هل نحن ملزمون بأن نقبل «الفنان» كما هو، ونعيش تقلباته واضطراباته، نراه وهو يتعرى أمامنا.. يتنصل من تاريخه، يحتقر مهنته، يهين أهله وذاته، ونحن نصر أن نحتضنه وكأنه طفل ونحن أوصياء عليه، نهدهده ونُجمِّل صورته.. حتى تأتى اللحظة لينقضّ علينا شاهراً أسلحته الرخيصة؟!
كيف يتحول الإنسان من فنان محب للحياة، يرقص على إيقاع نغماتها المدهشة، إلى «إرهابى» قادر على أن يُرهب مجتمعاً بأكمله بسيف «الحلال والحرام».. أو أن ينضم للجماعات التكفيرية ويقوم بالفعل بحمل السلاح!.. ونحن نحاول أن نُخرجه من تلك الدائرة الجهنمية، أن يعود من المنطقة السوداء التى عششت فيها خفافيش الظلام، واستقطبت العديد من رموز الفن والإعلام لخدمة أهدافها الآثمة، خاصة مع بداية ثورات «الربيع العربى»؟!
فى لحظة فارقة من عمر سوريا تحول المطرب «فضل شاكر» من ملك الإحساس إلى إرهابى.. أطلق لحيته، واعتقل صوته، وخنق إنسانيته بأحباله الصوتية تكفيراً عن «طرب» أسعدنا ذات يوم.. كان مجرد ظهور «فضل» باللحية والسلاح، محرضاً على القتال ضد نظام «بشار الأسد»، أكبر دعاية لما يُدعى «الجيش الحر».. كنا فى حالة ذهول أعمانا عما يحدث للعقل العربى، بينما كان «صوت فضل» يتحول إلى مصيدة للشباب العربى باعتباره قدوة للمجاهدين!
وكان خطباء «الإخوان» -آنذاك- ينصبونه نبياً، كما كان بعض خطباء المنابر يساوى «فضل شاكر» بالصحابى «أبوحذيفة بن عتبة»!.
ودون أن يعتذر «فضل» عن تحريمه للفن، أو يبرر لجمهوره أى شىء من تلك الأحداث الدامية، عاد محملاً بحكم غيابى بالسجن 22 عاماً مع الأشغال الشاقة، وتجريده من حقوقه المدنية بتهمة «التدخل فى أعمال الإرهاب»، على خلفية دعمه مجموعات إسلامية متشددة شاركت فى معارك ضد الجيش اللبنانى!
وهكذا يتكرر السيناريو، فنانة تتوب وتعتزل لبس «البكينى»، فنتحول نحن إلى «عبدة الشيطان»؛ لأننا رأيناها ترقص أو تغنى أو تجسد مشاهد ساخنة.. ولأننا قبلناها بالبكينى فلزاماً علينا أن ننحنى لها بـ«النقاب»!
أن نصفق لها إذا تشنجت وتعصبت ولعنت الفن وفلوسه الحرام، وأعلنت توبتها واعتزلت الفن.. ثم نبارك عودتها ونقبل كُهنها وأداءها الركيك لدور «المجنى عليها» التى ضللتها الجماعات المتشددة.. وكأننا نعاقب أنفسنا لنكفر عن ذنوبها هى!.. ثم تعود إلى الفن وتخلع أفكارها القديمة ونقابها وحجابها وتطلب منا أن نصفق لعودتها ونهلل وننسى ما بدر منها (!!).
حين بدأت ظاهرة تحجيب الفنانات ارتبطت بفتح بيزنس هائل لملابس المحجبات، ودعاة جدد -وقتها- للحج السياحى بالدولار.. وقتها تردد أن هناك نجماً شهيراً هو وزوجته يموِّلان حجاب الفنانات من بعض الكيانات المتأسلمة التى أرادت استعراض قوتها فى الشارع المصرى.. وسواء كانت فكرة التمويل حقيقة أم كذباً، رأينا أن مَن ارتدت الحجاب بعد سنوات من الرقص والعُرى وخلافه (!!)
تظهر فى دور داعية إسلامية، أو تروِّج لبيع العباءات فى الخليج.. وسمعنا فتاوى المشايخ للراقصات: ماذا يفعلن فى بدل الرقص؟.. حتى جاء الإخوان إلى الحكم فكان الشارع مهيأ لقبول مطالبة ضباط الشرطة بإطلاق اللحى، وإصرار «المضيفات» على ارتداء الحجاب.. وهكذا تمت شيطنة المجتمع ثم صبغه بالتدين الشكلى!
مؤامرة اغتيال القوى الناعمة لمصر ليست بعيدة عن تحجيب الفنانات أو احتكار الفنانين.. وكل ما يدور حالياً من تراشق وجدال «أسرى» يتم استثماره على مواقع مثل «إنستجرام» هو «بيزنس» ليس بريئاً.
يدّعون أنهم «يتاجرون مع الله» بينما هم يتاجرون بالشعارات الأخلاقية لسلفنة المجتمع، يتاجرون بالفضائح.. ولا أظنهم خارج دائرة الشبهات.. لم أشأ أن أذكر أسماء أو مناصب أو زيجات أو ثروات، حتى لا أروِّج لخطاب الكراهية وتحريم الفن وأسخِّر قلمى لخدمتهم.. لكنهم يعرفون أنفسهم بالاسم.. أنتم أيضاً تعرفونهم لأن صفقاتهم الخفية والمعلنة تمت فى لحظة اعتزال ما بين لبس «الطرحة» وخلعها.
أما «فضل شاكر» فحالة صارخة وفاضحة لأنها مرتبطة بحكم القضاء اللبنانى.. لكن تظل محكمة الرأى العام معقودة: الجمهور وحده من يملك ورقة إعدام الفنان.. لست ملزماً بقبول واقعية فنان يعيش ازدواجية فيلم «الدكتور جيكل ومستر هايد».. ولا بتحمل كل هذه العجرفة والاستعلاء من فنانة اعتزلت أمس الأول وأصبحت «شيخة».. ثم ألقت عباءة المشيخة وعادت اليوم تحت إبط والدها الذى أنكرته من قبل لتهاجم من ينتقد تخبطها!!