وقال الأديب " الجرواني " ووجهه لا يتخلى عن جديته التي عُرف بها : كانت جلسة أدبية
_ أنا أُقر بما قاله الأخ نظمي وإن كنت أنا شخصياً أؤمن بأن البشرية هي حفيدة آدم وحواء لسبب بسيط هو أن حواء حبيبتي لا تتخلى أبداً منذ البداية وحتى الآن عن تفاحتها التي تستخدمها كأداة لسحب آدم إلى أي اتجاه تريده وإن اختلفت أساليبها ، سأروي لكم قصة أو حدوته ولا أُعني أنها من وحي الخيال بل هي قصة واقعية حدثت وأبطالها أعرفهم شخصياً .
صفق " كمال ناجي " وقال ضاحكاً :
_ هذا هو المضبوط ، أن نكمل سهرتنا هنا مع حكاية من حكايات عزيزنا الجرواني فهذا أفضل من العشاء المطعمي الذي اقترحته الزميلة .
ابتسم الجرواني وأسند ظهره إلى ظهر المقعد وأرسل بصره إلى سقف الغرفة كعادته عندما يبدأ حكاية من حكاياته التي تجد لها أذاناً صاغية من الجميع .
**********
غصت القاعة بالمدعوين ، المناسبة مزدوجة ، زواج " أكرم العطار " من " سميحة العيسوي" وزواج " حيدر ذهني " من " ساميه الشورجي " ، حفل على مستوى عال إن لم يكن تعدى إلى المستوى الذي يطلق عليه الباهظ التكاليف ، البذخ ليس له حدود ، بالنسبة إلى أكرم وحيدر لم يكن جيباً واحداً هو العامر بل كل جيوبهما عامرة ولا تتردد عن الإعلان عن عمارها بشتى الطرق في كل مناسبة وخاصة إذا كانت المناسبة لها وزنها كمناسبة زواجهما معاً وفي ليلة واحدة ، العروسان أيضاً من عائلتين متيسرتين فتضافرت العنجهية وتنافست على إبراز نفسها في ذلك الوقت من ثلاثينيات القرن الماضي ، العائلات كانت تقاس بما تملكه من مال وعزب وأطيان وألقاب وعائلتي حيدر وأكرم من العائلات التي تَدُق لها الصنج والدفوف في عالم الثراء والألقاب وبالبديهة وكما يقول المثل الطيور على أشكالها تقع كان ولا بد من الوقوع على عائلتين على نفس المستوى لانتقاء عروسين يشرفاهما حسباً ونسباً ، العائلتان أيضاً لم يخرجا عن مضمار السباق على الأبهة كما تسابقت العروسان على إبراز الجمال والفتنة ، كل واحدة منهما لها جمال خاص ، سميحة برقتها المتناهية وجمالها الهاديء كخيوط القمر الحالمة تنساب برقة لتكسب كلمات العشق والغرام التي يتبادلها العشاق في حضوره حناناً ورقة ، أما ساميه اختار لها الجمال لوناً آخراً وهي لا تزال في أحشاء أمها ، خيوط الشمس الذهبية الملتهبة دائماً تدفيء مع التحفظ حتى لا يصل الدفء إلى مرحلة التوهج الحارق ، فتنة طاغية شرسة تطل من كل ذرة في الجسد الفائر من قمة الرأس إلى أخمص القدمين ، فتنة لا تخجل أبداً وتظهر تعطشها السافر لكل ما يضخ ماء الحياة ، كل الأصدقاء وهم يهنئون حيدر في تللك الليلة همسوا في أذنه " الله يكون في عونك " فيجيب ضاحكاً " نحن لها " ، تقارب شديد من جميع الوجوه بين حيدر وأكرم وتباعد شديد بين زوجتيهما من جميع الوجوه أيضاً ، لعل الدهشة قد تكون أصابت البعض عن سر الإحتفال الموحد بالرغم من أن كل واحد منهما باستطاعته أن يفرح بليلة مستقلة عن الآخر ويدعو إليها ما شاء من الأقارب والأحباب والاصدقاء ، ولكي نزيل هذه الدهشة يجب أن نعود إلى البداية .
