" وتعرفون الحق والحق يحرركم ...."
(يو8 :23)
إن جذور حركة حقوق الانسان ، ممتدة على مدى التاريخ الإنساني، وهي ليس اختراعاً حديثاً، وقد مرت بمراحل تطور عديدة ، منذ بدء قيام الحضارات القديمة ، حتى ظهور الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
تلمسّنا في القسم الأول من هذه المقالة، بعضاً من حقوق الانسان في الحضارات القديمة التي قامت وازدهرت في الشرق الأوسط بقدر ما سمح به المجال، ونتابع في هذا القسم الحديث عن حقوق الانسان ، وصولاً إلى العصر الحاضر .....
المسيحية وحقوق الانسان
المسيحية ليست فلسفة أو نظرية سياسية ، بل هي حياة ورسالة ظهرت في سوريا، وانتشرت بسرعة في أنحاء الابراطورية الرومانية وغيرها من بقاع العالم . وهي تدعو إلى إقامة العدل والمساواة بين الناس بصرف النظر عن الفوارق الاجتماعية. ومع أن المسيحية لم تحمل فكراً سياسياً محدداً إلاّ أنّها دعت إلى الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية أو الزمنية ، وقد قال السيد المسيح : " مملكتي ليست من هذا العالم " كما قال : أعطوا ما لقيصر القيصر ، وما لله لله ".
وقد كان للمسيحية فضل إقرار مبدأ فصل السلطات .
كان أساس الرسالة المسيحية المحبة، محبة الله ومحبة الانسان والمحبة الواحدة تفترض الأخرى. والله نفسه محبة ، وبالمحبة جعل المسيحيون الانسانية عائلة واحدة، وكان اليونانيون والرومان يفكرون بالانسانية وحقوق الانسان على أساس القومية، بينما المسيحيون السوريون ، كانوا أول من أعطى العالم نظرية عالمية فعّالة و كانت هذه الديانة في جميع تعاليمها ، تؤكد على واجب تكريس الانسان نفسه لله ، بصورة لا تعرف الأنانية ، وعلى خدمة الإنسانية.
ولم تتخذ المسيحية من العقائد الهلنستية المحبة كفلسفتها الأساسية، والمدرسة الرواقية التي أسسها الفيلسوف السوري زينون الرواقي Zene of Citiam حاولت السير في هذا الاتجاه .
ولم تعلّم أية عقيدة سابقة ، بأن هناك إلهاً فادياً ، يهتم بكل أفراد الجنس البشري، وقبل المسيح لم توجد أية ديانة ، ربطت بفعالية بين الدين والأخلاق.
وقد اهتمت المسيحية منذ ظهورها بحقوق الانسان ،وحرياته الأساسية . وقد أكدت على كرامة الإنسان ، واعتبرت الانسان قد خُلق على صورة الله . . وتقديس حياة الانسان بصفة عامة ، بغضّ النظر عن جنسه ولونه وعرقه ، ومن هذا المنطلق ساعدت المسيحية على إرساء قواعد المحبة والسلام والتعاون بين البشر.
ويقول الفيلسوف الفرنسي برغسون Bergson في كتابه (مصدر الدين والاخلاق ) ان المسيحية قد تضمنت في تعاليمها المساواة في الحقوق ، واحترام الشخصية البشرية ، وانها قد أسهمت بعد تسعة عشر قرناً من الجهود إلى إعلان حقوق الانسان كما قرّرت الكنيسة أن الناس متساوون أمام الله ، ودافعت عن الفقراء والمستضعفين، حيث وعدهم السيد المسيح بمملكة السماء Kingdom of Heaven
حقوق الانسان في العصور الوسطى
العصور الوسطى هي الحقيبة التاريخية الواقعة بين العصور القديمة، وعصر النهضة الأوروبية Renaissance وقد دامت نحو عشرة قرون، وهي تبدأ منذ انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية وسقوط روما بين البرابرة عام (476) وانتهت باكتشاف القارة الأمريكية عام (1492)
تميّزت العصور الوسطى بهيمنة الكنيسة ورجال الدين في أوروبا على المجتمع، وتحولها إلى سلطة دنيوية ، فوق الملوك والحكومات . وفي هذه العصور بدأ تكوين النظام الاقطاعي في أوروبا، حيث كانت علاقة الفلاحين بأصحاب الأرض الاقطاعيين ، تقترب من صورة العبودية.
