة ، كان يراها من بعيد تتلوى كالثعبان على القضبان وهو يعمل في الأرض ويحسد من بداخلها . دلف إلى إحدى عربات الدرجة الثالثة ، القطار بأكمله مخصص لنقل ركاب الدرجة الثالثة فقط ، يتلكأ في سيره ويقف علي كل مركز ليتلقف بعض الركاب في جوفه ضاربا بالوقت عرض الحائط ليقطع المسافة إلى القاهرة في اثنتي عشرة ساعة . لم يكن يتخيل أنه سيجد هذه الحياة الكاملة داخل العربة ، لا ينقصها سوى بعض الأَسرةِ صنعت من جريد النخيل ، لتتحول إلى بيت متحرك كبيوت القرية التي تركها خلفه ، كل شيء داخل العربة يعطيه إحساس بأنه لم يترك القرية بعد .  موقد الجاز الذي وضع فوقه بكرج ( إبريق ) تنطلق منه أبخرة تحمل رائحة الشاي المغلي ، التف حوله في جلسة أرضية زمرة من المسافرين يقطعون الوقت في دردشة ساذجة ، لتنطلق بين الوقت والآخر ضحكات أكثر سذاجة ، مثيرين عداوة صامتة بينهم وبين بائع الشاي المتجول . في زاوية أخرى تربع مسافران أرضا وأمامهم قفة مملوءة بأعواد القصب ، تم تجزئته حتى يمكن حشره داخل القفة ، تمتد أيديهم في حركة مستمرة لتلتقط عُقله من داخل القفة يعملون فيها أسنانهم ، ليضيفوا طبقة أخري من القشور التي استنزفت عصيرها لأخر قطرة . منزل قروي متحرك حتى في نوافذه الغائبة أو المُهشمة أجزائها ، تزف الهواء المحمل بالأتربة داخل العربة ، تكسب فتحتي الأنف للمسافرين شكلا يشبه فوهات المداخن ، روائح مختلطة لأطعمة شعبية تندمج مع بعضها ، يكون ناتجها رائحة مشتركة تتفتح لها الشهية بالرغم من بساطتها . ابتسم جاد وقد خاب أمله في أن تبدأ رحلته بشيء يختلف عن القرية وما فيها ، بدرت منه أول بادرة ذكاء كان مستتراً خلف جدران فرضتها عليه العقول الضيقة التي كان يتعامل معها في قريته ،  حينما ابتسم للنصاب الذي يجلس بجانبه وقد قادته حاسته إلى جاد ، يظن فيه سذاجة القرويين ، لعبته انكشفت من اللحظة الأولى ، فضل الفرار قبل أن يتجمهر المسافرون عندما ارتفع صوت جاد قائلا:

_ لا أملك سوي الجلباب الذي أرتديه ، فهل تريد أن أخلعه لك ولن تجد به سوي بضعة قروش .

 اِثنتا عشرة ساعة ونصف استغرقتها الرحلة للقاهرة ، لم يغمض له جفن ، تنازعته الأفكار بين الحقيقة التي خلفها وراءه ، والمجهول الذي ينتظره ، وبدا وهو يهرول تائها على رصيف المحطة  كجمل انسل من وسط القطيع في شوارع المدينة . 

***********

بدأ القلق ينتفخ داخل سليم ، ينتظر فاضل الحلاق حتى ينتهي من الزبون الذي بكر في الحضور ، قطع عليه حبل الحديث الذي غاص فيه حتى أذنيه مع فاضل . آنس لفاضل وأصبحت قصة عشقه لناديه مشتركة بينهما ، لم يدر لماذا أحس براحة نحو فاضل أكثر من باقي جيرانه ، ربما لتقارب السن بينهما ففاضل يكبره بثمانية أعوام فقط ، وقد يكون لبعض التعليم الذي ناله بحمله لشهادة متوسطة . السبب الأرجح أنه كان يرى فيه المتعاطف الوحيد مع ناديه مع كل جولة من جولات الهجوم على سلوكها، يفتتحها عطوة الجزار وتنتقل إلى فتوح ثم منصور ،  يُهدأ فاضل من سعيرها ، تصل إلى عطوه ثانية فتزداد اشتعالا . كان يجلس صامتاً يشعر بسهامهم المسمومة التي يطلقونها على شرفها تصيب كبده ، يكظُم غيظه حتى لا يفطن أحد منهم إلى ولعه المستتر بها . بعض الارتياح وهو يرمق فاضل وقد انفض من زبون الصباح عائداً لمقعده بجانبه .

