من خلال الحسّ النبيل وتوفّر الولاء والإنتماء للوطن ، يُلدُ الحسّ الوطني النزيه . كما تُولدُ التضحية من أجله ، وتتوفرُ النخوة والشجاعة والشهامه والكرم في سبيله .
كثيرون هم الذين يقولون عن أنفسهم بأنهم وطنيون ، لكن ممارساتهم هي عكس هذا المنحى ، وأمام الجميع وعلى مرأى الجميع ، لذلك نقول بأن الوطني هو الذي يملك حسّاً وطنياً نبيلاً وهو الذي يملكُ كل أبجدية الولاء والإنتماء للوطن ولسيادته . فقد يوجد شخص ما ، أو جماعة ما ينعتون أنفسهم بالوطنية ويتحدثون بإسمها ولكن حال كونهم تابعون ويستقوون بالأجنبي على الوطن ، تسقط عنهم كل صفةٍ من صفات الوطنية .
فمن يستقوون ويستنجدون ويتلقون تعليماتهم من دوائر خارجية وأجنبية هم قولاً واحداً لا يمتّون ولا بأيةِ صلة للمفهوم وللمنطق الوطني ، ولا لحضن الوطن ، ولا لترابه ولا لنسيجه الوطني والاجتماعي .
طبعاً نحن نتناول هذا الجانب الذي هو طرفٌ من معادلة ذات طرفين ، " الوطن" - " المواطن " . فلكي يمارس المواطن وطنيته الحقة في الميدان ، لا بدّ من أن يكون هناك مناخاً سياسياً سليماً في الداخل ، كي يستطيع الإنسان أن يُمارس دوره فاعلاً مع الوطني الآخر ، بعيداً كل البعد عن سياسة القمع أو الإقصاء والتهميش ، والعمل بسياسة قبول الرأي الآخر بغض النظر إن كان يوافقني الرأي أم لا .
هذا الوطني وذاك الوطني يجب أن يشعر كل منهما بالمواطنة الحقيقية داخل الوطن ، وأن تكون أمور كل مواطن مؤمّنة من رعاية صحية وغذائية وتربوية ، ونزاهةٍ قضائية ومستوى معيشي يؤمن الحد الأدنى على الأقل من كرامة المواطن وراحته ، وتوفير التعايش الإيجابي المشترك بين كل مكونات مجتمع الدولة ككتلة واحدة .
فالإحساس بالشعور الوطني يتم بأعلى صوره من خلال تآلف التعددية السياسية في البلاد ، وليس من خلال سياسة الحزب الواحد وقمع الآخر ، والإستهتار بمطالب الشعب ، والإستبداد في المواقف ، فشتان بين الحالتين .
الوضع المعاش الآن في العديد من دول المنطقة هو وضع إستثنائي متدهور ، ويجب في هكذا وضع أن تتكاتف الأصوات الوطنية وتتوحد بهدف المساهمة الفاعلة في إنقاذ الوضع والأخذ بيد الوطن والأمة نحو بر الأمان .
فالبرامج الوطنية تحتاج إلى جهدٍ ونتائج إيجابية على عكس ما يُطبخ في الدوائر الأجنبية و وفق أجنداتٍ يعمل من خلالها الآخرون عبر التأجيج وإستلاب وإستحلاب عواطف الناس دون عقلهم ، أو مصالحهم ومصالح الوطن .
فمنذ أكثر من عشر سنوات بعض دول المنطقة تعاني من العدوان الذي فُرض عليها من خلال الربيع العبري المدعوم من خونة الوطن اللذين أججوا وطالبوا الغرب بالتدخل العسكري وقصف بلادهم بالطائرات ، فهل هؤلاء وطنيون ؟.
فهم في حقيقة الأمر لا يمثّلون إلاّ أنفسهم ومن يموّلهم ويدعمهم . فهل الوطنية هي أن ندعو الغرب وجيوشه لإحتلال بلادنا ؟ ، بكل تأكيد إنها خيانة عظمى ليس إلاّ .
وبنفس الوقت يجب أن يكون الوطن والمقصود هنا الحكومة أو القيادة مساهمة فاعلة في خلق مناخٍ سياسي إيجابي على الأرض ، كي نستطيع أن نقول أن هناك حسّاً وطنياً صادقاً في الشارع السياسي ، حيث يجب الدفاع عن حقوق الإنسان والقيام بإصلاحٍ سياسي شامل ، وإطلاق الحريات والتعددية ، وبتر الفساد وحيتانه ، والتمسّك سيادة القانون ، ونزاهة ونقاء القضاء ، وتحرير سياسة وإقتصاد البلاد من التبعية للخارج ، وبناء دولة المؤسسات ، وتعزيز المسار الديمقراطي وإحترام الرأي الآخر ، والفصل بين السلطات ، وإطلاق يد السلطة الرابعة " الإعلام " ، وإطلاق مؤسسات المجتمع المدني وفق الثوابت الوطنية ، والتداول السلمي للسلطة ، وإعطاء كل مكونات المجتمع الحقوق فيما بينهم بشكلٍ متساوٍ بعيداً عن سياسة المزايا والمحسوبيات .