**********
لا أحد يمكنه أن يتكهن إن كان الحرمان من الإنجاب الذي لازم والد أكرم ووالد حيدر لفترة طويلة بعد زواجهما من باب الصدفة أم بترتيب من القدر ، أيضاً لا أحد يمكنه أن يتكهن إن كان ذهابهما إلى الزاهد المتعبد في الجبل من أجل هذا الموضوع من قبيل المصادفة أم بترتيب من القدر ، لم يكن قد تعارفا بعد ، ولم يكن هناك اتفاق على أن يذهبا إلى هذا المتعبد ، الذهاب إلى المتعبد لم يأت إلا بعد أن أحكم اليأس حلقته حول حلم كل منهما بأن يصبح أباً ، زيارتهما إلى الأطباء لم تنقطع إلا بعد أن وصل اليأس من الإنجاب إلى قمته . عاد الأمل وتجدد بعد أن ألحت زوجة كلاً منهما على زوجها أن يذهب إلى المتعبد صاحب السر الباتع والصيت المدوي الذي يأتي إليه الناس من كل الإنحاء وخاصة في مضمار اللهفة على الإنجاب ، إلحاحهما جاء بعد نصيحة " أم الخير " التي لا تترك منزلاً فقيراً أو غنياً إلا وتعرض خدماتها عليه في كل المجالات مقابل ما كان يسمى ب " الحلاوة " أي نفحة مالية غير محددة عند نجاح مشورتها أو الخدمة التي تقدمها ، كانت الخدمة هذه المرة هي أن تدفع الزوجتين لنصح زوجيهما للذهاب إلى الزاهد المتعبد وبعد معارضة شديدة نظراً لحساسية الموقف ومكانتهما الإجتماعية ، رضخا وقد هفهفت نسمات الأمل ثانية على قيظ اليأس وداعبت مخيلتهما أحلام الابوة ولا أحد يمكنه التكهن أيضاً إن كان ذهابهما في نفس اليوم والساعة جاء مصادفة أم بترتيب من القدر بالرغم من فرضهما السرية التامة والتكتم الشديد على هذه الزيارة . المفاجأة والدهشة الشديدة أن المتعبد عندما دخل إليه والد حيدر وألقى أمامه بأمنيته طلب منه الإنتظار ، وهذا ما فعله مع والد أكرم أيضاً ، ثم جمعهما معاً بالرغم من أنهما لا يعرفان بعضهما ، نظر نحوهما المتعبد وقال :
_ مرادكما واحد وسيمنحكما المولى عز وجل هذا المراد ، سيمنحكما ذكرين بشرط أن ينشأّن كشقيقين ، تتبادل الوالدتان إرضاعهما ، كل خطواتهما في الحياة معاً ، لا يفرقهما إلا الموت ولكي يتحقق هذا يجب أن يطعم كل واحد منكما مئة فقير وواحد لمدة سبعة أيام متتالية ، إذهبا الآن وعودا بعد أن تحبل زوجتيكما . منذ ذلك اليوم توطدت الصداقة بين والد حيدر ووالد أكرم وانتظرا الأمل المنشود الذي لم يبخل عليهما هذه المرة وفتح الفرج بابه على مصراعيه وزوجتيهما تخبرانهما بالجنين الذي بدأت الحياة تدب به ، تلقيا البشرى على أنها هدية ليلة القدر التي انتشلتهما من وهدة اليأس وأشرقت الشمس بعد طول غياب ، تعانقت كفاهما وطارا إلى الشيخ المتعبد كما أمرهما من ناحية ولتقديم واجب الشكر من ناحية أخرى ، ابتسم المتعبد قائلاً :
_ أعلم أنكما شككتما في كلماتي لكن هذا لا يهم فأنا لا أهب النسل لكن رب العباد هو الذي يهب وها هو وهبكما النسل فقدما له الشكر والطاعة دائماً ، ضاقت نظرته واتجهت نحو والد أكرم وسأله هل أطعمت يا مخلوق كما أمرتك مئة وواحد فقير سبعة أيام متتالية .
أجاب أكرم ووجهه يلمع بالرضا :
_ نعم يا سيدي لقد طمعت في رضاء أكثر من الله وزدت عشرة عليهم .
أضاء وجه المتعبد بابتسامة حلوة قائلاً :
_ كلامك مضبوط يا مخلوق وسيحصن الله ابنك بالمزيد من التقوى والصلاح .
التفتت نظرته نحو والد حيدر وسأله :
_ وأنت يا مخلوق هل نفذت ما أوصيتك به ؟
أجاب والد حيدر وهو يحاول أن يخبيء خجل وجهه :
_ للأسف لقد اعتمدت على أحد رجالي وعندما سألته بعد انتهاء السبعة أيام إن كان كل شيء على ما يرام أجاب بأنه لم يدعو سوى تسعين فقيراً فقط لكننى سأُجبر هذا الخطأ بإذن الله .
بدت على وجه المتعبد نظرة قد تكون آسفة أو ساخرة وقال :
_ عندما كنت تتعلم بالمدرسة وتذهب لتؤدي الإمتحان وتخطيء في الإجابة على أحد الأسئلة هل كان يُسمح لك بأن تُجبر هذا الخطأ بعد أن تذهب الورقة للمصحح ، فإذا كان هذا أمر الإختبار على الأرض فهل تقبل السماء أن تُجبر الخطأ في امتحان سهل جداً كالذي أوصيتك به وكان يجب أن تُشرف عليه بنفسك ، للأسف يا مخلوق حصانة ابنك ستنقص بقدر إهمالك في حق الفقراء !! .
