الحلقة الأولى
********
تثاءب فرانك وهو يفتح عينيه بعد ليلة من النوم العميق، لأول مرة منذ سنوات طويلة أمضاها في العمل بالشرطة يشعر بأنه حر في موعد استيقاظه ، الصباح الأول له بعد أن استقال من العمل الذي دأب عليه لفترة تجاوزت عشرة أعوام ، قرر بعدها أن يعمل لحسابه الخاص ، مستصوب فكرة إنشاء مكتب للتحريات الخاصة ، إحساس بالتفاؤل وهو يستقبل اليوم بسيل من أشعة الشمس فاضت على الغرفة عندما أزاح ستائر النافذة لتكشف عن يوم بهيج من أيام شهر مايو ، أزاحت الأشجار عن كتفيها جفاف الشتاء وبدت في ثوبها الجديد ، التفتت بخضرة ندية لم تكتس بها سوى من أيام قليلة ، تبعثرت الألوان مختلفة وزاهية تُكلل هامات الشجيرات ، ولم تبخل على الأرض فأهدتها بعضاً منها فتلونت الممرات بين المنازل وكأنها نُقِشت بريشة فنان ماهر لتكون إطارا للأرض الخضراء التي اعتلتها بعض البيوت الأنيقة ، تفصل بينها مساحات متسعة لتسمح للهواء أن ينساب بينها ويتسلل برقة من خلال النوافذ حاملاً معه عبق الربيع وسحره ورائحة ندى الصباح على العشب الرطب ، ارتد فرانك عن النافذة بعد أن ملأ بصره وصدره من عطايا الربيع الرقيقة ، نظر في المرآة الكبيرة التي تستوقفه كل يوم أمامها ليستعرض عضلاته المتكورة التي تزداد قفزاً عقب التمارين اليومية ، احتفظ بقوام رياضي يحسده عليه من ترهلت كروشهم ، وزيادة في الشعور بحرية البعد عن العمل الروتيني ، قرر أن يمنح عطلة للموسى الذي دأب المرور علي لحيته كل صباح طيلة العشر أعوام الماضية ، اليوم يجب أن يشعر ببعض التغيير في نمط حياته ، لكنه لن يتخلى عن حمامه البارد الذي كان يشعر له بمتعة خاصة عندما يندفع الماء ليضرب جلده فتجتاحه قشعريرة سرعان ما تنقلب إلى دفء لذيذ يغمر كل جسده مصحوباً بنشاط غير عادي . دق جرس الهاتف وهو لا يزال يجفف رأسه ليستمع على الطرف الآخر لصوت أخيه جاك:
_ هالو.. هالو.. هالو
_ هالو جاك.. معذرة لتأخري في الرد لا زلت أتجفف بعد حمامي البارد.
_ صباح الخير فرانك، لم تستيقظ مبكراً كعادتك! .
أجاب فرانك مُذكراً:
_ صباح الخير جاك.. هل نسيت أنني اليوم تحررت من قيود العمل.
علق جاك مازحاً:
_ أعلم لكن لم أكن أتخيل أنك ستركن للكسل منذ اليوم الأول.
قال فرانك ضاحكاً:
_ بعض الراحة لن يضر، لست كسولاً، سأتوجه الآن لشراء بعض مستلزمات المنزل وأشعر بهاتف داخلي أن هذا الاتصال لتكليفي بشراء بعض مستلزمات منزلك أيضا.
_ لقد أجدت التخمين.. قال جاك ضاحكاً ثم مسترسلاً.. بعض الأشياء المعهودة التي دأبت على إحضارها، ثم خافضا صوته.. إياك أن تنسي البيض الذي تطلبه حماتي دائما فيكون عقابك مضاعفا، فلقد وشيت لابنتها التي وشت بدورها لأمها بما تفوهت به عليهما وأقسمت أن تلقنك درساً في السلوك المهذب، وصلت الضحكة إلى طور القهقهة وهو يقول لا تخشى شيئا ستجدني بجانبك.
