قصة قصيرة : قفص فلفل .. بقلم سيد عبد العال سيد

قصة قصيرة : قفص فلفل .. بقلم سيد عبد العال سيد
قصة قصيرة : قفص فلفل .. بقلم سيد عبد العال سيد
 
قبل أن ينجلي الصبح تلبدتْ السماء بسحب كثيفة محملة بقطرات المطر الملحي التي ترسلها من وقتٍ لآخر.. يتوافد البائعون إلى أرض السوق يحمل كلُ منهم على كتفه لفة أجوله  فارغة من البلاستك، منتشرين في طرقات المحلات الضيقة ، باحثين عن أجود أصناف الخضار ،عينات البطاطس مرصوصة على أشكال هرامية، تستهوي البائعين للنظر المطول إليها ولا يشترون.. أصوات تنادي بأسعار رخيصة وأخري مرتفعة عربات ( الكارو ) رابضة بجانب المحلات في أنتظار تحميل أجوله الخضار وصغار البائعين يتزاحمون في الطرقات منتظرين كلمة المعلم في السعر الجديد.. بينما هو جالسُ علي الكرسي في ثبات يراقب حركة البشر من حوله ثم يسحب نفساً عميقاً من الشيشة الموجودة أمامه، مستخرجاً من فمه كومة من دخان المعسل الذي يعلو فوق عمامته.. يسير بهدال بجلبابه الكموني مفتخراً بذاته التي تعلو كثيراً ناظراً إلي أصناف الخضر المرصوصة أمام المحلات متفحصاً بيده رصه الفلفل الرومي كي يشتري عشرين قفصاً، ووقف منتظراً افتتاح المزاد ثم يباد ر بالشراء.. يقف المعلم حلاوة بين زحام البائعين تاركاً شيشتهُ المشتعلة بحجر المعسل ناطقاً بصوتٍ عالٍ : ابن حلال يفتح الباب كيلو الرومي بجنية مين يزود.. قال أحد البائعين : بجنية وربع ..هزَّ المعلم رأسه لا.. ردَ أخر بجنية ونصف ..هزَّ المعلم رأسه لا ثم تدخل بهدال قائلاً : أتنين جنية.. ابتسم المعلم ملوحاً بيده إلي صبيه أعطيه عشرين قفصاً.. فهم بهدال وبعض الشيالين الذين يرفعون أقفاص الفلفل علي العربة متمنينا أن يرتفع السعر حتى يجلب له الكسب الوفير عوضا عن خسارته التي مر بها في الأيام السابقة حتى يُفرح دلال التي يحن إليها الشوق في كل وقتٍ وحين، متمنياً أن تكون شريكتهُ القادمة التي تؤنس وحدتهُ في الليل الموحش ..عند تحميل أقفاص الفلفل الرومي علي العربة حضر عسران إلي المزاد متأخراً، في جبهته القمحاوية وشم دائري يشُع بالدم بينما شعيرات حاجبه واقفة كالسيف.. فطلب من المعلم : خمسة أقفاص فلفل رومي حتي يكمل طلبيه الفندق التي حان وقتها الآن.. ردَ المعلم : اشتراهم بهدال.. قال عسران نقسمهم نصين وهو مقشعر بوجه وشعره الأكرت ..ردَ بهدال : في المحل خد اللي أنتَ عايزهُ.. ضحكَ بسخرية مبحلقاً عينيه في وجه بهدال ازاي.. زي الناس.. أنا غير الناس.. ليه ؟!..هاج عسران : أنتَ تكلمني كده ياواد، أنتَ نسيت نفسك ولا أيه.. غضب بهدال قائلاً : أمَ تقول أيه يا كلب، وأشتد النزاع بينهما فتشابك الأثنان بالأيدي وتبادلا ضربات الكفوف علي الوجوه.. اندفع الواقفون نحوهما لفض العراك المشتعل بينهما ثم يحاولون تهدأت كل واحد في مكان بعيد عن الآخر.. تلفظ المعلم غاضباً : كل واحد يمشي من هنا ما تقطعوش عيشنا وهو منتفخ الأوداج.. سار كلاهما في طريق مختلف عن الآخر، وهما محدقان النظر في بعضهما.. وصل بهدال إلي المحل غاضباً يعضُّ علي شفته السفلي، بينما الغيظ يقتل جوارحهُ المتصارعة ضارباً كفاً علي كف وهو جالسُ علي الكرسي أمام المحل في حين بعض الشيالين يرصون الفلفل أكواماً قبل أن ينتهي من شرب الشاي فوجئ بعسران ومعهُ اثنان من شباب بلطجية السوق، في أيديهم عصي الخيرزان ضاربين اللافتة الخشبية المعلقة علي واجهة المحل فصارتْ قطعاً صغيرة، فقاموا في عجل ببعثرة أكوام الفلفل