بدا الجزع فوق وجه والد حيدر وقال وقد ارتجفت كلماته .
_ ماذا تقصد يا سيدي بنقص حصانة ابني ؟!!
أجاب المتعبد وقد لانت ملامحه مشفقاً على جزعه :
_ يا مخلوق لو كان آدم نظر حوله جيداً ورأى ما خلقه الله من نعم وأنصت بإذن صاغية إلى وصيته ما كان فقد حصانته وسقط في إغواء حواء وتفاحتها ولا طُرد إلى متاعب الأرض ومشقتها ، لقد سقط آدم في إغواء حواء وتفاحتها لأنه لم يحصن نفسه بوصية الله ، كل ما أعلمه يا مخلوق أن حصانة ابنك ستكون ناقصة لكن كيف أو إلى ماذا ستنتهي لست أعلم ، لكن علينا دائماً ألا نيأس من رحمة الله ونطلب المغفرة عن كل معصية نرتكبها فهو الغفور الرحيم ، لكن لا بد أن تعلم وهذه كنصيحة أُهديها إلى كل من تطأ قدمه بابي أن كل الخطايا من السهل مغفرتها أمام المولى عز وجل إلا خطيئة المقتدر نحو فم الفقير الجائع ، هذه من الخطايا الكبرى يامخلوق وتهون بجانبها كل الخطايا ، بل كلما ازداد ميزان حسناتك نحو الفقير يزداد معه ميزان المغفرة والصفح . انصرف رفيقا الإنجاب وكل منهما في رأسه علامة استفهام غامضة عن الحصانة وما ردده المتعبد وحاول والد حيدر أن يهون على عقله التفكير في هذا الموضوع ونظر نحو والد أكرم وفوق شفتيه ابتسامة واسعة وكأن كل ما سمعه تبخر كقطرات الندى وقال وهو ينتقل بالإبتسامة إلى ضحكة عريضة :
_ يشرف الأول في الدنيا وبعد كدا نفكر في موضوع الحصانة .
وأجاب والد أكرم مجاملاً بابتسامة لكن ذهنه كان غارقاً في كل كلمة تفوه بها المتعبد يرى فيها حكمة لا يجب أن تستبعد عن الفكر بسهولة :
_ على رأيك ، يخرجا للدنيا بخير إنشاءالله ونفكر بعد ذلك كيف نقوي حصانتهما ، قالها وهو لا يدري أن كان يقر معنى ما يقول أم هو ثوب المجاملة مضطراً أن يرتديه ليطيب خاطر رفيقه ، لكن داخله كان يصيح بأن ما قاله المتعبد لا يحتمل النقاش فالحصانة التي يقصدها المتعبد منحة إلهية لمن يخوض التجارب دون أي وهن في العزيمة وهو نفسه عندما زاد في عدد الفقراء الذين أطعمهم عن العدد الذي أمره به المتعبد لم يكن يفكر مطلقاً أو يأتي على خاطره موضوع الحصانة ولم يكن سيخبر به أحد حتى المتعبد نفسه لولا سؤاله المباشر ، زاد في عدد الفقراء لأنه يؤمن بأن إناء الصدقة لا بد أن يمتلأ ويفيض دائماً دون انتظار حتى لإيماءة شكر ، بعكس والد حيدرالذي كان يزن كل الأمور بميزان الماديات وعلى قدر ما يأخذ يعطي دون زيادة أو نقصان ، هكذا كان يتعامل حتى مع الفقراء والصدقة الواجبة عليه لم يكن يقدمها إلا من باب التفاخر ليس إلا ، لم يعقل فهمه أن تحديد المتعبد لعدد من الفقراء قد يكون له معناه ولذا لم يهتم كثيراً ، وحتى بعد لومه لم يأخذ الموضوع بجدية المهم أنه ينجب وأن يأتي الوريث الذي سيحمل اسمه .
