منذ عدة أيام مضت، وقعت عيني على خبر كارثي منشور في الموقع الالكتروني الأشهر "الأقباط متحدون" يؤكد ضبط سائح بمطار الأقصر بقطعتين أثريتين من المعابد.. وفي تفاصيل الخبر: "كشف مصدر مسئول بوزارة السياحة والآثار، تفاصيل ضبط سائح في مطار الأقصر وبحوزته قطعتان أثريتان من أحد معابد الأقصر الأثرية"......!!
وأضاف المصدر "أنه بعد ضبط الواقعة تم إبلاغ الجهات المعنية بتفاصيل الواقعة، وتم تشكيل لجنة على أعلى مستوى، وأن التحقيقات جارية حتى الآن للكشف عن المتسبب في بيع هذه القطع للسائح رغم وجودهما داخل المعبد، مع التنويه على إن القطع الأثرية المضبوطة ضئيلة الحجم ومنها قطعة بها نقوش من صالات أحد معابد الأقصر".....!!
هذه الجريمة أعادتني إلي الماضي الكئيب، ( النصف الثانى من القرن الثامن عشر ) الذي فرط فيه عدد من لصوص الصعيد فى أعز ما نملك، وذلك عندما ظهر فى الصعيد لصان من العتاة قاما بسرقة مقابر ملوكنا القدماء، وهذان اللصان ينتميان إلى عائلة عبد الرسول، وهما: أحمد ومحمد عبد الرسول.
هذان الأخوان كانا يسرقان المومياوات، وقطع أثرية فريدة من نوعها من المقابر الملكية بوادى الملوك، ويبيعانها للأجانب بمبالغ مالية كبيرة، وقيل أنهما ظلا على هذا الحال طوال 20 عاماً تقريباً، ولم يوقفهما عن ارتكابهما هذه الجرائم الشنعاء إلا بعد اتهامهما بذات الجريمة وتقديمها للمحاكمة.
ومن نافلة القول أن أحدهما أراد استرداد عنزة شاردة عن قطيعه، وفى أثناء هذه المطاردة عثر على هذا الكنز بمحض الصدفة البحتة، وحتى لا يغرقا السوق بتلك الكنوز فتقل قيمتها ويهبط سعرها ( سياسة العرض والطلب )، فكانا حريصان جدا على ندرتها فى السوق، مع لفت الانتباه أن الأخوان كان يبيعان ما يسرقانه للسياح ( لصوص الحضارات )، من: الأمريكان والإنجليز، لأن هاتان الجنسيتان كانا يوليان كنوزنا اهتماماً خاصاً، خصوصاً تلك الآثار التى تحمل شعارات ملكية.....!!
وهذا ما جعل الفرنسي جاستون ماسبيرو ( خبير آثار في علماء المصريات بإنشاء المعهد الفرنسي للآثار في القاهرة ) يشعر بالقلق من نهم الأمريكان والإنجليز بسرقة وتهريب تلك الكنوز التى لا تقدر بثمن، وهنا أدرك حجم الخطر فبادر بالبحث والتنقيب عن مصدر هذه الكنوز حتى علم بمكانها وقيمتها العلمية والأثرية والتاريخية، الأمر الذى دفع ماسبيرو لمعرفة أدق التفاصيل عن لصوص الداخل والخارج، وبعد أن تأكد من خيوط الجريمة وأسماء المجرمين طالب بمحاكمة من يقع منهم تحت طائلة القانون"الإخوان عبد الرسول"، أما اللصوص الأجانب مثل التركى "مصطفى أغا آيات" فقد تركه بسبب حصانته الدبلوماسية وعمالته كوكيل لقنصليات: بلجيكا وروسيا وفرنسا، حيث كان يشترى هذه الكنوز بدعم وحماية من تلك القنصليات.....!!
