المسحراتى فى المجتمعات العربية، شخصية تراثية صنعها رمضان د. سهام عبد الباقى محمد

المسحراتى فى المجتمعات العربية، شخصية تراثية صنعها رمضان د. سهام عبد الباقى محمد
المسحراتى فى المجتمعات العربية، شخصية تراثية صنعها رمضان د. سهام عبد الباقى محمد
اشتهر المسحراتى فى كافة المجتمعات الاسلامية لا سيما العربية وارتبط تواجده بشهر رمضان المبارك وتتعدد الروايات الخاصة بأول ظهور للمسحراتى،فهناك من أرجعها إلى الرسول صلى الله علية وسلم،الذى طلب من بلال بن رباح بأن يوقظ المسلمين فى شهر رمضان ليتسحروا،ومنهم من أرجعها إلى العصر الفاطمي لتتوالى من بعدهم على مر العصور، ورغم إختلاف الروايات وتعددها حول أول ظهور للمسحراتى،تظل تلك الشخصية التراثية حاضرة فى كافة المجتمعات وتعكس جانب هام من طقوس الشهر الكريم والاحتفال به على المستوى الشعبى.
وكلمة مسحراتي فى المعاجم العربية،إسم وجمعها مسحراتية،وهو لفظ يٌطلق على من يقوم بإيقاظ الناس لتناول السحور خلال شهر رمضان وقد اشتٌق لفظ مسحراتى من كلمة سَحَر، وتعنى آخر الليل قبل أذان الفجر لذا يبدأ المسحراتى بمٌباشرة مٌهمة إيقاظ الناس قبل أذان الفجر بحوالى ساعتين ليترك لهم الوقت الكافى لتناول سحورهم والاستعداد لصلاة الفجر. ويعد أول ظهور للمسحراتى فى  مصر كان في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أصدر أمراً بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح فكان البديل أن يقوم الجنود بإيقاظ النيام بالدق على أبواب البيوت بالعصا ليتسحروا.وأول من قام بإيقاظ الناس للسحور هو الوالى "عنبسة ابن اسحاق" سنة 228 ه فكان يسير على قدميه من مدينة العسكر فى الفسطاط حتى مسجد عمرو بن العاص متطوعا،منادياً "عباد الله تسحروا،فإن فى السحور بركة".لذا حظيت مهنة المسحراتى فى مصر باحترام وتقدير شعبى بعد أن قام بها الوالى بنفسه، ثم اعتمد المسحراتى فى إيقاظ المصريين على الطبلة مع ترديد بعض الأناشيد والإبتهالات والقصص الشعبية كحكايات ألف ليلة وليلة، وأبو زيد الهلالي،وعلي الزيبق. وفى العصر المملوكى تولى مهنة المسحراتى "ابن نقطة"، وكان المسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد ابن قلاوون ،وكان شيخ طائفة المسحراتية في عصره وصاحب فن "القومة"، وهي الإبتهالات والاناشيد الدينية وفى عهد الدولة الطولونية ظهر العنصر النسائى كمسحراتى فكانت النسوة تقفن خلف الشباك تنشددن وترددن الأدعية الدينية بصوت عال ليسمعها الجيران فيستيقظوا ليتسحروا، وفي العصر الحديث كانت النساء تضعن نقوداً معدنية داخل ورقة ملفوفة وتشعلن طرفها، ثم تلقين بها من المشربية إلى المسحراتي حتى يرى موضعها فينشد لهن.وقد اشتهر المسحراتى المصرى بلبس الجلباب المصرى الذى يعكس هويته الوطنية والطاقية البيضاء والبٌلغة المصرية حاملاً طبلته بشكلها المتعارف علية ممسكاً بقطعة خشبية صغيرة مستخدماً إياها فى الطرق والنقر على الطبلة ليصل صوته إلى  الناس، وكان لا بد أن يمتاز بحٌسن الصوت، وحفظ العديد من القصص والسير الشعبية ليرويها أثناء طوافة على البيوت، ومروره بالطرقات،مع بعض الحكم والمواعظ بأهمية فعل الخير وترك الشر، والمنكرات،والتعبد والتبتل، والتقرب إلى الله .