علق فرانك ضاحكاً:
_ حسنا سآتيك بما طلبت خلال ساعة واحدة ولنرى ماذا ستفعله حماتك بي .
جاك الأخ الأكبر لفرانك بفارق خمس سنوات، وبالرغم من هذا الفارق الذي يعد كبيراً إلا أن التقارب بينهما كان شديداً، نفس الميول تقريباً، لم يتطرق الخلاف بينهما أبداً سوي هذه المشاحنات البسيطة التي تحدث بين الإخوة وسرعان ما تزول . بدأ جاك عمله بالشرطة أيضا لكنه تركها بعد أن حصل على شهادة الحقوق ليعمل بالمحاماة ، تزوج وهو في الثامنة والعشرين من " ماري" التي تصغره بسبعة أعوام وأنجب منها طفلتيه ، فضل أن يكون له سكنه المستقل رغم محاولات والدة زوجته التي باءت جميعها بالفشل لحملهما على الإقامة معها، بعد أن أصبحت وحيدة بوفاة زوجها وهي لا تزال في نهاية عقدها الرابع ، لكنهما أصرا أن يكون لهما بيتهما الخاص وتأتي هي لتقيم معهما على أن تتردد على بيتها كل فترة لمجرد الاعتناء به وتنظيفه ، لم تمانع حماته " جولي" في قبول هذا العرض وخاصة أنها كانت لا تفكر في الزواج ثانية في ذلك الوقت ، لكن هذا التفكير الرافض للزواج تراجع أمام مناوشات والد " جاك " الذي رحلت زوجته عن العالم إثر حادث طائرة ، وعدته "جولي " بالتفكير في عرضه للزواج منها وإن كانت قد أقرته مسبقا لكنها أرادت أن تُظهر دلال الفتيات ، مدفوعة بصباها الذي لم يفارقها بالرغم من سنوات عمرها ، تبدو كأخت كبرى لابنتها ماري ، تخطئ العين الخبيرة في تقدير أعوامها التي كان تظهرها وكأنها لا تزال في عذريتها ، شارك الجمال وعنايتها الفائقة بنفسها ومرحها الدائم على التغطية على هذا العمر ، كثيرا ما كان فرانك يمازحها قائلا .. لكم أحقد على أبي الذي سبق وأختطفك ، فتجيبه مازحة : ومن قال لك بأنني كنت سأوافق بك وقد تعديت عقدك الثالث ولم تتزوج بعد !، بلغ فرانك هذا العمر ولم يكن قد تزوج بعد ، شغله عمله ورغبته في أن يتمتع بمباهج الحياة قبل أن يسلم القيود لزوجة تزين بها معصميه كحد تعبيره ، لم يبخل ليحقق لنفسه كل المباهج ، اشترى بيتاً كبيراً في مكان هادئ وسيارة يستبدلها لطراز أحدث كل عام ، اكتفى من النساء بعلاقة واحدة مع صديقته " بات " ، التي كانت تعمل جاهدة وتحاول بشتى الطرق لتحوله من مجرد صديق يرفرف بجناحي الحرية إلى زوج تُغلق عليه القفص الذهبي ، دافع دفاع المستبسل عن حريته وفضل أن يكون واضحاً معها منذ البداية إزاء مناوراتها التي لم تهدأ للإيقاع به في شرك الزواج ، كم حاولت أن تُنهي علاقتها به وهي تردد أمامه صائحة أن علاقتها معه لا تتعدى علاقة غانية بعشيق ، فيجيبها ضاحكاً : على كل حال فهي أفضل من علاقة زوجة تتربع فوق صدر زوجها إلى أن يلفظ النفس الأخير ، كثيرا ما كان يتلقى بضع ضربات بالوسادة عقاباً على إجابته الثقيلة الظل على حد تعبيرها ، تفارقه وهي غاضبة لكنها سرعان ما تعود إليه ، كل مرة تهدد بأنها ستكون المرة الأخيرة . لن نترك الحديث عن الأخوين جاك وفرانك يأخذنا بعيدا عن أبيهما " مستر رايس " كما كان يناديه الجميع حتى أسرته، أُضيف لقب مستر لاسمه منذ فترة طويلة عندما كان