حسني حنا يكتب : ماهية ومفهوم التاريخ عند الأمم والشعوب (2)

حسني حنا يكتب : ماهية ومفهوم التاريخ عند الأمم والشعوب (2)
حسني حنا يكتب : ماهية ومفهوم التاريخ عند الأمم والشعوب (2)


"أكثر الطرق فعالية لتدمير شعب ما، هي إنكار ومحو فهمهم لتاريخهم".
*George Orwell

عُرف الشعب الذي استوطن الساحل السوري، الممتد على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط باسم (فينيقي Phonix) وعرفت البلاد باسم (فينيقيا Phoenicia) وهما تسميتان اغريقيتان، ترجعان إلى زمن الشاعر اليوناني القديم هوميروس Homer  (القرن 8 ق.م) إن لم يكن أقدم من ذلك...
وفي المصادر المحلية نجد اسم (كنعاني) يُطلق على الشعب و(كنعان) على البلاد. وقد ورد هذا الاسم في الوثائق التاريخية لمصر وبلاد النهرين، كما نجد هذا الاسم في شمال أفريقيا، يتمسّك به من هم من أصل فينيقي، كما ذكر القديس أوغسطين St. Augustinus اسقف مدينة هيبو (عّنابة) في الجزائر. وقد تم الكشف عن نقود معدنية تعود الى الحقبة الهلسنتية من تاريخ سوريا جاء فيها (لاوديسيا في بلاد كنعان".

أصل الفينيقيين
يبدو أن تكّون الشعب الفينيقي عموماً، قد نتج عن تطوّر تاريخي في المنطقة السورية ، لاعن هجرة شعب جاء من الخارج . و يذكر المؤرخ الفينيقي فيلون الجبيلي  philo of Byblos (64 – 141 م) أن الفينيقيين اصيلون في موطنهم ، وأنه  ليس الناس وحدهم، بل الآلهة وكل الثقافة الإنسانية مصدرها بلادهم".

فيلون الجبيلي
يُعتبر فيلون الجبيلي، أول مؤرخ فينيقي معروف حتى الآن، نقل إلينا أخباراً عن بلاده، عن مؤلف أقدم منه، عاش قباه بقرون عديدة هو سانكونياتُن Sanchoniaton.
وفيلون الجبيلي هو مفكر فينيقي، ذو ثقافة اغريقية، وهو معروف من خلال عمله الرئيس (التاريخ الفينيقي) الذي لم تصلنا منه إلا مقتطفات، حفظها لنا المؤرخ اللاهوتي البيزنطي يوسبيوس القيصري Eusibius في كتابه (التاريخ الكنسي) في القرن الرابع للميلاد.

سنكونياتُن
من المعروف أن عمل فيلون المدعو (التاريخ الفينيقي) هو عبارة عن ترجمة لمصدر أصلي كتب من قبل شخص يُدعى سانكونياتُن، الذي عاش في مدينة بيروت، وكان يتمتع بإحترام كبير، لدقته وأمانته في كتابة التاريخ الفينيقي، ويقول فيلون: "إن عمله هو أكثر دقة من أي شيء آخر موجود في المصادر الإغريقية".
وفي زمن حرب طروادة Troy الذي يؤرخه بورفيريوس عادة بعام (1184 ق.م) وهو أول حادث تاريخي مسجّل لدى الاغريق، بينما تجهله المصادر الاغريقية، التاريخ الحقيقي للفينيقيين. ولم يرد عندهم ذكر سانكونياتن مثل فيلون الجبيلي. وقد جاء عنه في بعض المصادر. أنه فيلسوف صوري، عاش في زمن حرب طروادة، وكتب عن عقائد الفينيقيين، وكان محباً للحقيقة. جمع وكتب وأتمّ باللغة الفينيقية التاريخ القديم، من السجلات والوثائق المحفوظة في محتلف المدن الفينيقية، ومنها أوغاريت. آرواد. جبيل. بيروت. صيدا. وصور وغيرها.
ويذكر فيلون في مقدمة كتابه (الجزء الأول) مايلي:
"هذه هي الحقائق، سانكونياتُن ذو علم غزير، ومحبّ للاطلاع، رغب في أن يعرف كل إنسان ماحدث منذ البداية، عندما بدا الكون بالتشكيل بعناية تامة".
ويرى العالم إيسلفت Eissfeldt أن سانكونياتن عاش في بيروت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وترجم فيلون الجبيلي عمله من الفينيقية الى الاغريقية، وهذا يعني أن سانكونياتن عاش في زمن الأساطير الأوغاريتية وبالتالي اطّلع على مصادر مباشرة في كتابة تاريخه.

