يمثل تاريخ السيد بدير الفني علامة بارزة في تاريخ الفن المصري والعربي، ويستحق عن جدارة لقب الفنان الشامل، حيث عمل كمؤلف للسينما والتليفزيون والمسرح والإذاعة، وكذلك عمل كممثل ومخرج في شتي الفنون، لتبقى له علامات مضيئة في كل مجال منهم.
ويقول السيد بدير عن نفسه: ولدت يوم 11 يناير 1915 في قرية بمركز “بلقاس” التابع لمحافظة ” الدقهلية” لأب شرقاوي من محافظة الشرقية وأم من محافظة المنصورة، قضيت في”بلقاس” كما قيل لي سنتين، ومنها إلى المنصورة، ومن المنصورة إنتقلنا إلى قرية “أبو الشعوق” بمحافظة الشرقية، بعدها انتقلنا إلى القاهرة وأنا في الثامنة من عمري، والتحقت بإحدى المدارس الابتدائية في شبرا، وظللت في هذه المدرسة حتى انتهيت من دراستي الثانوية، وأثناء دراستي فى المرحلة الثانوية تعودت الذهاب إلى إحدى دور السينما فى شارع “عماد الدين”، وكانت خلف مسرح “الريحاني”، واسمها سينما “الشعب”، وكانت فى ذلك الوقت نهاية العشرينات تعرض الأفلام الصامتة، وكنت أشاهد الفيلم أكثر من مرة، حيث كانت بطاقة الدخول بخمسة مليمات.
وحدث فى هذه الفترة حدث غير حياتي كليا، ففي نهاية العام كانت المدرسة تقدم عرض مسرحي يقوم بتمثيله الطلبة، ووقع الاختيار على مسرحية “صلاح الدين ومملكة أورشليم” تأليف “أمين الخولي” لنقوم بتمثيلها، وأحضروا الأستاذ والفنان “عبدالقادر المسيري”، وهو أصلا موظف في وزارة العدل يهوى التمثيل، ويعمل كمحترف مع فرقة “رمسيس” لصاحبها “يوسف بك وهبي”، حضر “المسيري” وأجرى اختبارا للطلبة الذين يصلحوا للتمثيل، وحين تقدمت لكي ألقى المشهد الذي اخترته ونظرا لضخامة جسمي فوجئت بـ”المسيري” يقول لي قبل أن أنطق : يا ابني انصحك أن تتفرغ لدروسك ومذاكرتك، لأنك لا تصلح للتمثيل نهائيا!”.وكان هذا الموقف بمثابة صاعقة انقضت على، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أبكي، والطلبة من حولي يضحكون، فرق قلب “المسيري” على وسألني بحنان وعطف لماذا تبكي؟! فقلت له : لأني أحب التمثيل جدا، وحضرتك بتقول أني ما انفعش! فإذا به يقول لي: لأن المسرحية كلها معارك وجنود وأنت “كلبوظ أوي”، لا تصلح تكون جندي، بس حتكونمعايا، أنا حاخرج المسرحية، وأنت تعمل معي مساعد مخرج، فقلت له يعني ايه مساعد مخرج؟ أنا لا أعرف ماذا تعني هذه الكلمة؟ فإذا به يجيبني ضاحكا يعنى أنت تعرف ما هو التمثيل!
ثم بدأ يفهمني ماذا يجب أن أفعله كمساعد مخرج، وليس هذا فقط فقال لي ستكون “مدير مسرح”، وحين قال لي مدير مسرح عجبتني الكلمة رغم أنى لم أكن أعرف ماذا يفعل مدير المسرح هذا؟ وعملت معه فعلا، وكنت خلال العمل ملتزما تماما بما يقول وأنفذ كل شيئ بمنتهى الدقة وبنشاط واضح، وديناميكية أحسد عليها، وجعله هذا يقول لي بعد أن قدمت المسرحية ونجحت سأخذك معي إلى جمعية أنصار التمثيل والسينما.