ونظراً لتضييق الخناق على أحد الإخوان فى التحقيق، لم يجد مفراً من إبلاغ جهات التخقيق التى يترأسها شخص يدعى "أميل بروجش" - مندوب عن ما سبيرو نظراً لتواجده حينئذ خارج المحروسة - بمكان الكنز، وهنا يشرح الخبراء هذه اللحظة فيقولون:"عندما عاين بروجش المقبرة الملكية كاد يفقد عقله حيث شاهده أمامه قبواً كاملاً للفراعنة، وأى فراعنة.....!!.. أعظم ملوك الفراعنة فى تاريخ مصر، وهم:
- تحتمس الثالث، سيتى الأول، أحمس الأول - قاهر الهكسوس - والعملاق رمسيس الثانى، إضافة إلى توابيت رائعة الجمال لملكات مصر الشامخات مكومة فى صفوف منتظمة"، هذا ما وقعت عين "بروجش" عليه، فخر الحضارة المصرية، الأمر الذى جعله يسبح فى أحلامه، بعدما تم العثور على هؤلاء العمالقة الذين خلد التاريخ أسمائهم طوال هذه الفترة.....!!، ويروى الخبراء أن "بروجش" نجح فى الحفاظ على بقية الكنوز المكتشفة ونقلها إلى متحف القاهرة بعد عمليات السرقة والنهب والتهريب التى تعرضت لها مقابر الملوك الـ 40 تحت حراسة مشددة خلال 48 ساعة فقط بواسطة رفاص حكومى مخصص لهذه الأغراض.
المهم، بعد عودة ماسبيرو من رحلته إلى فرنسا، أمر بفك أربطة أحسن المومياوات حالاً، وذلك ليتمكن علماء الآثار - على حد زعمه - من دراسة ملامح أشهر الفراعنة، وهذه المومياء كانت للملك سيتى الأول، وهنا يشرح ماسبيرو حال المومياء فيقول:"رأس ملك حقيقي – رائعة، حيث وجدنا على شفتيه ابتسامة رقيقة لاتخطئها العين، وكانت عيناه نصف مغلقتان تشعان من تحت الجفون، كما كانت شفتاه ثابتتين مثلما كانا وقت تحنيط جثة هذا الملك".
في هذا السياق، وفي جلسة ود بيني وبين صديقي مجدي صادق ( أحد المهتمين بالمجال الأثري نظرا لعمله وخبرته الكبيرة بالمجال السياحي ) منذ فترة ليست طويلة، لفت انتباهي تأكيده بأن " لدينا حوالي مليوني قطعة آثار مكدسة في المخازن، وتحتاج إلى اهتمام وتوظيف خاص من قبل المعنيين بالأمر".
ونظراً للأهمية الحضارية والتاريخية والثقافية للأثار المصرية وكذلك أهمية السياحة للاقتصاد القومى، أريد في هذا المقال مناشدة الأجهزة والشخصيات المعنية بهذا الملف أن يحرصوا ويعملوا على تتضافر كافة الجهود للحفاظ على هذا الموروث الحضارى الذى لا يمكن تقديره بثمن، وذلك من خلال تقديم التغطيات التأمينية الملائمة للحفاظ على تلك الآثار، وهذا هو رأي الاتحاد المصري للتأمين، ورأي المهتمين بهذا القطاع أيضا.
لكل ما سبق، أريد أن أستشهد بما كتبته في أحد مؤلفاتي عن أهمية الآثار في تاريخ الشعوب:"إذا أردتَ أن تحكُمَ على شَعب، أى شَعب، فابْحثَ عن إدراك مواطنيه لقِيمة تاريخهم وتُراثهم الأثرى، ليس هذا فحسْب، بل ابحث أيضا عن تلك اللحظة الفارقة، التى يفهمون فيها قيمة الأثر؛ كجزءٍ من ماضيهم؛ الذى يربطهم بحاضرهم ومستقبلهم، ومن فضل الله على مصر: التاريخ، الجُغرافيا، الإنسان، الطبيعة، ومنارة الأديان، أن منحَها مَزايَا متعددة صنعت منها إعجازا وعبقرية بشهادة العدو قبل الصديق، يقولُ الله، عز وجلَّ، فى سُورة يوسُف: "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْر َإن شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ"..(آية99).
