منذ بدايات الذهاب الجدي والعملي نحو إنشاء وسائل إعلامية مرئية والكترونية دينية حديثة مستفيدة بكل تقنيات العصر ، كان الأمل دومًا أن تذهب جهود أهل تلك النوعية الجديدة الناشئة لتشكيل وتشييد منابرداعمة لثقافة توافيقية روحية معنية بإفشاء حالة من السلام الاجتماعي والوفاق الإنساني على أرض المحروسة..
وكان على تلك الكيانات الإعلامية المستحدثة أو التي تم تطويرها أن تتعاطى في تناولها لكل الملفات التي لها علاقة بالهوية والثقافة والتقاليد والطقوس والعبادات أن تدعمكل ما من شأنه دعم كل آليات تنشيط مفردات وآليات الوعي العام لدى مواطنينا ، فما قيمة الشمعة دون الشعلة ، وما قيمة الإعلام إن لم يكن للإنسان ؟..
لاشك أن الإعلام يعكس في النهاية فيما يقدمه ويتبناه أخلاق مجتمعه ، بارتكازه أولًا على القيم الإيجابيةالتي تتبناها المؤسسة الإعلامية والأشخاص العاملين فيها ، وأرى في انعكاس مشاكل الإعلاميين الأخلاقية وخروجهم على القيم والمثل السليمة تشويهًا لوظيفة الإعلام، فهي تؤدي دورًا يضاهي دور التربية البيتية والمدرسية والجامعية والمؤسسات الثقافية والتنويرية ، ينبغي أن تهدف إلى بناء مجتمع متميز أخلاقيًا ومتطور فكريًا..
ويبقى السؤال " هل يمكن في ظل عالم باتت فيه المعلومة الحقيقة غائمة في زمن تضاد التفاهمات بتلوناتها المتوهة ، وحيث أدوات النهي عاطلة عن العمل ، وفي زمن سقوط إعمال القوانين والأعراف في مجتمعاتنا الإنسانية بشكل عام يمكن أن ننعم بمجتمعات متقدمة وبشر أسوياء على أرض جمهورية جديدة نحيا في ظلالها؟
هل من مكان لتشريعات اجتماعية ومواثيق تًعلي القيم الإنسانية في زمن الجنون والحرائق والموت الشامل ..هل يبقى مكان للأخلاق والأخلاقيات ؟
ثم يكون السؤال الأهم ( موضوع المقال ) : وماذا يمكن أن تكون خطوات الذهاب لبناء إعلام ديني بمحددات روحية معينة لتفعيل رسائل الأديان ودعواتها العظيمة للناس للتعايش بسلام ومحبة وإعلاء للقيم الأخلاقية وفي مقدمتها نبذ الكراهية ومقاومة روح التعصب ؟
لقد نشرت مجلة "ساينس دايركت" العلمية مؤخرًا دراسة تكشف عما اعتبرته "السبب الحقيقي" لانتشار ظاهرة "التعصب الديني" حول العالم ، وأظهرت نتائجها أن زيادة نسب" الأصولية الدينية " أو التعصب والتطرف الديني لدى أي شخص، يرجع إلى خلل "عضوي" في منطقة معينة في الدماغ ..
وأظهرت الدراسة ، التي أعدها "جوردان جرافمان، من جامعة "نورث ويسترن" الأمريكية أن المعتقدات الإنسانية والمعتقدات الدينية، بطبيعة الحال، هي جزء من المخزون المعرفي والاجتماعي، الذي يميز البشر عن الكائنات الأخرى، وتتأثر العمليات الإدراكية والاجتماعية بتطور مناطق معينة في الدماغ البشري..
وحسب وكالة سبوتنيك، عكف جرافمان، وفريقه البحثي على فحص المئات من المحاربين القدماء في فيتنام، وأظهرت أنهم يعانون من خلل في جزء من الدماغ، يعرف باسم "قشرة الفص الجبهي البطني"، ووجد أن أولئك المحاربين يعانون من مستويات عالية من "التعصب الديني" مقارنة بالآخرين الذين لا يعانون من نفس الخلل ..
وتشير الدراسة إلى أن اختلاف طبيعة المعتقدات الدينية تحكمه مناطق معينة في الدماغ ، وتحديدًا الأجزاء الأمامية من الدماغ البشري ، ويعتقد أن "قشرة الفص الجبهي البطني"، تقع في الفص الأمامي من الدماغ، وتُعد مركزًا حيويًا لأنظمة المعتقدات ..
إنّ كلمة "تعصّب" مشتقّة من الجذر الثلاثي "ع ص ب" ، فبحسب ما جاء في المعجم العربيّ الأساسيّ، "عَصَبَ" يعصِب عصبًا الشيء، طواه، لوّاه ، - رأسه : شدّه بعُصابة ، عصبه الأمر : إشتدّ عليه ، "عصَّب" يُعصِّب تعصيبًا" |، أعصاب : شبه خيوط تنتشر في الجسم تنقل الحسّ والحركة ، "تعصَّبَ" يتعصّب تعصُّبًا لشخص أو مبدأ : غلا في التعلّق به، كان غيورًا عليه ، "عُصاب" : إضطراب نفسيّ أو عقليّ ، "عِصاب" : ما يشدّ به الرأس أو اليد ونحوهما من منديل وغيره ، "عِصابة" وعُصبة : جماعة من الناس أو الخيل أو الطير، وأصبحت الآن تُطلق على كلّ مجموعة منظّمة من المجرمين ..
