مع قدر غير قليل من التبسيط فإن التقدم الذى جرى فى كثير من بلدان العالم كان محصلة عاملين: الأول تحقيق تراكم رأسمالى كبير وفارق فى تاريخ الدولة فتزداد رؤوس الأموال المستثمرة، وتتزايد الأصول العامة والخاصة، وتتراجع البطالة ويتقدم التشغيل بأجور تحقق فائضا فى المعيشة يسمح بقدر من الرفاهية.
والثانى قدرة الشعوب على التحمل والصبر خلال المرحلة الانتقالية التى عادة لا يمكنها تحقيق الهدف السابق إلا من خلال العائد من العمل الذى يذهب بعد ذلك إلى استثمارات جديدة تضيف للأجيال الحالية، وتوفر فرصًا للأجيال المقبلة.
فى بعض البلدان فإن الانخراط فى السعى إلى التقدم يأتى بعد كارثة قومية كبرى تركت الدولة فى حالة من الحطام الكامل؛ وربما كانت ألمانيا واليابان مثالين واضحين حيث انتهت الأولى إلى تقسيم البلاد، والثانية جرى ضرب مدينتين كاملتين بالقنابل الذرية، أما بقية المدن، فقد كان خرابها غير القليل بالقنابل التقليدية. العودة إلى أدب هذه المرحلة فى الدولتين يشير إلى حالة مهينة من الإرهاق الاجتماعى، والضغط السياسى، والفقر الاقتصادى. لم تمض عشر سنوات إلا وكانت الدولتان فى حالة من الانتعاش، ولم تمر عقود قليلة أخرى حتى توحدت ألمانيا مرة أخرى، وأصبحت القوة الاقتصادية الأولى فى أوروبا؛ أما الثانية فباتت القوة الاقتصادية الثانية فى العالم قبل صعود الصين، والآن الثالثة بعدها. ومع ذلك فإن فى تاريخ الدولتين ما يجعل هذا الصعود السريع ليس فقط راجعا إلى التحمل والصبر الشديد، وإنما لأن كلتيهما كانت قبل الحرب قد حققت أهدافا كبرى فى التعليم والصحة والقدرات الصناعية والعلمية والتكنولوجية. كانت المسألة هى وضع الخطط وتنفيذها بالنسبة لهذه الطاقات؛ ورغم أن الدولتين أصبحتا من الدول الديمقراطية، فإن ممارستها فى كلتيهما حافظت على درجات عالية من الاستقرار السياسى والاجتماعى.
... ولكن ما جرى فى الدولتين لا يصدُق على دولتين من دول العالم الثالث بمواصفاتها التعليمية والصناعية كما كانت كوريا الجنوبية وفيتنام؛ فالأولى مرت فى حرب ساخنة مدمرة فى بداية الخمسينيات من القرن الماضى، والثانية عاشت حروبا خلال ذات العقد مع فرنسا، ثم فى الستينيات والنصف الأول من السبعينيات من ذات القرن مع الولايات المتحدة. قبل ربع قرن من نهاية الحرب الكورية أصبحت كوريا الجنوبية من الدول البازغة، ثم صارت قبل نهاية القرن من الدول الصناعية الكبرى؛ وبعد عقدين من الحرب الفيتنامية الطاحنة أصبحت فيتنام من الدول البازغة، والدول متسارعة النمو، والآن فإنها من الدول القريبة من التقدم.
ما جمع الدول الأربع- غير مدى تعرضها لكوارث قومية كبرى- كان القدرة الهائلة على الصبر والتحمل، واعتماد نظام سياسى منضبط ونظام السوق الحرة كنظام اقتصادى، والإنتاج من أجل التصدير للسوق العالمية، واتباع منهج فى السياسة الخارجية والأمن القومى قائم على «الكمون الاستراتيجى» وعدم التدخل إلا فى الأمور التى تمس الحدود مباشرة.