يعمل بوزارة الخارجية، وعملت تحت رئاسته فتاة من أصل إنجليزي أصرت أن تناديه بمستر بالرغم من أن الجميع كانوا ينادونه باسمه مجرداً، ظلت تناديه بهذا الاسم الملقب حتى بعد أن صارت زوجته وأنجبت له جاك وفرانك. حزن واكتأب عقب وفاتها ، كثيرا ما كان يتذكرها وهو في غرفة نومهما يجتر ذكريات الماضي تردد مبتسمة في لحظاتها الأخيرة وهي راقدة بالمستشفى على أثر حادثة الطائرة ، كنت لي زوجاً طيباً مستر رايس ، بعدها قرر ولفترة طويلة عدم التفكير في الزواج ثانية أو حتى اتخاذ صديقة تؤنس من وحدته ، إلى أن ظهرت أمامه " جولي " حماة ابنه جاك وكان قد مل الانفراد بنفسه بعد زواج ابنه جاك واستقلال فرانك بمنزله ، لفتت جولي نظره بقوامها الممشوق وخفة ظلها ، فاجأها ذات يوم بقوله : هل تقبلينني زوجاً أيتها الطفلة المدللة ، أجابته وهي تهز كتفيها ، دعني أفكر فقد أجد فيك ما يغريني على القبول ،وفي الحقيقة كان مستر رايس به ما يغري الكثيرات ، يبدو كفرسان القرون الماضية بشهامته ورجولته علاوة على حديث طلي يجذب الجميع حوله ، بدأ بعدها مستر رايس في إجراء إصلاحات ببيته ليستقبل فيه عروسه متأكداً أنها ترغب فيه من كل قلبها ، كثيرا ما ضبطها وهي تختلس نحوه نظرات الإعجاب وكثيراً ما اختصته بقطعة كبيرة من الكعكة التي تتقن صنعها ، بل كثيرا ما كانت تختصه بقطعة أخرى ليأخذها معه إلى المنزل ، ولم يكن هو بالرجل الذي يجهل النساء متي أحببن.
ارتدى فرانك ثيابه على عجل، وعد جاك بأن يذهب إليه خلال ساعة واحدة حاملاً إليه ما أوصاه به، قاد سيارته إلى أحد المحال الكبرى التي كانت تتكدس بكل كبيرة وصغيرة من السلع التي يحتاج إليها المستهلك، فلا يخرج منها إلا ويكون قد حصل على كل ما يحتاجه تاركاً في خزينتها ما بحافظته من النقود . دأب فرانك أن يدون في ورقة كل ما يحتاجه دون زيادة أو نقص، ولا يضع سلعة في العربة التي يدفعها أمامه إلا بعد أن يفحص تاريخ صلاحيتها والسعر المدون عليها، لم يكن هذا عن بخل، يرفض أن يدفع سعراً لسلعة يفوق قيمتها ، ينظر إلى النساء وهن يضعن أكواماً من السلع في العربات دون التحقق من السعر فيردد في نفسه ولدن مغفلات ويعشن مغفلات ويمتن مغفلات . ذات يوم اصطحب جاك وزوجته ماري للتسوق، اكتشف أن ماري تفعل نفس الشيء وقد أصبحت غير قادرة على دفع عربتها الممتلئة، همس في أذن جاك بأن زوجته تخطف السلع من فوق الأرفف وتلقي بها في العربة دون حتى التحقق من أسعارها ، همس جاك في أذنه بأنها تفعل نفس الشيء الذي تفعله أمها ، همس فرانك في أذنه مازحا.. زوجتك مغفلة بنت مغفلة، نظر إليه جاك وقد لاحت فوق شفتيه ابتسامة ماكرة قائلاً: لست أعلم لكن أعدك بأني سأنقل لهما رأيك، قبض فرانك على ذراعه يرجوه ألا يفعل فهو ليس بحاجة إلى توبيخيات حماته جولي، لكن جاك لم يصبر كثيراً ، نقل لها رأي فرانك في نفس اليوم ، فوشت به عند أمها . يطيب لفرانك أن يشاهد ما ينشب دائما من مناقشات مضحكة بين فرانك وحماته، فرانك يعد نفسه لواحدة منها اليوم بعد أن أخبره جاك بأنه وشي به.
