كان الأستاذ البيومي – وهو محق الحق كله - يرى أن عبد الرحمن شكري رائدا لم ينل حقه بين معاصريه، ولعل الأستاذ البيومي أول من لفت الأنظار إلى شكري الناقد بشهادة شكري نفسه، تلك الشهادة التي يذكرها الأستاذ نقولا يوسف تلميذ شكري " وأعلمت الأستاذ نقولا يوسف بما كان، فكتب إلىّ على عَجَلٍ يقول: إن ما كتبته صَادَفَ ارتياح الأديب الكبير، وأنه قرأه مسروراً كل السرور، وذكر أن الأقلام تتناوله شاعراً لا ناقداً، وأن هذا المقال قد ذكَرَ الناس به ناقدا ذا جد واجتهاد" ( )
وفي الشهادة السابقة تقدير وتجلة من الشاعر الكبير عبد الرحمن شكري لأديبنا الكبير الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي، وأستاذنا شكري لا يعرف المجاملة شأنه في ذلك شأن رواد الديوان جميعهم؛ لكنه تقدير الرجال، إن " أصدق ما تُمتَحَن به مقاييس الحياة في الأمم أن تُعرَف الفضائل التي يَزِنُون بها مقادير الرجال؛ ماذا يبتغون منهم وفي أية هيئة يحبون أن ينظروا إليهم؟ أيطلبون منهم حياة تكفيها حدود من الطعام والشراب والثياب المزركشة والأسماء الطنانة، ويوم واحد من الزمن يفتأ يتكرر على وتيرةٍ واحدةٍ ويُعَاد كما بُدئ إلى أن يطويَه الموت في ظلماته؟ أم يبتغون منهم حياةً لها حدودٌ ضاربةٌ في أوائل الآزال وأواخر الآباد تحتاج إلى سماءٍ عالية وآمادٍ غير متناهية وفضاءٍ مترع بالنور والجمال وأكوانٍ مفعمة بالقوى والأسرار وآلهةٍ تعمل في الجهر والخفاء، ولحظاتٍ سرمدية تمر كل لحظة منها باستكشافٍ جديد من الحياة وفنٍّ جديد من فنون الوجود؟ فإن كانت الأولى فانفض يديك منهم ولا تحدثهم عن عليين فإنهم يمشون إلى أسفل، ولا عن الجمال فإنه غير جميل لديهم، ولا عن معاني الحياة فإن حياتهم معنى واحد لا يفهمونه ولا يستحق أن يفهمه أحد". ( )
هكذا ظل الأستاذ البيومي وفيا لشكري في حياته، وبعد وفاته كان للبيومي الفضل الأكبر في جمع شعر شكري الذي لم يطبع في دواوينه السابقة، وكان يعدّ ذلك دينا في عنقه، وبذلك يبرهن البيومي على أن الوفاء للأساتذة ليس شعارات تردد؛ بل أفعالا تجسد واقعا ملموسا، يروي الدكتور البيومي قصة جمعه لما تفرق من شعر شكري فيقول:
" انتقل شكري إلى رحمة ربه وتحدثت الصحف اليومية والأسبوعية عن مأساة اعتزاله وإهمال القائمين على الثقافة لأمره، ودعت إلى إحياء آثاره الأدبية التي طبعت منذ أكثر من ربع قرن، ولم يعرف عنها الجيل الحاضر شيئًا، ولكن هذه الدعوة المخلصة ذهبت هباءً بدون استجابة وهنا نهض أحد الموسرين من تلاميذ عبد الرحمن شكري حين كان أستاذا بإحدى المدارس الثانوية بالإسكندرية، وهو الأستاذ عبد العزيز مخيون، فصمم على نشر ديوان شكري إحياء لذكراه، واتصل بالأستاذ نقولا يوسف لتحقيق هذا المأرب، وسارع نقولا بالاتصال بي، لأن معي تفويضاً من الشاعر بطبع ما أريد من مؤلفاته وهذا ما يسهل نشر الديوان بدون صعوبات قانونية، وقد حضر الأستاذ نقولا لزيارتي بالمنصورة، واتفق معي على أن يقوم هو بجمع أجزاء الدواوين المتفرقة، وهي جميعها لديه، تاركا لي أن أقوم ما تفرق في المجلات الأدبية من شعر لم يُنشر في أجزاء الديوان، وهى مهمة من الصعوبة بمكان لأنى أقيم بالمنصورة حينئذ، والدوريات الأدبية بالقاهرة، ولا سبيل إلى الذهاب للعاصمة إلا يوم الجمعة نظراً لعملي الرسمي، ولم أشأ أن أنكل عن عمل أدبى أعدّه دَيْنًا في عنقي للشاعر الكبير، فصممت على السفر المتواصل حتى جمعت ما أقدرني الله عليه وقَدَّمنه للأستاذ نقولا، فطلب منى مقدمة للديوان حدد حيزها المتواضع، على أن يكتب هو مقدمة تشمل حياة الشاعر وما يعرفه من اتصالاته وأخباره، فجاءت مقدمته ضافية واسعة."