ففي هكذا أجواء تخيّم عليها قيم العدل والسلام والحرية ، يتوالد الحسّ الوطني بشكلٍ سليم ، ويملك الوطن حرية قراره السياسي والاقتصادي في البلاد .
فحالة إحتكار السلطة ومن خلال سياسة الحزب الواحد تُقصي الصفة الوطنية ، فلا أستطيع أن أكون وطنياً وأنا أُمارسُ عملية الإقصاء ولا أعترفُ بالآخر ، حيث يُثمر الحوار في الأجواء السياسية الإيجابية فقط ، بينما إذا كانت سياسة الإقصاء قائمة ، فبكل تأكيد لا حوار يثمر ، ولا أبجديةً وطنية تنمو .
فالوطن ليس حكراً على فئةٍ ما دون سواها ، بل هو وطنٌ لكل الشعب وبكل مكوناته ، وفي هكذا حالة يجب أن تكون كل مؤسسات الدولة ممثَّلةً بالشعب ، وممثِّلةً للشعب ، وتؤدي كل وظائفها السياسية والإجتماعية والإقتصادية بكفاءةٍ وطنية عالية تحترم من خلالها الوطن وكل مكونات المجتمع بكل طوائفه ومذاهبهِ وأعراقه .
فالحسّ الوطني ينمو بشكله الأمثل مع زوال ثقافة الحقد والصراع ، وثقافة الكراهية والإقصاء من المجتمع . وأن تسود مكانها ثقافة التعايش المشترك ، والحرية والعدالة والديمقراطية على المستويات الثقافية والفكرية والتربوية داخل المجتمع . وأن يكون الوطن متمتّعاً بالتعددية السياسية ، فمن خلال ذلك المسار تعلو وتطفو الهوية الوطنية الجامعة لكل مكونات المجتمع ، وبالتالي إشراك كل هذه المكونات بشكلٍ فاعل في صناعة القرار السياسي والإقتصادي في البلاد .
لأن الوطنية تعني الولاء والإنتماء لهذا الوطن الذي نحيا عليه من خلال التفاعل بين طرفي المعادلة ، أي بين الوطن والمواطن . حيث تتوفر للمواطن حقوقه القانونية والدستورية كاملةً والتي يجب على الوطن إحترامها .
فالوطنية هي حسّ إيجابي جوهره الأساسي هو حب الخير والتضامن مع الآخر ، وهي أيضاً فكرٌ إنساني جوهره الحوار مع الآخر والتفاهم مع الآخر .
فلقد علّمنا التاريخ بأن من خان وطنه وإستقوى عليه بالأجنبي لا بُدَّ إلآّ سيدفع الثمن غالياً ، إمّا على يد شعبه الذي يلفظ كل من تنازل عن إنتمائه وعزته وكرامته ووفائه لوطنه ، أو على يدِ الأجنبي نفسه الذي سرعان ما يُضحي بعملائه ، ويتخلّى عنهم ويرميهم في حاويات قمامة التاريخ .
ومن جانبٍ آخر نقول إن الوطن " الحكومة " إذا سلك سلوك الأحادي بعيداً عن مجتمعه ، سيعيش محصوراً في عللٍ شخصيةٍ وإجتماعية وفكريةٍ متناقضة ، بحيثًُ تفقد هنا الوطنية معناها الحقيقي ليصبح الحب للوطن عبارة عن صفقة تجارية ، وهناك رابح وهناك خاسر ، وهناك مشاعر تنافسية نحو الأسوأ ، هكذا تكون هي الأحوال في هكذا حالة .
فالوطن ليس هو أنت ، وليس هو أنا ، وليس هو نحن ، بل هو بيتنا ولأولادنا ولأحفادنا جميعاً ، فهذا البيت إذا هُدّمَ بكل تأكيد سوف لن نجد لنا بيتاً يأوينا حتّى ولو فتح لنا كل
العالم بيوتاته .
فالوطن هو أكبر من الجميع ، ويتسع للجميع ، وهو أغلى وأكبر من كل الأشخاص ، ومن كل الأفكار والإتجاهات ، ومن كل المصالح والمكاسب والمحسوبيات .
فالوطن هو لوننا الذي نتميّز به ونفتخر به ونعتز ، والوطنية هنا هي الثوب الذي لا يمكننا الإستغناء عنه ولا في أي فصلٍ من الفصول .