وفي مؤلف آخر لي يحمل عنوان "آثــــــارنا المنهوبـــــــــــة منذ العهد الرومانى وحتى الآن"، أشرت إلى ان عددا كبيرا من أثريينا ربما لا يعلمون كم يبلغ عدد القطع الأثرية التى تحتويها مخازننا الآثرية على وجه التحديد، وربما تكون آخر مرة تم جرد وتوثيق محتوياتها أثناء فترة الراحل د. عبد الحليم نور الدين - أمين المجلس الأعلى للآثار سابقاً – والذى أوضح لي أثناء حواري معه في مكتبه بجامعة القاهرة منذ 14 عاما تقريبا، أن المخازن الأثرية بمصر عددها يزيد على 150 مخزن تقريبًا وليست 72 مخزناً كما سبق وصرح أحد المسئولين، إضافة لنحو35 مخزناً داخل المتاحف كلها.
فالآثار كانت تُخزن فى مقابر بالصخر، وما يشبه الكهوف فى الصحراء، أو فى المخازن غير المؤَّمنة، ولم يكن هناك تسجيل بالصورة أو بوسائل التكنولوجيا الحديثة، كما أكد لي "نور الدين" حينذاك، مؤكدا ان "أول مرة تم فيها جرد مخازن الآثار كانت عام 1995"، كما لفت إلى انه "قام بتشكيل لجان ضمت أثريين وأكاديميين وقانونين وأمنيين، وانجز 85 % من عملية جرد الآثار، لكن هذه اللجنة واجهت صعوبات فى تجهيز صناديق لنقل الآثار بها، وكان لا بد من توفير مخازن متحفيه حديثة – مؤمنة، تُبنى بالطوب الأحمر، وتتكون من أكثر من قاعة، ولها باب معدن".
وأضاف ان "هذا العمل قام به جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، فى عدة مناطق قريبة من بعضها البعض، وتتطلب تسجيل الآثار، وكان يتم كل ذلك بميزانية ضعيفة جدًا، حيث كانت تابعة لوزارة الثقافة"، وأوضح "نور الدين" انه "ترك منصبه قبل الانتهاء من استكمال عملية الجرد، وأنه حاول بعد ترك منصبه متابعة تلك التطورات، لكنه لم يُتمكن من ذلك".
وأكد "أمين المجلس الأعلى للآثار الأسبق ان "قضية التأمين من أولويات العمل الأثري، قبل الترميم وغيره، موضحاً بانها تفتقد وسائل الأمان والتأمين الحديثة، مما يعرضها للسرقة"، ويسرد رواية أعجب وأشهر وأجرأ سرقة لأثر تمت فى وجود الرئيس الليبى السابق معمر القذافى مع الرئيس المصرى الأسبق محمد حسنى مبارك من منطقة أبو الهول، لتمثال جاءوا به ليشاهده الرئيسان ثم اختفى فى وجودهما، ولا أحد يعرف كيف تمت سرقته...........!!
هذه الواقعة المؤسفة، جعلت "نور الدين" قبل 20 عاما تقريبا، يطالب بضرورة التأكد من أن كل المتاحف الأثرية في مصر مؤمنة، خصوصًا فى المحافظات، مشددا على ضرورة وضع كاميرات مراقبة داخلية وخارجية لحماية آثارنا والحفاظ عليها، وتساءل "نور الدين": لماذا لا تضع الدولة الآثار فى المكانة اللائقة، وتهتم بها وتحافظ عليها، فآثارنا تمثل ثقافة الأجداد والأحفاد، كما إنها مورد مهم للدخل القومى الذى تقوم عليه السياحة ورغم ذلك لا يهتم بها أحد.....!!.. وللحديث بقية.