وأخذني الأستاذ “المسيري” فعلا إلى الجمعية وكان عمري وقتها 16 عاما، وفي الجمعية بدأت أحس تماما بأني بدأت نشاطي الفني الحقيقي، فقد كان أعضاء الجمعية من كبار موظفي الدولة، ومن كبار هواة التمثيل المسرحي، كان في الجمعية مثلا “سليمان بك نجيب” كان وكيلا لوزارة الحقانية – العدل – و”محمدعبدالقدوس”مدير عام مصلحة الطرق والكبارى، و”عبدالوارث عسر”، مدير حسابات في وزارة المالية، وكان يرأس الجمعية الدكتور “فؤاد رشيد” وهو طبيب مشهور في تلك الأيام، وقد قدمني الأستاذ “عبدالقادر المسيري” لهم باعتباري مدير مسرح، فرحبوا جميعا بي، واعتبروني ابنا صغيرا لهم وبدأت أعمل فى إطار هذه الجمعية.مرت سنة واتنين وأنا أعمل مع الجمعية بمنتهى الدقة والنشاط والحيوية، حصلت خلالهما على “البكالوريا”، ومنها دخلت إلى كلية الطب البيطري مرغما، وفى أول أيامي فى الكلية أخذني أستاذي “المسيري” من يدي إلى مسرح “رمسيس” وقدمني إلى “يوسف بك وهبي” الذي انبهرت به وبمسرحه، وأثناء عملي في مسرح “رمسيس” جاءني عرض مغري لإخراج أول عمل مسرحي لي لجمعية “أنصار التمثيل والسينما”، فأخرجت لهم عام 1935 مسرحية “الأم بين جيلين”، وكانت مسرحية للتوعية، تتحدث عن وصايا يجب أن تتبعها الأمهات، وكيف يجب أن يتركن القابلة “الداية” ويتجهن إلى الحكيمات والطبيبات المختصات، وقد قدمت هذه المسرحية على مسرح الأزبكية، وكانت طريقي إلى دخول الإذاعة المصرية التى كانت قد افتتحت منذ شهور قليلة.ففي أحد الأيام وأنا أسير في الشارع سمعت صوت الممثلين في مسرحيتي يتحدثون فى الإذاعة عن مسرحيتي، وسمعت أجزاء من المسرحية تذاع دون علمي، فاستهوتني جدا هذه التجربة الجديدة، خاصة وأن الناس كلهم فى مصر كانوا يتحدثون عن الإذاعة كمولود جديد، فقررت أن أقدم مسرحيات خصيصا للإذاعة بنجوم الإذاعة، ولأنني لا أملك أفكار تصلح لهذا ذهبت إلى المكتبة واشتريت مجموعة من المسرحيات الأجنبية، وترجمتها، وذهبت بها إلى صديقي الإذاعي الشهير “محمد فتحي” الذي قرأ أول مسرحية ومزقها، ونفس الشيئ فعله في الثانية، والثالثة، وقال لي: هل تريد أن أمزق باقي المسرحيات التى ترجمتها أم تعيد كتابتها بشكل جيد؟!.
وبالفعل أعدت كتابتها وبعد شهر عدت إليه فقرأ الأولى فبدا عليه بعض الرضا، وقرأ الثانية فظهر على وجهه كل الرضا، وسكت لحظة ثم قال لي: والآن عليك أن تخرجها كما فعلت في “الأم بين جيلين”! فقلت له : ولكني مخرج مسرحي، فقال لي: أخرجها بالطريقة المسرحية وضع آلة التسجيل بين الممثلين، ولم ينتظر جوابا مني بل أخرج عقدا من درج مكتبه، ووقعه، وطلب مني أن أوقع، ووقعت دون أن أقرأ حرفا، لكنى ما كدت أخرج من غرفته حتى وجدت أن العقد بمبلغ 180 قرشا تشمل الترجمة والإخراج وأجور الممثلين، وسألت عن أجور الممثلين فعرفت أن السيدة زوزو نبيل تأخذ 20 قرش فى النص ساعة، وهكذا زوزو حمدي الحكيم،وباقي الأجور تترواح ما بين 15 إلى عشر قروش، فقلت هذا شيئ عظيم.
بعد سنوات من عملي فى الإذاعة ارتفع أجري إلى 25 جنيها، وأثناء ذلك تعاملت مع إذاعة الـ “BBC” ــ إذاعة لندن ــ الذين كانوا يدفعون لي ضعف هذا المبلغ بالجنية الاسترليني، بل وكانوا حين يعيدون إذاعة العمل يرسلون لي “شيكا” جديدا، ولم يمنعني عملي في الإذاعة المستمر، عن العمل في المسرح، بل وكان العملان يسيران فى خط متواز.وفى عام 1945 فوجئت بهاتف وكان المتحدث على الطرف الآخر شخص قال لي: أنا ” صلاح أبوسيف” رئيس قسم المونتاج فى استديو مصر، فقلت له : أهلا وسهلا، هل هناك خدمة أستطيع أن أقوم بها لك؟
وجدته يقول لي: الواقع نعم فقد كلفني الاستديو بأن أخرج فيلما سينمائيا وأنا من مستمعي الإذاعة، ومن المعجبين جدا بالحوار الذي تكتبه فىتمثليات الإذاعة، وأريد أن تكتب لي السيناريو والحوار لأول أفلامي ، فأجبته بكل صراحة ووضوح: لكني لا أفهم فى هذا يا أستاذ صلاح، فأنا لا أعرف من السينما إلا مشاهدة الأفلام، ولا أعرف كيف يكتب السيناريو السينمائي، ووجدته يجيبني: كل هذا لا يهم أنت موهوب فى الكتابة وتتقن فن الحوار وهذا يكفي، وسنجلس مع بعضنا ونتعاون على كتابة السيناريو، ووافقت بالطبع، وتواعدنا على لقاء فى جمعية أنصار التمثيل، ولم يحقق الفيلم نجاحا كبيرا، لكن كان بداية لتعاوني مع “أبوسيف” الذي كتبت له 90% من أفلامه، وطبعا لم أكتب “لصلاح” فقط بل كتبت لكثيرين، وكان من أوائل الذين تعاونوا معي بعد “صلاح” المخرج “حسن الإمام”، وبعد أن كتبت عدة سيناريوهات بدأ المخرجون يطلبون مني أن أكتب فى هذه السيناريوهات أدوارا لي، وبدأت أكتب لنفسي أدوارا صغيرة، وذات يوم جاءني المخرج “عباس كامل” وكان هذا عام 1949، وقال لي: عندي موضوع عن شخصية “كبير الرحيمية” الذي هو عمدة بلدة الرحيمية في الصعيد، والموضوع يمكن أن يشترك فيه “عبدالموجود” ابن كبير الرحيمية، وهو موضوع كوميدي، ثم شرح لي بعض التفاصيل كما يتخيلها، واستهوتني الفكرة، خصوصا عندما قال لي: وانت الذي ستمثل دور البطولة، ووافقت على كتابة الموضوع وبطولته، فقد كنت أهفو إلى الانتشار، هذا بالرغم من أنى كنت بهذا أدخل في صراع كبير مع نفسي فأنا في الإذاعة أقدم “هاملت وعطيل، وماكبث” وغيرها من روائع الأدب العالمي، وعلى في السينما أن أقدم “الواد التافه الساذج” ابن كبير الرحيمية الذي مثله معي “محمد التابعي” بشكل جميل جدا.