انتهي فرانك من شراء كل ما يلزم ، راجع قائمة المشتريات عدة مرات خوفاً أن يكون قد سقط منها شيء ، لم يكن ينقصه سوى البيض ، توجه نحو الأرفف المبردة التي يتكدس فوقها أنواعاً كثيرة منه ، وجد أمامه عربة مليئة بعلب البيض التي لم يضعها العامل بعد في مكانها على الأرفف المبردة ، في أغلب الأحيان يكون هذا البيض قادماً لتوه من المزرعة ، وهذا يعني أنه طازج ولم يخزن بعد ، قرر أن يأخذ منه ست علب حيث تحتوي كل علبة على دستة لكي يُعطي لحماة أخيه " جولي " ثلاثة ويحتفظ لنفسه بثلاثة ، البيض المقلي من أكلاته المفضلة التي لا يملها . لم تكد يده تمتد لتلتقط أول علبة حتى وجد أمامه العامل الذي كان منكباً على تنظيم البيض في الأرفف السفلي قد نهض ووضع يده فوق علب البيض التي تملأ العربة قائلا وهو يقترب بفمه من أذنه والكلمات تقفز من بين شفتيه متلاحقة هامسة: هل تريد دجاجاً أم بيضاً؟ أن كنت تريد بيضاً فخذ ما تريده من فوق الأرفف أما إذا كنت تريد دجاجاً فخذ من فوق العربة ، ولتعلم أنه دجاج أبيض وأحمر وأسود ، مازحه فرانك مقلداً لهجته وهو يمد يده ليأخذ العلب من العربة بقوله : أريد دجاجاً وسآخذ علبتين من الدجاج الأبيض ، وعلبتين من الدجاج الأحمر ، وعلبتين من الدجاج الأسود ، سارع العامل بوضع يده مرة ثانية على ما انتقاه فرانك من علب وهو يقول له بلهجة جادة وقد رفع يده الأخرى موضحا : آسف يا سيدي فأنك لا تستطيع هذا ، لا توجد علبة مخصصة لكل نوع ، ما بداخل العلبة خليط من الدجاج الأبيض والأحمر والأسود ، ضحك فرانك وهو يبعد يده ليتمكن من وضع علب البيض فوق عربته مفضلا عدم الاستمرار في المزاح معه ، خاصة بعد أن نظر إلى وجهه المنغولي ورأسه الكبير الذي يوحي أنه معوق بعض الشيء وقال له وهو يتظاهر بالجدية : شكرا لهذه المعلومة التي ستفيدني قطعا عند طهي هذا البيض ، نظر العامل نحوه باستياء وتركه مغادرا وهو يرفع ذراعيه لأعلى وكأنه يبرئ نفسه مما قد يحدث ، يردد بصوت مرتفع ، لقد قلت له أن هذا ليس بيض لكنه دجاج أحمر وأبيض وأسود وهو لا يصدق ، تأكد فرانك من اختلال عقله وخاصة بعد أن رآه للمرة الثانية وهو يضع ما تسوقه داخل السيارة وكان العامل يسير مهرولاً بطريقة غير طبيعية ، وعندما رأى فرانك توقف وصاح : أنه دجاج أحمر وأبيض وأسود .
وإلى اللقاء مع الحلقة التالية؛