تاريخ فيلون الفينيقي
يعود هذا المؤلف الى العصر الهلنستي، الذي سادت فيه فكرة كتابة تاريخ العالم. وتاريخ فيلون الجبيلي هو تاريخ عالمي بأصل محلي، وهو يشبه غيره من الأعمال التي كتبت في تلك الفترة، مثل كتابات ديودورس الصقلي التاريخية وغيرها.
وصف فيلون الجبيلي الآلهة والميثولوجيا الفينيقية وصفاً مستفيضاً، يمكن تقسيمه الى ثلاثة أقسام هي: (أصل الكون) و(أصل الثقافة) و (حسب الآلهة) عّبر من خلالها عن المفاهيم القديمة في الديانة الفينيقية.
ويبدو أن فيلون أنجز عمله، لتحقيق فكرة أساسها هو عرض التاريخ الفينيقي، وإظهار مساهمات الفينيقيين، في الانجازات الحضارية الكبرى، التي حققتها للبشرية. وربما كان الهدف من ذلك، هو التعبير عن وطنيته، في وجه الثقافة الاغريقية، السائدة في ذلك العصر. ودليل اهتماماته الواسعة، وحسه الوطني، كما يدل على أنه كان مؤلفاً واسع الاطلاع...

العرب... لمحة تاريخية
ظهر العرب متأخرين على مسرح التاريخ بالنسبة للشعوب الأخرى، التي عاشت في منطقة الشرق الأوسط. وأنشأت ممالك وامبراطوريات وحضارات رائعة مثل السومريين والآشوريين والكلدانيين، والآراميين والكنعانيين، والمصريين القدماء وغيرهم. وذلك منذ نحو الألف الثالثة قبل الميلاد.
وأول ذكر للعرب في التاريخ، يعود الى القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك في نص أشوري، ورد فيه أن الملك شلمنصّر الثالث الذي حكم بين عامي (858- 824 ق.م) ورد فيه ان قد هزم (جندب العربي) مع فرسانه الذين كان معهم ألف جمل. ونحن لانعرف اليوم شيئاً عن ذلك الجندب ولا عن جماله. ومن الغرابة أن يكون ذكر أول عربي في التاريخ جاء مرتبطاً بالجمل!.. ويقول أحمد أمين: "ومن المعروف تاريخياً أن العرب غلبت عليهم البداوة وتأخروا عن جيرانهم في الحضارة، وهم لايبذلون جهداً عقلياً في تنظيم بيئتهم الطبيعية، كما يفعل الحضر. وهذا النوع من المعيشة لايرقي قومه ويسلمهم الى الحضارة" (أحمد أمين. فجر الاسلام ص4).
ويقول جرجي زيدان: "وإذا قلنا (العرب) اليوم. أردنا سكان جزيرة العرب والعراق ومصر والسودان والمغرب. أما قبل الاسلام فكان يُراد بـ (العرب) سكان جزيرة العرب فقط. لأن أهل الشام والعراق كانوا من الآراميين والكلدان والأنباط واليونان واليهود. وأهل مصر من الأقباط، وأهل المغرب من البربر واليونان والوندال، والسودان من النوبة والزنوج وغيرهم، فلما ظهر الاسلام وانتشر العرب في الأرض، وتوطنوا هذه البلاد. غلب لسانهم على ألسنة أهلها فسُمّوا عرباً.." (جرجي زيدان: العرب قبل الاسلام ص 41).
ونحن لانجد اليوم أية فائدة من القول بأن الآراميين والكنعانيين والآشوريين والكلدان والمصريين هم (عرب).
وقد أهملت الكتابات التاريخية عند العرب –ولازالت- السكان الأصليين لبلاد الشام والعراق ومصر والمغرب، وركّزت على تاريخ العرب والاسلام.

التاريخ عند العرب
في الحقيقة ثمّة ركام هائل من المدونات التاريخية  عند العرب تنوء تحت ثقلها الجبال كتبها الاخباريون والرواة والكتاب والمؤرخون، وإن مفردات هذا التاريخ ومواده الآولية، وعناصره المكوّنة موجودة فعلاً. وقد تم تدوينها، أما التاريخ نفسه كبناء متكامل فإنه لم يُكتب بعد...
إن تدوين الأحداث التاريخية شيء، وكتابة التاريخ شيء آخر. لقد عرف العرب (التدوين) وأتقنوه أما (التاريخ) كبناء فكري، من حيث هو استحضار للحياة الانسانية، التي مّر عليها الزمن –أو مرت به- فهو لم يُكتب بعد... هذه النقلة من تدوين التاريخ إلى كتابته هي (الحلقة المفقودة).