وتتمثل حقوق الانسان في العصور الوسطى، بعدد من الوثائق، التي صدرت في عدة دول غربية. ويمكن الإشارة إلى أهم هذه الوثائق مثل (العهد الأعظم Magna Carta) الصادر في عام (1215) الذي فرضه أمراء الاقطاع على الملك جون John Lackland للحّد من سلطانة ، وهو يحتوي على أفكار أساسية، فما يتعلق بحق الملكية والتقاضي وضمان الحرية الشخصية ، وحرية التنقل والتجارة، وعدم فرض ضرائب بدون موافقة البرلمان. وقد كان للماجنا كارتا أثرها البعيد في انكلترا وسائر أنحاء اوروبا.
حقوق الانسان في عصر النهضة الأوروبية
ظهرت النهضة في أوروبا منذ النصف الأول من القرن الخامس عشر الى نهاية القرن السادس عشر. وقد تميز هذا العصر ، بتضاؤل سلطة الكنيسة ورجال الدين، وقيام الأنظمة الملكية القوية في أوروبا والسلطة المطلقة للملوك . ثم ظهور اتجاهات فكرية عديدة تناصر سلطة الملوك المطلقة. أمّا حقوق وحريات الافراد فإنه لم يطرأ عليها تطوير يُذكر ، إذ أن انتهاء سيطرة الكنيسة وهيمنة رجال الدين والاقطاع ، حل محله طغيان واستبداد الأنظمة الملكية.
وشهد عصر النهضة ظهور حركات فكرية قوية ، ضد استبداد الملوك ، والمطالبة بحقوق الافراد وحرياتهم، وظهور أفكار جديدة، حول نشأة الدولة والسيادة . حيث باتت السيادة ذات طبيعة إنسانية، وليست دينية. وان الشعب هو صاحب السيادة وليس الحاكم، الذي يُعدّ مُكلفاً ومفوضاً من الشعب. وقد قامت ثورات من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان في دول عديدة منها
بريطانيا (1688) وأمريكا ضد الحكم البريطاني ( 1775) وفي عام ( 1789 ) قامت الثورة الفرنسية التي أعلنت مبادئ الحرية والعدالة والمساواة والتي لم يقتصر تأثيرها على فرنسا وحدها، بل كان أثرها كبيراً في كل أنحاء أوروبا والعالم.
حقوق الانسان في العصر الحديث
في العصر الحديث دخلت حقوق الانسان في مرحلة جديدة من مراحل تطورها ، وهي المرحلة الدولية، التي أصبحت فيها مواضيع حقوق الانسان تأخذ طابعاً دولياً ، بعد أن كانت داخلية بحتة، وتزامنت مع حدوث الحرب العالمية الأولى، وتأسيس عصبة الأمم التي تناولت في ميثاقها بنوداً تخصّ حقوق الإنسان ، وبعد ذلك حدوث الحرب العالمية الثانية، وتأسيس منظمة الأمم المتحدة United Nations وصدور ميثاقها الذي أشار في فقرات عديدة ، وأكد على احترام وتعزيز وحماية حقوق الانسان.
ولو عدنا إلى التاريخ لوحدنا أن شرعة حقوق الانسان Bill of Right التي صدرت في انكلترا عالم (1689) التي أكدت على عدم احقية الملك في إيقاف القوانين ، أو الاعفاء من تطبيقها، وقد أعطت المواطنين حق تقديم العرائض والالتماسات إلى الملك، دون أن يترتب على ذلك أي ضرر لهم كالملاحقة والسجن.
