درس قاس بقلم:ماهر لطيف

درس قاس بقلم:ماهر لطيف
درس قاس بقلم:ماهر لطيف
 
 
حدثتني يوم الأحد الرابع من شهر أكتوبر سنة ثلاثة وعشرين والفين مساء بنبرتها الحزينة وصوتها الخافت الشجي المتقطع نتيجة بكائها المتواصل ونحيبها وعويلها، قالت وهي ترفع رأسها إلى السماء وتدعو الواحد الأحد وتلتجئ إليه وتستنجد به :
"حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل في كل من أوصلني إلى هذه الوضعية والحالة المزرية وقضى عليّ وعلى وجودي وأنا حية.... ،
حسبي الله ونعم الوكيل في كل من التزم الصمت ولم يحرك ساكنا وانتهج الذل والاستسلام والخنوع سبيلا ورقص وغنى واحتفل على ايقاعات آهات ودموع الثكالي ودماء الشهداء الجرحى واشلاء كل من نالت منه نيران العدو برا وبحرا وجوا....
حسبي الله ونعم الوكيل في عالم دافع عن الظالم وانتهك حقوق المظلوم، أعلى الشر ودك الخير دكا إلى أن وأده على هذه الأرض تحت وابل من التصفيق والتهليل والترحيب من قبل القاصي والداني....
حسبي الله ونعم الوكيل في حكام العرب وساستهم و ذوي النفوذ والقوة الذين اكتفوا كالعادة بالتنديد والشجب والرفض وغيرها من الشعارات الرنانة ولم يحركوا ساكنا ولم ينقضوا اخوانهم في الدين والهوية بأي شكل من الأشكال ولو بفتح معبر رفح لمرور المساعدات الإنسانية عنوة رغم رفض العدو الصهيوني الماكر الخبيث... َ
فقد كنت نائمة في بيتي سيدي بجانب زوجي وابنائي الخمسة وأبي وأمي وأخ زوجي وزوجته وابنائهما الستة وأختي واخت زوجي وعدد من اقاربنا الذين نزحوا من جنوب غزة  إلى شمالها كما طلب منهم العدو الغادر، واتخذوا من بيتنا ملجأ للجميع في انتظار انتهاء هذه الحرب الشعواء الظالمة.
فكنا نتقاسم كل شيء رغم قلته وندرته، نحمد الله ونشكره، نصلي باستمرار وندعو الله دون انقطاع، نحمي بعضنا البعض ونحرص على حماية عائلتنا قدر المستطاع، نتابع ما يحصل في وطننا المغتصب ونبكي بحرقة على ما يصلنا وما نشهد من ردة فعل محلية وعالمية....
المهم، كنا نياما بعد تعب سمر عدة أيام وعدم قدرتنا على الراحة جراء القصف المتواصل وأصوات القنابل والطائرات وفوهات الدبابات وأصوات الرشاشات وغيرها....، وكان الوقت يقترب من الفجر في هذه العمارة ذات العشر طوابق التي كنا نقطن اعلاها،فدوت أصوات الطائرات بقربنا بقوة شديدة حتى خلنا يوم القيامة قد حضر، مما جعلنا نستفيق ونحاول مغادرة المكان بسرعة والالتحاق بالشارع عسانا نجد مخبأ أو ملجأ يحمينا من ويلات صواريخ وقنابل هذه الغارة الغادرة، لكن الطائرات لم تمهلنا الوقت ولم ترحمنا وقصفتنا بكل وحشية وغل حتى دكت العمارة وجعلت اعلاها ادناها في لمح البصر، ولم تعد تسمع غير الصياح والاهات والتشهد والتوحيد والانين....
ورغم سقوط وابل من الحجارة والأسمنت وبعض الاثاث على جسدي وفقداني للوعي لفترة من الزمن وكنت انزف من أكثر من مكان والغبار يغزو ملامحي ومفاصلي، فقد حاولت التغلب على حالتي ومحاولة القيام بحثا عن ابنائي وبقية عائلتي، إلا أني لم أفلح في ذلك وازددت الما وعذابا، ومع ذلك صحت مثلما استطعت وكان صوتي يكاد لا يسمع:
- معاذ، سليمان، آدم، عبد الرحمن، هند، وصال..... (ولم اسمع ردا من اي من ابنائي)، لؤي
- (بعد صمت طويل سمعت جحرشة وصوت خافت للغاية مرفوقا باهات والم شديد) النجدة، النجدة، النجدة، الحقيني يا ريم (صمت وانا أحاول القيام مجددا وافشل كالعادة) أين ابنائي وبقية العائلة؟يا رب، يا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، آه .... (ثم صمت نهائي)
- (والدموع لا تنقطع الما وتاسفا على ما يحدث لنا) قم حبيبي ولا تستسلم، قم لنبحث عن فلذات كبداتنا وبقية اسرتنا،قم فما زال للحياة بقية بإذن الله (لكن الصمت كان مطبقا رغم النيران والانفجارات وبعض الاهات المتأتية من كل جانب...)
وبقيت أقاوم واحاول النهوض، أنادي واصيح، أبحث عمن ينصت لي ولم يكن ينصت لصوتي المنخفض المتقطع أحدا إلى أن اغمى عليً من جديد وفقدت وعيي مرة واحدة حتى وجدتني هنا بعد ساعات وساعات في هذا المشفى الممتلئ بالجرحي وأهاليهم ووسائل الإعلام والشهداء بمن فيهم عائلتي في هذا النور الزاخر بالموت بعد أن كنت في ظلمة تهدينا بعض حياة....
وها انك ترى كيف بترت رجلاي ويدي اليمنى وقضي على نزيف اجزائي ووقع إصلاح ما فسد في هذا الجسد النحيل البالي وصرت مقعدة دون منزل ولا عائل أو أنيس غير الله الواحد الأحد الذي احمده واشكره في كل آن وحين والتجئ إليه لاستمد منه القوة والصبر والتجلد والتحدي....
(بعد صمت لبعض الوقت و تقاسم ابتسامة عابرة ورفعها لرمز النصر بسبابة يدها ووسطاها عاليا وبصوت مرتفع) سننتصر يوما سيدي، وان طال الزمن، ستعود أرضى المغتصبة وتتحرر رغم المحن، سيعلو الأذان صومعة الأقصى الذي سيلجه ابناء وطني دون قيد أو شرط لتعلو راية هذا الوطن.....
سننتصر رغم محاولات بعض العرب والمسلمين الخونة الذين باعوا قضيتنا..... النصر لنا بإذن الله تعالى، لا تخف فنحن نزداد نضالا وتحديا وحبا لهذا الوطن كلما ازداد التنكر لنا والتنصل منا ورشنا بالبارود والرصاص والقنابل والموت التي تقضي علينا دون شفقة أو رحمة.... "