الحريَّة تلك المُفرَدَة التي تُغرّد بها كل طيور العالم ، ماهيّة غير محدَّدة ، وثابتة المضمون ، بكلماتٍ ، أو مقاييسٍ ، أو إشارات ، والتي تستطيع أن تحشد خلفها كل القوى التي يجب أن تكون فاعلة ، بدايةً من النُخبة ومرورًا بالناشطين، ومن ثُمّ القواعد الشعبيَّة فائقة التأثير.
الحريَّة هي فعلاً كلمة السِر، والشفرة الخفيَّة التي تتقدَّم مسيرات المطالِب الشعبيَّة في كلّ مكان ، فيما يفوق مضمونها كل هذه المطالِب ، من تحرُّرٍ ، وعدالةٍ اجتماعيَّة ، وكرامة إنسانيَّة .
الحريّة تلك هي البوصلة التي تحدد لنا مسار الدرب بكلِ دقةٍ و وضوح .
الحريَّة ، إنها تلك الآلية السلسة مطّاطة المضمون ، واسعة المفارِق والجسور والأنفاق ، بالغة التأثير ، لا التأثُّر ولا بأي شكلٍ من الأشكال .
إنها تلك الوصفة غير محدَّدة المكوِّنات ، أو المصادِر، أو المآلات ، إلاّ حقوق الانسان في المقام الأول .
الحرية التي جسّدها الخليفة عمر بن الخطاب ، والذي نشر قيم العدل والمساواة ، والذي قال " متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " والتي تُعتبر من أشهر ما قيل عبر التاريخ عن الحرية .
الحرية ، والتي لم يتم ذِكرها بالقرآن الكريم على الإطلاق لفظاً ، ومفهومًا ممسوخًا أو منسوخاً ، فيما جاء مضمونها في الكتاب الكريم بمعنى التحرُّر من العبودية ، وليس التحرُّر من المنظومات القانونيَّة ، والأمنية للبلاد! .
إنّها الحريَّة التي تُعدّ اليوم من أهم دوافع الانقلابات ، والتوتُّرات، والعصيان المدني ، وبشكلٍ عفوي وغريزي ضدّ القمع والفساد والاقصاء ، هذا بدون وعي بجدوى الدعوى بها على اختلافِ المراحِل ، وبالمفهوم المناسِب لتطبيقها بِهِ .
الحريَّة ، هي تلك المرحلة الهامة من مراحل التاريخ الإنساني، لا يتعدّى الهدف من المُطالبة بتطبيقها ، سوى اختلاق السيولة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والعسكرية، في المجتمعات المُستهدَفَة . الحريَّة وفي خِضم افتعال مضامين جديدة للثورات والمُتمثِّلة اليوم في الثورة القيميَّة ، لا تتعدى سوى نقطة ارتكاز واهِية، لاستهلاك قوى الحركات الوطنية في دويلات العالم الثالث ، فلا يجب أن تغدو الحرية كمطلب مُطلَق المضمون ، بل يجب أن تُوضع في إطارها المناسب والحقيقي والبنّاء، كي تُحقِّق الغاية من المُطالبة بتطبيقها .
فمعنى الحريَّة يختلف باختلاف أيديولوجيات المُطالبينَ بها ووجهاتهم ، فيُنادي بها الليبرالي كوسيلة للتخلُّص من كل القيود ، حتى الإيجابي منها ، والمشارَكة في صنع القرار حتى السيادي منه . أما اليميني، فينادي بها كنوعٍ من تجميل الوجه وإعطاء مسحة ديمقراطيَّة على الأدّعاءات السياسية لمعسكره . وبالنسبة لليسار الماركسي فيُنادي بالحريَّة على أنها تقودُ إلى مجتمع غير طبقي ، وتؤسِّس إلى تطبيق الاشتراكيَّة .
و اليسار القومي يُنادي بالحريَّة كتخلُّص من الاستبداد والتبعية ، وكجسرٍ لتطبيق العدالة وسيادة القانون والوِحدة العربيَّة .
أما الشعب فمعنى الحريَّة لديه مختلف ، عمّا لدى النُخبة، والناشطين ، فالشعب إنما يُنادي بالحريَّة، على أنها مُدخلات للوصول للكّلِ ، بل لأدنى مطالبة بالغة الضرورة ، مثل العيش بكرامة ، والعدالة الاجتماعيَّة وبتر الفساد والفاسدين ، وسيادة القانون ، والتداول السلمي للسلطة ، فالشعوب لا ترى الحريَّة إلا من مُنطلق مطالِب عادِلة ، تؤدّي بشكلٍ مجرَّد إلى الوصول والتمتع بحياة كريمة عزيزة ؛ فلا يعنيها هُنا أي أيديولوجيَّة ، ولا أجندات، ولا توجُّهات ولا تبعيّات ، لا يعنيها سوى الحياة بأقل قدر متاح من العدالة ، وتلبية المطالب المحقّة للانسان .
لذلك نرى الشعوب والتي عليها الرهان الأخير في التغيير وفي إنجاز الثورات ، وفي مآلات الأمور ، لا يمكن استغلالها في صُنع تغيير لصالح أي فريق ، إلاّ إذا كان يخدم متطلَّباتها ومصالحها قولاً واحداً .
الشعوب تقود نُخبتها إلى مربع رغباتها ، فلا يتم عبور مرحلة إلى أخرى كقفزةٍ نوعية ، دونما حسمٍ من هذه الشعوب ، التي هي شُعلاتُ الثورات ، ومحض استهدافاتِها ، ومرسى نتائجها ، إنها الحرية ، إنّه الانسان .