وكان لكل منطقة أو حى مسحراتى خاص بها وكان غالبيتهم يمرون قبل رمضان على البيوت ليكتبوا أسماء الناس على حوائط بيوتهم لينادوا عليهم باسمائهم لإيقاظهم، كما كان ينادى على الأطفال تحفيزاً لهم على إنتظاره ومقاومة النوم ليتمكنوا من السحور،الذى يمد أجسادهم الصغيرة بالطاقة اللازمة للصوم ،فكان بذلك يقوم بدور تربوى،وإجتماعى، لذا حظيت تلك الشخصية بحب شعبى كبير من الكبير والصغير، لما بينها وبين الناس من معرفة، ومودة كما كان كثيراً ما يأتى شهر رمضان فى الشتاء القارص ورغم ذلك لم يكن هذا البرد ليمنع المسحراتى من إيقاظ الناس ولهذا أحبة الناس وبادلوه مشاعر المودة والمحبة، وكان غالباً لا يكتفى المسحراتى بمهنته لأنها موسمية ترتبط بالشهر الكريم فقط، لذا كان ينخرط  طيلة العام فى أنشطة اقتصادية متنوعة كالزراعة، التجارة، الصناعة المعمار.......الخ. فإذا ما أتى العيد يطرق المسحراتى الأبواب ليتقاضى أجرة من أهل الحى،أو المنطقة اللذين حرص على إيقاظهم طيلة شهر كامل، وغالباً ما كانت تتراوح أجرته ما بين كعك العيد ،أو بعض الحلوى ،أو عيدية وكان الناس يجزلون له العطاء تقديراً لجهوده المبذولة ويصافحونه ويهنئنونه بالعيد. كما ظهر المسحراتي حاليا بملابس محاطة باضاءات جميلة متجولا فى الشوارع والاحياء جاذبا بصوته وصياحه الجميع كبارا وصغار ، وفى مظهر يعكس الوحدة الوطنية والترابط بين  أهل مصر مسيحيهم ومسلميهم ظهر لنا المسحراتي المسيحى الذى يسعي لايقاظ اخوانه  وأهل منطقته ليتناولوا السحور كما لا تخلو بيوت المسيحيين والمسلمين فى مصر من الفوانيس وزينة رمضان  التى يعلقها معها المسلمين والمسيحين فى اجواء احتفالية تعكس المحبة   والصلات الانسانية المتجذرة بين شعبها بشتى انتمائاته الدينية عبر العصور ولا تخلوا موائد المسلمين والمسيحيين أيضا من  من الأكلات الرمضانية الجميلة التى تعكس قوة الثقافة  المصرية ووحدة شعبها  التى ينصهر فيها الجميع فى بوتقتها
 ويعرف المسحراتى ببلاد المغرب بإسم "النفار" ماخوذة من نفر لأنه يقوم بالنفخ على آلة النفخ النحاسية الطويلة الشهيرة، والتى ما زالت موجودة بين أهل القرى والأحياء الشعبية، بينما يعرف المسحراتى فى لبنان"بالطبال" ويرتدى الملابس التقليدية والزى الشعبى اللبنانى ممثلاً فى العباءة أو الدشداشة البيضاء، مستخدماً الطبلة .وفي تركيا يطلق على المسحراتى اسم "الضافونجو" كما تقيم البلدية مسابقات فنية لاختيار المسحراتى على أساس براعته فى قرع الطبول والأناشيد المسجوعة لتحفيز النيام على الاستيقاظ وقت السحور ويتشابة المسحراتى فى كافة المجتمعات العربية الاسلامية بحرصة على ارتداء الملابس التراثية بمجتمعه والنقر على طبلته، كما ان عباراته تكاد تكون واحدة فى مضمونها فى كافة المجتمعات وان اختلفت اللهجات  كما أن مهنة المسحراتى من المهن التقليدية التى يتوارثها الابناء عن الأجداد وبفعل عوامل التطور اختفت تلك الشخصية فى المدن والعواصم،لكنها لا تزال حاضرة فى القرى والأحياء الشعبية التى تتميز بالمحافظة على آصالتا وتمسكها بعاداتها وتراثها الثقافى.  وسيظل المسحراتي شخصية رمضان المحورية سواء استمر وجوده ام اختفي مع الايام لكنه سيظل حاضرا حضورا قويا فى تراثنا الشعبي ووجداننا الجمعي حيث كان ظهوره جزء اساسيا من تقاليد رمضان المبارك وكل عام ورمضانكم مبارك .
 
* د. سهام عبد الباقى محمد
رئيس قسم التاريخ والاثار
 بالجامعة الاسلامية بولاية منيسوتا الامريكية الفرع الرئيسي