**********
لا أحد يدري إن كان سير الأمور كما سارت عليها جاء وليد الصدفة أم هو ترتيب من القدر ، جاء المخاض لأم حيدر وأم أكرم في ليلة واحدة لكن حيدر تعثرت ولادته بعض الشيء مما أذاب والده في عرقه خشية أن يفقد الأمل الذي كانت ينتظره كحلم من الأحلام ، لكن في نهاية الليلة انطلقت صرخات حيدر معلنة وصوله إلى الدنيا وجفف أباه عرقه وعادت دماء الحياة إلى وجهه ، ما قاله المتعبد سار كما ما تنبأ به خطوة بخطوة وكانت أول خطوة هي اشتراك الوالدتان في إرضاعهما بعد أن هاجمت بعض المشاكل المرضية كلاً منهما خلال فترة الرضاعة فتولت الأخرى إرضاع الطفلين كقدمان فقط وليس أربعة سارت بهما الحياة وكشقيقين انطلقا نحو مرحلة الشباب ، جمعتهما مرحلة الدراسة وتخرجا من نفس الكلية واندمجت الأعمال معاً ليصبحا الإخوة الشركاء أو الشركاء الإخوة . مهما تقاربت خطوات البشر ووصلت إلى حد تصنيفها إلى نفس الخطوات لكن لا بد أن تختلف عند الوصول في التفكير في الجنس الآخر ، تقاربت المشارب والأفكار بين حيدر وأكرم إلى درجة الإلتصاق لكن عند اختيار شريكة الحياة تباعدت ، ما في خيال حيدر يختلف تماماً عن خيال أكرم حتى وإن كان الإختيار تم بين صديقتين كانتا تتبختران بجمالها وهما بلباس البحر على إحدى شواطيء الإسكندرية التي لم يكن يؤمها سوى طبقة الموسرين في ذلك الوقت ، ودون نقاش وكأنهما اتفقا من قبل اختار حيدر صاحبة لباس البحر الأحمر واختار أكرم صاحبة لباس البحر الأزرق ، اختار حيدر المشتعلة كلون لباسها مستمدة حرارة شرسة من قرص الشمس واختار أكرم الحالمة مع اللون الأزرق والسماء الصافية وكقدر مسطر اتجهت نظرات سميحة إلى أكرم وسامية إلى حيدر وكأنهما أيضاً على اتفاق ، تم الزواج سريعاً فلم يكن هناك ما يعطله ، كل شيء متاح بالأيدي ويفيض منها ليصل إلى عالم الرفاهية بلا حدود ، بدأت خطوات الحياة الجديدة لكن أبداً لم تبعد بين حيدر وأكرم بل ازدادت بتقارب الأسرتين لدرجة أن الساعات التي كانا يقضيانها معاً كل يوم تزيد عن الساعات التي يفترقا فيها لتمضي الحياة تشق نهر السعادة .
توطد العلاقة أحياناً يدفع إلى أفكار غريبة ، والعلاقة بين حيدر وزوجته ساميه من جهة وأكرم وزوجته سميحة من جهة أخرى فاقت كلمة التوطد ، حيدر وأكرم منذ البداية في حكم الاشقاء ، وسميحة وسامية صداقتهما ترجع أيضاً إلى الطفولة بالرغم من اختلافهما في أشياء كثيرة حسية وفكرية ، أغرب فكرة نبتت نتيجة هذا التوطد ما عرضه حيدر أثناء سهرة مثلها مثل غيرها ، الضحكات وفرقعتها تغلب على أي حديث فلم تكن جلساتهم تتحدث عن عمل أو أي شيء يخرجهم عن سعادة دائماً يغلب عليها المزاح ، لكن في هذه الليلة توقف حيدر بعض الوقت وبدت على وجهه بعض الملامح التي يمكن أن ننسبها إلى الجدية ومع ازدياد صمت لسانه ارتفعت إلى درجة الجدية التامة مما دفع أكرم إلى مداعبته قائلاً :
_ هل أُحضر لك الطبيب يا حيدر ، ملامحك تقول أنك على وشك المرض وأنت تعلم أنني أخشى عليك من لدغة الناموسة .
وعلقت سميحة بنبرات صوتها الحالمة دائماً قائلة :
_ صحيح يا حيدر إما أن يكون هناك ما يشغلك وهذا لم نعتد عليه في جلساتنا التي نخرج بها وتخرج بنا عن التفكير في أي شيء سوى الأوقات الجميلة التي نقضيها سوياً بعيداً عن مشاغل الحياة أو كما قال أكرم تشعر ببعض التوعك .
ولم تضع سامية الفرصة لتقفز بما يمليه فوران جسدها المتعطش دائماً وقالت بصوت يحكمه الغنج غامزة بعينها وهي تطلق يدها لتتحسس ظهره بطريقة لا تخبيء ما خلفها من إيحاءات :
_ لا تشغلا بالكما ، هذه الأعراض تأتيه عندما يكون محتاجاً لبعض التدفئة والحنان وجرعة من الحب وهذا الدواء متوفر دائماً وسأزيد له الجرعة هذه الليلة وسيصبح على ما يرام ثم تلت كلمات الحياء المفقود بقبلة فوق شفتيه دفعت دماء الخجل سريعاً إلى وجه سميحة .
إدوارد فيلبس جرجس
**********************