بناءً على ما تقدّم، تقول الدكتورة " بيتسا إستيفانو" : " يُحدَّد "التعصّب" على أنّه المغالاة في الانتماء إلى جماعة، أو دين، أو عقيدة ، ويشكّل "المتعصّبون" عِصابة أو عُصبة، يجمعهم تشدّد في آرائهم، وتربطهم بعضهم ببعض خيوط "عصبيّة" تؤمّن تنقّل الحسّ والحركة بينهم كما العصب في الجسم ، وهذا "التعصّب" يجعل المتعصّب منعزلاً عن الآخرين ومنكفئًا على ذاته ، أمّا في التداول، يُشار إلى الشخص "المتعصّب" بالمتطرّف المتحمّس لعقيدته والمتشبّث بها إلى حدّ الانغلاق على أتباع الديانات الأخرى .. "
وكان الكاتب الفرنسيّ فولتير Voltaire (1694-1778) قد عرّفه في "مقبرة التعصّب" (1767) حيث قال "إنّ التعصّب هوس دينيّ فظيع، مرض معدٍ يُصيب العقل كالجدري ، وهؤلاء المتعصّبون قضاة ذوو أعصاب باردة يحكمون بالإعدام على الأبرياء الذين لم يفكّروا بنفس طريقتهم ولم يؤمنوا بمعتقدهم.. وإذا كان الشكّ هو جزء من الإيمان ، فإنّنا لا نتحدّث عن إيمان بل عن معرفة ، و المتعّصب يدّعي المعرفة وهو بالتالي لا يساوره أيّ شكّ ولا يحبّ المناقشة لأنّه يعتقد أنّ رأيه لا يحتمل أيّ نقد، فيبدو تشبّثه حالة مماثلة للعُصاب القهريّ ، و بحسب " فرويد " ، هناك مماثلة بين الدين وعُصاب الوسواس القهريّ في علاقتهما بالمحرّم والمقدّس والتشبّث بهما وفقًا لحتميّة داخليّة لا تقبل الجدل وكذلك الأمر بالنسبة إلى التعصّب ، فلكي يهرب الإنسان من التشتّت النفسيّ (العُصاب والفوبيا والهذيان هي آليّات تفاعل له) يلجأ إلى تقاليد دينيّة تتمحور أهدافها على أحاديّة المطلق معتبرةً أنّ التعدديّة تُشتّت وتبدّد، لذلك تقدّم هذه التقاليد دلالات موحّدة لحقيقة غير قابلة للمناقشة ..
عبر توجيه للرئيس " السيسي " لوزير الأوقاف ، قال " شوفوا تعملوا ندوة أو مؤتمر لمدة أسبوع أو أكتر علشان يبقى النقاش فى موضوع " الشأن العام " ويبقى من منظور اجتماعي وسياسي وديني وثقافي وفكري ، بس خلونا نشوف ده، وأرجو إن الإعلام يغطى بعد إعداد جيد لهذا الموضوع من الأوقاف ومشيخة الأزهر علشان الناس تسمعنا وإحنا بنتكلم يعنى إيه شأن عام لأن ده أمر مهم قوي وخطير جدًا في ظل الظروف اللى بتمر بمنطقتنا وبمصر، وبالتالي محتاجين نتكلم مع شعبنا إن المواضيع بيتم تناولها بشكل يخلينا نفرد لها وندي فرصة للكل يتكلم ويسمع، نظموها وأنا هحضر بس أرجو يكون فيه إعداد لأن مش هيكون بس على أد الدين، كان ممكن أقول لأجهزة الدولة تعمله لكن أنا قلت إن أهل الدين أولى بالحديث عن الشأن العام ..
ولعل الإعلام الديني بكل وسائطه وأدواره ومناقشة قضايا نبذ الكراهية ومجابهة كل أصحاب دعاوى التعصب المجنونة هي من أهم قضايا " الشأن العام " مادام القائم على تنظيم مثل تلك الفعالية واحدة من مؤسساتنا الدينية ..
عندما تتحول وسائل الإعلام إلى أداة فاعلة للشر وأن تكون الأبرز في إشعال النزاعات والصراعات والحروب ، فهي تضع البشر أمام خيارين: إما الإذعان للثقافة الواحدة المزيلة للحضارات وإما تبني ثقافة المشاركة وهو الخيار الذي اختارته الوسائل الإعلامية المعتدلة في أي موقع للإنسان المسكين المجني عليه ، والتي نأمل أن تكون الميديا الدينية الحديثة في صدارتها ..