التاريخ الأبتر
في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا ندرّس تاريخاً (أبتراُ) نقتطع أكثر من ثلاثة آلاف عام من أوله تشمل التاريخ القديم والحقبتين اليونانية والرومانية، التي عرفت فيها البلاد قمة إزدهارها، وأربعمائة عام من آخره، وهي الحقبة العثمانية، التي عرفت فيها البلاد قمة التخلف والانحطاط. علماً أن التاريخ واحد، ويجب أن يتم تدريسه بروح واحدة، إلى جانب اهمال تاريخ الدول والشعوب المجاورة مثل اليونان والرومان والفرس والبيزنطيين، وكذلك سائر الاحقاب. ويقول المؤرخ الأمريكي الشهير Will Durant في كتابه (قصة الحضارة): "لاتوجد أمة في العالم. يتم تدريس تاريخها. بمعزل عن تواريخ باقي الأمم"...
إن التقوقع والتركيز على الذات، واجتزاء الأبحاث، جعلت الطالب لايعرف شيئاً عن أحداث العالم الكبرى، التي لاترد في مناهج التدريس مثل الثورة الفرنسية والأمريكية، والثورة الصناعية، وكذلك سائر الأحقاب والمراحل. وهذا يُفضي إلى تناول التاريخ كظواهر منفردة تتوالى على السطح، دون التيار التكويني العميق، وهكذا يفتقد التاريخ الى الوحدة العنصرية فيه، فكيف تكون له قدرة على أن يصوغ رابطة وطنية قوية؟!...
إن من يقرأ مدونات العرب التاريخية، يجد أن هذا التدوين، لايُلقي بالاً إلا على علية القوم من الحكام والأمراء والوزراء، الذين لاتذكر أسماؤهم الى اليوم، إلا وهي مطّعمة بألقاب التضخيم والتبجيل والتكريم، إضافة إلى أخبار الدسائس والمؤامرات التي كانت تحاك في القصور، وأخبار الغلمان والخصيان والجواري الحسان.
تلك المدونات كان يكتبها المؤرخ (الرسمي) الذي كان يكتب التاريخ بيد، بينما كانت يده الأخرى، تغوص في جيب الحاكم حتى الكتف. وهنا آل الأمر إلى إغفال المئات والآلاف من أبناء الشعب، الذين أسهموا في صنع تلك الأحداث، وما آلت إليه نتائجها سلباً أو إيجاباً. إضافة إلى إغفال (مقصود) للأقليات الدينية والعرقية وتهميشها، وتشويه سمعتها، حتى في كتب الأدب مثل ألف ليلة وليلة. وقد محا الأهمال ملامحهم والوجوه والأسماء أما عن إهمال المرأة ودورها في المجتمع، فحدّث ولاحرج!...

الوعي التاريخي عند العرب
إن الوعي التاريخي للحياة ومعطياتها، وقد تحول لدى الجموع الشعبية العربية، إلى مفاهيم سكونية. وقد تفتّت المجتمع، فهو مجموعة مجتمعات متباينة متفرقة، في وعاء الاسلام الكبير...
و بحجة (الدفاع) انحرف البيان الحضاري انحرافاً شديداً .. ازداد طابعه الديني ازدياداً كبيراً ،وساد التعصب  الشديد وأخذت الثقافة في البلدان العربية بالتدريج شكل ( القوقعة) الصلبة ، دفاعاً عن الذات، ودفاعاً عن الدين...
والعرب اليوم لا يشاركون في إنتاج الحضارة ، وقد ظلوا على الهامش البعيد عنها ، وهم يزدادون بعداً كل يوم. وصارت الجماهير الواسعة تعيش خارج، وبقيت عقلياتها السكونية تجتر ما اعتدادت عليه من الفكر الاستبدادي الأعمى ، وظلت على قناعاتها الموروثة عن قرون التخلف وعصر الانحطاط وقد أدىّ العدوان الخارجي المتصل، والجهل والتخلف و التعصب الديني إلى محق عملية التسامح والمساواة بين البشر ، وصارت العصبية الدينية طبيعة فيها، ومن ناحية ثانية تسطّح التاريخ، وألغي الزمن ... لقد تجمد الزمن لدى العرب ، فالتاريخ كله عندهم ليس أحداث متوالية ، وعناصر متفاعلة ، ولا صورة حركية متطورة . لكن صورة سكونية لماض بعيد وقريب معاً. صار الناس يتعاملون مع الزمن على أنه ثابت ، كتعاملهم مع المكان ... صاروا يعيشون الماضي متداخلاً مع الحاضر، و يستهلكون معارف قديمة، على أنها جديدة ، ويحسبونها حية وهي ميتة.
إن جميع رموز الثقافة والحضارة العربية - الإسلامية التي سلفت، صارت تعيش معنا، كما لو كنا جميعاً ، على مسرح واحد، في وقت واحد.
إن تاريخ العرب ، كان يمكن أن يكون أكثر إنسانية وتناغماً، والحضارة العربية أكثر تطوراً وتقدماً، لو كان الدين مفصولاً عن الدولة، وبعيداً عن السياسة.
لقد نظر العرب الى البلدان (المفتوحة) على أنها صفحة بيضاء دوّنوا عليها إرادتهم، فطمسوا تاريخها وحضارتها، وبّدلوا ثقافتها وغيروا ديانتها ولغاتها.
وفي الختام نقول إن التاريخ يتعامل مع الأحداث والشخصيات والظواهر ،وهو يكشف عن حقيقة بسيطة مؤداها، أن لاشيء يبقى على حاله، وأن كل شيء خاضع للتغيير، والتاريخ يُساعد على فهم الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل.