قال أبو العتاهية لأبي نواس : كم تعمل في اليوم من الشعر ؟ قال: بيتا أو بيتين. فقال: لكني أعمل المائة والمائتين . فقال أبو نواس: لأنك تعمل مثل قولك:
يا عتب ما لي ولك يا ليتني لم أرك
ولو أردت مثل هذا الألف والألفين ، لقدرت عليه ، وأنا أعمل مثل قولي :
من كف ذات حِرٍ في زِيّ ذي ذكر لها محبان لوطي وزناء
ولو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر.
يشير أبو نواس إلى أن الشعر صناعة عميقة الأثر، يجب أن يهتم الشاعر بفنه، وأن يكون عميقا وليس سطحيا. فهذا شعر قديم سبق عصره بأكثر من ألف سنة، تنبأ فيه الشاعر بما يمكن أن تكون عليه هيئة المرأة من ملابس تشبه ملابس الرجال.
ومن الشعر العميق ، النافذ إلى الغرض ، الرامي للهدف دون مشقة، والذي تتلقفه العقول والقلوب بترحاب وقبول قول الشاعر:
قول أبي نواس:
لا أذودُ الطيرَ عن شجر قد بلوتُ المُرَّ من ثمَرِه
وقول الآخر:
لا يراني الله أرعى روضة سهلة الأكناف من شاء رعاها
في قول أبي نوس تعبير مجازي عن النهي عن العطاء لمن لا يستحق وخاصة إذا أساء الخبيث إلى الطيب، وفي قول الآخر نهي عن رعاية المرء لمن لا يستحق أيضا. فتأمل قولهما!
وكذلك قول الشاعر المسيحي الأخطل عندما مدح عبد الملك بن مروان بقصيدة أعجبته، فقال له: لمَ لا تسلم يا أخطل؟ قال: إنْ أنت.. وضعت عني الفرائض، فقال له عبد الملك: إنْ أنت أسلمت ثم قصرت في شيء من الإسلام ضربت عنقك.
ثم سأله: وما بلغ منك الشراب؟! قال: يا أمير المؤمنين، إذا شربتها فالموت عندي يكون أهون من شسع نعلي، فقال له الخليفة: قل فيه شعراً، رد عليه: إنني لن أقول فيه إلا إذا أمنتني بالله، رد عليه: لقد أمنتك بالله، فقال:
إذا ما نديمي علّني ثم علّني ... ثلاث زجاجات لهن هدير
فرحتُ أجرُّ الذيلَ زهواً كأنني .. عليك -أميرَ المؤمنين- أمير
فالشعر لا دين له ، ولا وطن له ، ولا جنس له، فهو لا يعترف إلا الفن القوي الذي يلامس شغاف القلب ، وليس من الشعر نظم الأبيات سواء بوزن أو بدون .. الشعر ليس قولا سطحيا يمر دون خدوش للذاكرة أو نبش لما في القلوب..
ومن هنا فليست الكثرة المطلقة من الأعمال المطبوعة تحت اسم ديوان من الشعر في شيء كقول أحدهم ينظم ولا يشعر
أنا في الحُبِّ لا أمشي
علي أطرافِ أشواقي
ولي في الحُبِّ موسيقى
وملئُ السَّمعِ أبواقي
ضّجيجُ الشَّوقِ أغنِيَةٌ
أُلَحِّنُها بأعماقي
بحارُ الحُبِّ تُغْرِقُني
وأُغْرِقها بأَحْداقي
وأحلامي تُنادِمُني
هي الخَمَّارُ والسَّاقي
خيالاتي تؤَانِسُني
وفيها عِطرُ تِرياقي
وليس هذا أيضا من الشعر في شيء ؛ بل هو نظم سطحي يفتقر إلى الشعر الحقيقي:
يعرف ُ
أن الموت َ
سيأتي
ليس مفر ٌ من ذلك
***
في مفتتح اليوم
ترصَّـده ُ
ظل يواقعه ويراوغ ُ
حاول ثانية
وتخفّى
في طيش قيادة حافلة ٍ
مالت
واعترضت مضمار سبيله
فتجمد عقل ٌ
غامت ناظرة ٌ
واختلت عجلات ٌ
واصطدم حديد ٌ بحديد ٍ
وتوقف - في ثانية ٍ - تاريخ ٌ
لكن
يا الله َ
نجا من بئر الحادثة ِ
بدلو ٍ أرسله الله إليه