وفي عام (1776) صدر إعلان الاستقلال الأمريكي ، عقب استقلال الولايات المتحدة عن انكلترا ، وقد أكد هذا الإعلان على مبدأ حرية البشر ، وتأصيل حقوق الانسان. لدى جميع البشر بمجرد الميلاد، ودون قید او شرط.
أما في فرنسا فقد صدر إعلان حقوة الإنسان في عام (1789) عقب اندلاع الثورة الفرنسية ، وهو يختلف عن كل الوثائق السابقة، لأنه أول وثيقة تهتم بحقوق الانسان، وتأخذ البعد العالمي، حيث تجاوز تأثيرها حدود فرنسا، وأصبح ركيزة أساسية في كل الدساتير التي كُتبت بعد ذلك ، وقد أكدت على الحرية والمساواة في الحقوق وحرية الرأي والتعبير، وحق المواطنين في ادارة بلادهم ، والتوازن بين حقوق الافراد ومصلحة المجتمع والمصلحة العامة.
وبعد تحرر الولايات المتحدة من الحكم البريطاني ( 1775) وإعلان الاستقلال. أكد دستور الولايات المتحدة الصادر في عام (1879 ) على حقوق الانسان .
الاعلان العالمي لحقوق الانسان
تحولت فكرة حقوق الانسان وشرحها والدفاع عنها تدريجياً الى قواعد مكتوبة، ويُعد ميثاق هيئة الأمم المتحدة، الأول من نوعه الذي يهتم بشكل واسع بحقوق الانسان، وتكمن قوة الاعلان العالمي لحقوق الانسان في الأفكار القادرة على تغيير العالم . إنه يلهمنا كي نواصل العمل لضمان تمتع جميع الشعوب بالحرية والمساواة والكرامة .
والاعلان العالمي لحقوق الانسان وثيقة بارزة، شكّلت إنجازاً كبيراً في تاريخ حقوق الانسان . وقد صاغه ممثلون من خلفيات ثقافية مختلفة ، أتوا من جميع أنحاء العالم . وهو ينصّ للمرة الأولى على حقوق الانسان الأساسية ، التي يجب حمايتها على المستوى العالمي. وقد تُرجمت هذه الوثيقة إلى أكبر عدد من اللغات في العالم، أي الى نحو (500) لغة.
لمحة عن بنود الاعلان العالمي لحقوق الانسان
ان كل المراحل التي مرت بها حقوق الانسان ، مهّدت لجعلها محوراً عالمياً ، تلتف حوله الشعوب ، وقد ظهر ذلك جلياً في صياغة ميثاق الأمم المتحدة في مدينة سان فرنسيسكو عام (1945) هذا الميثاق مهد لصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان في (10 كانون الأول / ديسمبر من عام 1948) ومن بعض ما جاء في مواده الثلاثين بايجاز :
- يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق.
- لكل فرد الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه.
- يُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صوره.
- لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة الكاسية.
- الناس جميعاً سواسية أمام القانون، والتمتع بحماية القانون.
- لكل شخص الحق في اللجوء إلى المحاكم لإنصافه.
- لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسّفاً.
- لا يجوز التدخل في حياة الإنسان الشخصية.
- لکل فرد حرية التنقل في بلده، ومغادرته والعودة إليه.
- لكل فرد حق التماس ملجأ في بلدان أخرى تخلصاً من الاضطهاد.
- لا يجوز حرمان أي شخص من جنسيته، ومن حقه في تغيرها.
- للرجل والمرأة حق الزواج ولا اكراه فيه.
- لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير.
- لكل شخص حق العمل واختيار عمله .
- لكل شخص حق في التعليم.
- لكل شخص حق في مستوى معيشة ، يكفي لضمان الصحة والرفاهية له ولا سرته ..
إن هذا الاعلان هو علامة فاصلة في تاريخ البشرية كکل، و هو يتمم كل جهود الفلاسفة والمفكرين و المناضلين من أجل حقوق الانسان في اتفاقات دولية ملزمة ، تضع كرامة الإنسان وحقوقه فوق كل اعتبار.