قال سليم والقلق ينبض مع كلماته .

_ لماذا تأخرت ؟

أجاب فاضل مازحا .

_ ماذا ترى ؟ هل كنت تريدني أطلب من الرجل أن يعود في يوم آخر لأكُمل له قص شعره ..

_ ليس بالضبط ، لكنك استغرقت وقت يكفي لقص رأسين .

قال فاضل ضاحكا :

_ في هذه عندك الحق .. فالرجل لا يوجد برأسه أكثر من عشر شعرات ويظن أن الحلاق قادر أن يملأ بهم رأسه !!

قال سليم متلهفا ليواصل ما انقطع من الحديث عن ناديه :

_ دعنا من الرأس العارية ولنعد إلى حديثنا .

سأل فاضل وهو يتأمل وجه سليم بعطف :

_ أين انتهينا ؟

_ لقد توقف الحديث عند إشارتك بأن أقتحمها وأعرض عليها حبي ، وقلت لك بأن الحب يعقبه الزواج فهل أعرض عليها الزواج أيضا .

قال فاضل ناصحاً:

_ مسألة الزواج هذه تعود إليك.. يجب أن تعرف كل شيء عنها ، الزواج يا صديقي ليس بالأمر الهين.

قال سليم والقلق يساوره :

_ ماذا تقصد ؟ !!

قال فاضل وهو ينظر للأرض :

_ إن بعد الظن أثم.. لكنهم يقولون أن الثراء الذي يسبحون فيه الآن ، حصيلة السلوك المعوج للأم ، وللأسف تمادت الشائعات في أن كل شيء كان يتم تحت سمع وبصر الزوج !!

سأل سليم وأمل يراوده أن يستمع لإجابة بالنفي :

_ هل تصدق هذا ؟

أجاب فاضل هارباً من قول قد يؤلم سليم :

_ الله أعلم .. بدأت الحديث بقولي إن بعد الظن إثم .

سأل سليم وقد لمس في فاضل حرصه على أن يكون محايداً :

_ وماذا أيضا عنهم ؟ ..

_ هل تعلم أن ناديه في السنة النهائية بمعهد السينما ؟ يقولون أنها تعمل الآن في الإعلانات ، ولست أعلم إذا كان يناسبك وضعها هذا كزوجة أم لا .

.. قال سليم بصوت يعلن عن الدهشة ، أقلقته صعوبة جديدة اعترضت طريقه:

_ هذه المرة الأولي التي تقفز هذه الحقيقة أمامي ، كنت أظنها تدرس في إحدى كليات الجامعة

_ أُقدر ما أنت فيه ، لاحظتك منذ اليوم الأول ولمحت قلبك وهو يعدو خلفها ، ألهاك هذا عن السؤال عنها ، كنت أشاهد الضيق  يقهر وجهك عندما كنت تسمع أحد يخوض في سيرتها .

قال سليم وكأنه يستنجد برأيه :

_ أشعر بثقة كبيرة وارتياح نحوك يا فاضل ، بماذا تنصحني ؟

قال فاضل ضاحكا ليدفع  الجرأة إلى داخله .

_ هل سمعت عن المثل العامي الذي يقول.. "أقطع عرق وسيح دم" .. هذا هو المطلوب منك ، المجابهة .. قابلها وناوش قلبها ، إذا استجابت ، من السهل بعد ذلك أن تتخذ الخطوة التالية. أسألها أن توضح لك كل شيء بصراحة . وإذا لم تستجب عد إلى مقعدك واقنع بالتغزل في عطوه الجزار .

سأل سليم حائراً :

_ كيف سيتم هذا وقد اختفت منذ يومين ؟ .

_ لا أعتقد أنك بهذه السذاجة .. الحل سهل ، إن لم تظهر خلال الأيام القادمة ، اذهب إلى معهد السينما ، وإن صعبت عليك مقابلتها هناك ، سأبذل جهدي لكي أحصل لك على عنوانها الجديد ، بعدها أعتقد أنك ستعرف كيف توجه قدميك للخطوة التالية .

_ سأعمل بنصيحتك يا فاضل ، أشكرك على ما أبديته نحوي من تعاون .

قال فاضل وهو يعبر الشارع عائداً إلى مجلسه أمام الدكان :

_ أتمني لك التوفيق وانتظر أخباراً سعيدة.

 

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************