كثير من دول العالم الأخرى لم يمر بهذه الكوارث من حروب مباشرة، الاستعمار كان مرحلة فى تاريخ العالم ومع النصف الثانى من القرن العشرين كان قد ولى، وراح، وبعد الاستقلال بعقود بات على الدول أن تتحمل مسؤولياتها بنفسها، وكان المثالين الصينى والهندى درسًا فى تحقيق التراكم الرأسمالى؛ ودرسا آخر فى القدرة على الصبر والتحمل. ورغم التقدم الكبير الذى حققته الدولتان، فإن مئات من الملايين فيهما لا تزال قيد الفقر، لأن كلتيهما لا تريد لمناطق التقدم فيهما، والتى تتوسع بشكل مضطرد أن تتأثر سلبا وتحرم من فوائد ما حققته من تراكم. وعندما زرت «شنغهاى» فى عام ٢٠٠٢، وكانت التجربة الصينية لا تزال محصورة فى منطقة الجنوب الشرقى، فإن المدينة لم تكن مفتوحة للصينيين فى مناطق أخرى للدخول أو الإقامة إلا بإذن وتصريح يثبت وجود عقد لعمل محدد. الدافع الأساسى فى دول العالم الأخرى غير هذه التى اكتوت بنار الحروب واسعة التدمير- كان، أولًا، أن دولا وشعوبا أخرى حققت التقدم، وانطلقت إلى عوالم وسماوات أخرى، وبات ضروريًا اللحاق بها. وثانيًا هناك فرصة تاريخية للنمو نتيجة ذيوع التكنولوجيا الحديثة التى تختصر الزمن وتقطع المسافة. وثالثا البديل للتضحية والتحمل والصبر كان التبعية والاعتماد على المنح والمعونات من الدول الأخرى، والعيش فى ظل شبح أزمات اقتصادية متكررة، ومعها قدر غير قليل من الاضطراب والقلق السياسى. هذه البديل لم تقبله دول، ولكن عاشت وتعايشت معه دول أخرى، وفى دول كانت النتيجة انفجارات وحروب أهلية.
مصر كانت من تلك الدول التى عاشت ظروفا صعبة من الاستعمار الإنجليزى، وفى عام جلائه عن مصر كان هو ذات العام الذى جاء فيه الاعتداء الثلاثى على مصر فى ١٩٥٦، ومن بعده حرب يونيو ١٩٦٧ ثم الاستنزاف ١٩٦٩ /١٩٧٠، ثم حرب أكتوبر ١٩٧٣. كان لهذه الحروب ثمن كبير، وكان لسياسة «الفتح الاستراتيجى» التى اتبعتها مصر ثمن آخر؛ ولكن الحرب الأخيرة مر عليها الآن ٤٥ عاما هى فى عمر الدول المعاصرة ليست قليلة. وكانت أولى محاولات الإصلاح المصرية فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى معاصرة للمحاولات الأولى لكل من الصين وكوريا وفيتنام وتايوان وسنغافورة وغيرها؛ هم مضوا فى الطريق، ونحن هبت علينا مظاهرات الخبز، وتوقفت محاولة الانفتاح الاقتصادى الذى جرى خنقه بادعاء أنه كان «سداحا مداحا»، ومعه جرى اغتيال الرئيس السادات. وجاء الرئيس مبارك إلى الحكم واعيًا الدرس فمر عقد الثمانينيات دون تقدم يذكر، ولكن التسعينيات كان عقد «العولمة» ونفرة التقدم فى العالم كله، فبدأت التحركات الإصلاحية فى مصر، والتى انطلقت فى العقد الأول من القرن الحالى، فكانت الثورات والقلاقل فى مصر، فضاع على البلاد أربع سنوات من العمل، وانهارت البنية الأساسية. وبعدها بدأت آخر المحاولات الإصلاحية فى البلاد بعزم وحزم أكبر من أى وقت مضى، ولم يترك الرئيس السيسى فرصة إلا وشكر الشعب المصرى فيها على صبره وتحمله.
هذا الشكر المقدر لا يعفى لا الساسة ولا المفكرين من التعامل مع قضية سقف التحمل وثمن غيابه؛ وفى التجربة المصرية ما يجزم أن الهروب فى منتصف الطريق لا يعفى من العودة إلى ذات النقطة مرة أخرى. وفى تجربة العالم، والأرجنتين والبرازيل مثالا، التردد له أثمان والهروب إلى اليسار أو اليمين له أثمان فادحة. وفى تجربتنا السابقة كان الهروب يأتى دائما على سنان رمح «توزيع الثروة» الجديدة؛ والسنان الأخرى أن المشروعات القومية ليست ضرورية. ولا توجد هناك مصادفة أن ذلك هو ما تركز عليه محطات الإخوان الدعائية. هذه المرة لا تتحمل مصر تراجعا آخر، ولا يوجد إلا الفهم والشرح والمصداقية والشفافية ما يجعل الصبر والتحمل ممكنا فى السنوات القليلة المقبلة حتى تصبح معدلات النمو العالية مستدامة وفاعلة.