بهجت العبيدي يكتب : الإنسان المعدل: بين مخاوف التحوّل وآمال التقدّم

بهجت العبيدي يكتب : الإنسان المعدل: بين مخاوف التحوّل وآمال التقدّم
بهجت العبيدي يكتب : الإنسان المعدل: بين مخاوف التحوّل وآمال التقدّم
في عالمنا الذي يتسارع فيه نبض العلم والتكنولوجيا، يبرز مفهوم جديد يحمل في طياته أبعادًا متعددة من الترقب والتساؤل. إنه مفهوم “الإنسان المعدل”، الذي يفتح الباب أمام إمكانية خلق كائن بشري يحمل صفات محسّنة، سواء من خلال التدخل الوراثي أو التعديل التكنولوجي. هذا الطرح، الذي يبدو أشبه بحلم مستقبلي أو سيناريو خيال علمي، يأخذ اليوم مكانًا حقيقيًا على طاولة النقاشات العلمية والأخلاقية.
عندما نتحدث عن الإنسان المعدل، فإننا نتحدث عن ثورة في الفكر والممارسة. فالتعديل الوراثي، الذي يرتكز على إدخال تغييرات دقيقة في الحمض النووي للفرد، يحمل وعودًا بتحقيق قفزة نوعية في مواجهة الأمراض الوراثية وتعزيز القدرات الجسدية والعقلية. تصوّر أن نتمكن يومًا ما من القضاء على أمراض مثل التليف الكيسي أو أن نطيل عمر الإنسان عبر تعطيل جينات الشيخوخة، ألا يبدو ذلك مغريًا؟ لكن مع هذا الحلم، تنبثق أسئلة لا تقل تعقيدًا عن الإنجاز ذاته: هل يحق لنا أن نتلاعب بجوهر الإنسان؟ وهل سنضمن أن تكون هذه التعديلات آمنة ومستدامة؟
أما الجانب التكنولوجي من هذه الظاهرة، فهو أشبه بسردية مستوحاة من كتب المستقبل. الأطراف الصناعية التي تُدار بعقل الإنسان، والرقائق الإلكترونية المزروعة في الدماغ التي تعدنا بذاكرة خارقة، والعين الإلكترونية التي تمنحنا رؤية تتجاوز حدود الطيف المرئي، كلها أمثلة تعيد تشكيل مفهوم الإمكانيات البشرية. نحن لا نتحدث هنا عن علاج الإعاقة فقط، بل عن خلق أفق جديد يعيد تعريف معنى “الإنسان الكامل”. 
لكن، هل ستكون هذه القفزات العلمية مفتوحة للجميع؟ أم أنها ستبقى حكرًا على قلة تستطيع تحمل تكاليفها الباهظة؟ إذا أمعنا النظر، نجد أن هذا السؤال يحمل بعدًا أخلاقيًا واجتماعيًا يمس جوهر المساواة الإنسانية. تخيّل أن يُقسم العالم إلى فئتين: “البشر العاديون” و”المعدلون وراثيًا وتكنولوجيًا”، أي انقسام سيحدث في نسيج المجتمع؟ وأي أثر سيتركه ذلك على القيم التي جمعتنا عبر التاريخ؟
من ناحية أخرى، لا يمكن أن نغض الطرف عن المخاطر الكامنة وراء هذه الطموحات. التقنية التي تحمل إمكانيات لا حصر لها، تحمل كذلك أعباء أخلاقية هائلة. في عام 2018، أذهل العالم إعلان العالم الصيني خه جيانكوي عن ولادة أول طفلين معدلين جينيًا باستخدام تقنية “كريسبر”. هذا الإنجاز، الذي كان يُفترض أن يكون انتصارًا علميًا، أثار موجة من الانتقادات الحادة، ليس فقط بسبب المخاطر الصحية المحتملة، ولكن أيضًا بسبب تجاهل القواعد الأخلاقية التي تفرضها مثل هذه التجارب. 
إن هذه الواقعة فتحت باب التساؤل حول الدور الذي تلعبه الرقابة والتنظيم في مثل هذه المجالات. صحيح أن الصين تشدد اليوم على تطبيق قوانين صارمة بعد هذه الحادثة، إلا أن هناك مخاوف من استمرار وجود أبحاث تُجرى في الخفاء، بعيدًا عن أعين المجتمع العلمي الدولي.
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن الدول الغربية قد وضعت معايير صارمة للبحث في هذا المجال، تحكمها مبادئ أخلاقية وتنظيمية. الهيئات المختصة، مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، تضع خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها، والتعاون الدولي في هذا السياق يُعد أمرًا بالغ الأهمية لضمان الامتثال لهذه المعايير. لكن حتى مع هذه الرقابة، فإن التحدي يظل قائمًا في إيجاد توازن بين الابتكار وحماية الحقوق الإنسانية. 
أما في منطقتنا العربية، فقد بدأت بعض الدول في اقتحام هذا المجال الطموح. السعودية، على سبيل المثال، حققت إنجازات لافتة باستخدام تقنيات التعديل الوراثي في علاج بعض الأمراض الوراثية. بينما تسعى قطر من خلال مشروع الجينوم العربي إلى دراسة الجينات البشرية لتعزيز جودة الرعاية الصحية. الإمارات ومصرنا الغالية والتي تمتلك من الكفاءات ما يؤهلها للمنافسة في كافة المجالات العلمية فإنهما أيضًا تسلكان الطريق ذاته، مدعومتين بطموح كبير لبناء بنية تحتية علمية تواكب العصر. 
ورغم التحديات الكبيرة التي تواجه هذه الجهود، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية، فإن الأمل يظل معقودًا على قدرة الدول العربية على المشاركة بفعالية في هذه الثورة العلمية. فالتكنولوجيا، كما يقول العلماء، ليست ملكًا لأحد، لكنها إرث للبشرية جمعاء. 
إن مفهوم الإنسان المعدل ليس مجرد قضية علمية، بل هو رحلة شائكة بين التقدم والمخاوف. إنه يعيد صياغة فهمنا لأنفسنا ويضعنا أمام معضلة كبرى: هل نحن على استعداد لتحمل تبعات ما قد نصبح عليه؟ وهل نحن قادرون على استخدام هذه القوى الهائلة بحكمة ومسؤولية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدد ملامح مستقبلنا الإنساني، وربما طبيعة إنسانيتنا ذاتها.