استفزّه الفضول فاقترب على حَذرٍ من لمةٍ افترشت أسفلَ الكافورة العتيقة ، كانت أحاديث انفلاتهم تُجدّد في نفسِه سلوى قديمة وتنثر في زوايا نفسه المنى ، أن يَكُبر ويُصبح مثلهم ، يَرتاد البندر ويذهب في صُحبةٍ يَسطو على عَرباِت القصب ، المزدحمة أمام مصنع السُّكر ، يَأكُله الطّيش أكلا ، فيَسرح بخيالِ مُراوغ يُجرب حَظَّه؛ أن يعتلي قطار القصب ، يُناوش حُرّاسه ، وتلك مظاهر الفتوة ، وعادة يأتيها كل من سبقوه من روّادِ مدرسة الصَّنايع . .
عَاشَ " حسين صبره " يَلوكُ الصَّبرَ ، يَخرجُ مع الصَّباحِ بانتظام ٍفي طَقسٍ شِبه مُعتاد ، يُطَالعُ من تحَتِ عَينٍ كسَّرتها خُيوطَ الشَّمس الحَمئة جماعتهم في شَرهٍ وتَشهّي ، وقد شمََّروا عن سَاعدِ الجد ، يَستذكرون مخططهم الآثم على مَلأٍ ، عندها يَنصرفُ في كَمدٍ مَغموما ، يجتر أحلام القَهر ، يُوجِع ظَهرَ حِماره الهَزيل بَعصا السّيسبان اللَّينة ، يَتمّنى لو استطاعَ طيّ الحَاضرَ ، فيختصر ما تبَقّى من سَنواتٍ ، فيجد مكانا بين الهجَّامة،
لم يبخل عليه زمانه بأمنيةٍ ، فبعدَ أعوامِ الانتظار ، لانت له الفرصة ووجد نفسه بين جدران مدرسة الصنايع حِلُم أمسه ، ومُنذ وَطأت أقدامه وهو لا يَقوى على كبَحِ جِماح رغبات نفسه المُستعرة ، يلعقُ شفتيه في لُهاثٍ وقد تَحجَّر حَلقه من الانتظار ، يتَنقَّل في تَهورٍ بين المجاميع المُتكاثرة أمام البوابةِ ، عَلَّهُ يعثر بينهم على ضَالتهِ ، بدايةً لم يُحَالِفه الحَظّ كما تأمّل ، لشهرٍ كامل يَعودُ خالي الوِفاض ، وهواجس الأمس لا تنقطع عن رأسهِ تُنازعه ، فصافرة القطار أفسدت عليه أحلامه ، لتعيده أكثر تَصميما من ذي قبل ، حتَّى ابتسمَ له القدر ورَقَّ لحَالهِ ، فألقاهُ في طَريقِ عِصابةٍ من أبناءِ الشَّارع ، وجَدوا من اندفاعِه وصلابة عوده ضالتهم المنشودة ، كانت مهمته تلهية الحُراس ريثما يتَمكَّن البقية من سرقةِ أعواد القصب ، هكذا سطع نجمه سريعا ، وامتلأ بطنه من العصير الشهي حتى اكتفى ، لم يكن يعني أمه من شيءٍ ، غير أن يعود فتاها بحملٍ يرضيها ، تستقبله على فمِ الزِّقاق بابتسامةٍ اطمئنان ، قائلةً في زهوٍ:" يسلم البطل ، هكذا يكون الرجال "، كانت كلمات حمَاستها تُلهِبُ مشاعره وتَزيد في ثقتهِ ، وتُنسيه يتمه الذي احترقَ بهِ صَغيرا ولو لبعضِ الوقت ، ذَاعَ صيته مع الأيامِ حتى أصَبحَ مَقصد كُلّ لِصٍّ مُتبطّل ، يرى في شَجاعتهِ وإقدامه وخِفَّة يده ما يفي بالغرض ، تَوسَّع نشاطه فلم يكن قطار القصب مُنيته ، بل تَعدَّت أمانيه غلته الشَّحيحة ينتظرها من أشهرٍ قلائل ، ابتلعه وعصابته ظلام الحقول البعيدة التي تفيض بالخَير ِ ، فملأ على أمهِ الدارَ بكُلِّ صِنفٍ تَطاله يده ، والمرأة مُنتَشيةٌ ترَفع يدها عند كلِّ مساءٍ أن يستر عليه السَّتار وأن يكفه وإخوانه شر الأشرار ، لكنَ جرَأته وهجماته المُتكرّرة أغَاظت خَفر الحقول ، الذين تَربَّصوا بهِ الدَّوائرَ وعَقدوا العزَمَ عَلى اجتثاثِ شَأفته ، لا يعنيه أمرِ تَربصهم شيء طَالما انتفخت محفظته بالجنيهات ، وطَالما كانت الوالدة في رضا عنه ، حتى كان ذات ليلةٍ ، وبيَنما عَائِدٌ من إحدى هجماته ، وإذ برصاصةٍ مجهولة تَشُق طبقات الظَّلام لتَستَقرّ في صَدرهِ ، تَفرّقَ عنه رجاله ، ليتركوه جثةً مُلقاة وسط الحقولِ ، وبعدَ أسبوع من الحادثةِ ، أُغلِقَ المَحضر ، وقُيدت ضد مجهول ، انتهى أجله ، لكنَّ مطامع النَّفس دائمة لا تنتهي ، وفي كلّ يومٍ يظهر هجَّامٌ جديد.