وفي عام 1951 كنت مديرا للتمثيليات بالأذاعة، وقمت بإخراج تمثيلية اذاعية كانت تحوي بين شخوصها ملكا ظالما يستولى على زوجات وزرائه، وقدمت التمثيلية بالفعل، وكان “كريم ثابت” مستشار الملك “فاروق” يومها مستشار الإذاعة، وكان مدير الإذاعة فى ذلك الوقت “حسني نجيب” شقيق الفنان “سليمان نجيب”، وكان يوم إذاعة التمثيلية يقضي إجازته في باريس، المهم بعد إذاعة هذه التمثيلية بيوم واحد، دعانا “كريم ثابت” إلى إجتماع حضره كل كتاب الإذاعة والمخرجين، وفوجئنا به فى هذا الإجتماع يقول لنا: أرجو أن تأخذوا علما بأن كلمة “ملك” أو “أمير” ممنوعة تماما في تمثيليات الإذاعة، ويستبدل بها عند الضرورة القصوى كلمة “حاكم” وأرجو أن يطبق ذلك فورا.و”استهبلت” وقلت له بمكر: عدم ذكر كلمة “ملك” أو “أمير” يطبق أيضا على “الملك العادل” أو “الأمير الطيب”، أي على الخير والشر؟ فنظر إلي بغضب وقال: نعم ينطبق على الخير والشر، والعادل والظالم يا أستاذ سيد، وأنت تعلم أنا أقول هذا الكلام لمن؟ ولماذا؟.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، ففي اليوم التالي صدر قرارا آخر يقضي بأن يقتصر إخراج التمثيليات الإذاعية على أربعة مخرجين من موظفي الإذاعة، ولم يكن اسمي من بينهم، بل وذكر فى البند الثاني من القرار المخرجون الذين لم تأت أسماؤهم فى هذا القرار هم محل نظر!
وقد سألت بعض الزملاء عن معنى جملة “محل نظر” فأفادوا هذا يعني إنك موقوف عن العمل!، وسألتهم ومرتبي؟ فقالوا ستقبض مرتبك كاملا بشرط أن لا تقوم بأي عمل، بل ويستحسن أيضا أن لا تأتي إلى الإذاعة، وحينها ساءت حالتي النفسية خاصة بعد أن نشرت الصحف خبر وقفي عن العمل، وقالت أن أسباب ذلك اننى قدمت تمثيلية لم يكن من المناسب أن تقدم، بعد جلوسي في البيت بحوالي أسبوع فوجئت في صندوق البريد الخاص بي في العمارة، منشورا كتب على الآلة الكاتبة يرفض الأوضاع القائمة، ويسب الملك “فاروق”، وموقع باسم الضباط الأحرار، وتوالت المنشورات، وقد عرفت أن هذه المنشورات لم تكن توضع فى صناديق كل سكان العمارة بل في صندوقي أنا بشكل خاص، فكنت أقرأها ثم أرتجف خوفا، وكنت اضطر بعد قراءاتها لأن أخفيها كي لا تقع في يد شخص غيري. لكن لم يمض وقت طويل على إرسال هذه المنشورات حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952 ، وفي يوم 27 يوليو أي بعد أربعة أيام من قيام الثورة، وفي الساعة الثامنة صباحا دق باب مسكني فقمت من نومي فزعا وأنا اتساءل : من ذلك الذي يطرق الباب فى تلك الساعة المبكرة، وفتحت الباب لأجد أمامي اثنان من ضباط الشرطة العسكرية قالا لي بنفس واحد : اتفضل معانا!