في الطرقات ولم يستطع بهدال المقاومة من كثرة الضربات المتلاحقة عليه.. تداركْ الأمر سريعاً أقاربه وهم في المحلات المجاورة  فأسرعوا لنجدته وصارتْ معركة حامية بالعِصي ثم تكاثروا حول عسران فأوجعوه ضرباً إلي أن فلتْ من بين أيديهم متسلقاً أحد حوائط المحلات المجاورة ، فتناول بعض زجاجات المياه الغازية المرصوصة علي سطح المحل والتي يرميها علي رؤوس الواقفين فأصاب الكثير منهم بجروح دامية.. أندس بخيت وهو ابن عم بهدال مسرعاً وراء أجوله البطاطس في يده سلاحه الناري مطلقاً رصاصة في السماء.. هربَ الواقفون من حوله وراح يبحثُ عنهُ بين أجوله الخضار المختلفة وأسطح المحلات.. صاح أبو فراج المجذوب من نومه علي الرصيف ذو الشعر الطويل وملابسه الممزقة ، العجل وقع في الطاحونة ياولاد.. العجل وقع في الطاحونة وهو رافع يديه إلي أعلي.. ضحكَ الواقفون وهم يتغامزون، قالوا بصوتٍ واحد : فين العجل ؟! .. ردّ أبو فراج : مات تحت الطاحونة في (الشلايش ) المهجورة.. وسار يضرب الأرض بسيخه الحديدي ضاحكاً ببلادة العارفين، قبل أن يصل إلي عنبر البطاطس وفي يده صحن البخور المشتعل الذي يلفُ به حول أجوله البطاطس المرصوصة أمام المحلات.. في عجل جاءتْ عربة الشرطة محملة بسرية من الجند في أيديهم الهراوات البلاستيكية التي يفضون بها العراك المشتعل.. فرح أبو فراج : فرج جه ياولاد.. قال الضابط : امشِ من هنا.. راح يبعدون الطرفين عن بعضهما وهم منتشرون حول محلات الشلايش، فاستسلمَ بهدال.. وعسران وبخيت.. جلسوا في غرفة الحجز الضيقة المنسوجة بخيوط الليل الطويل يدبر بعضهم لبعض في سكون، الأفواه مغلقة بالصمت الطويل منتظرين ترحيلهم إلي مقر النيابة إلي أن قام المعلم حلاوة ومعه المعلم فرحات بزيارة إلي قسم شرطة العبور لمقابلة المتخاصمين ثم تدخل فرحات قائلاً أنتم بلديات بعض ماينفعش تبهدلوا بعضيكم، عشان الموضوع مايوصلش البلد وأنتم في غني عن المشاكل ..تفوه بهدال : أنا ماغلطتش اشتريت الفلفل من المزاد ورايح علي المحل استوقفني عسران فطلب مني خمسة أقفاص فلفل، قلت لما أروح المحل.. ردَ عسران : أتكلمت بكل أدب.. كداب.. تعال صوت المعلم فرحات : عشان تخرجوا بسلام وخلوا باب الصلح مفتوح.. تدخل المعلم حلاوة الصلح خير ..لقد أثلج صدورِهم بنهر المحبة المتواصل ثم صمتوا جميعاً برهة فتعانقَ بعضهم بعضاً واطمأنتْ أنفاسهم براحة البال إلي أن طرقتْ دلال مخيلة بهدال وهي واضعة بلاص الماء فوق رأسها وينظر إليها من ثقب الوحشة فتلقي عليه نظرة من تحت الطرحة كأنها المعجزة التي فتحت بينهما الأسوار وهو واقفُ علي الجسر مراقباً خلخالها الفضي التي تتزين به في قدميها البيضاوينِ وهي تخطو إلي الأمام ببطء، فتحرك قلبه نابضاً بلهفة الشوق إليها.. خرج بهدال صامتاً من غرفة الحجز تداهمهُ جنود الوساوس التي تهدم البنيان الثابت ، ضاغطاً علي زر هاتفه المحمول محدثاً أبيه عن المعركة التي دارت بينه وبين عسران مما زاد غيظ عائلته ( الحدايدة ) وهم أقارب بهدال فتجمعوا في منزل أبيه الحاج لملوم في أيديهم عصي الخير زان والبعض الآخر يحمل السلاح في قلوبهم خيوط الغيظ التي تنسج أقمشة الكره الطويل.. يتحدث بعضهم بعضاً بصوتٍ مرتفع، فتتدخل مصلحي قائلاً : كيف تجرأ الزبالة علي أسيادهم ؟!.. هم نسو إحنا مين وهو مقشعر بوجهه البرونزي الذي يشع منهُ الغضب.. ردَ أحد الجالسين : نعلمهم الأدب هي الرؤوس اتساوت ولا أيه الواد ده لوأتربي ما كنش يعمل كده  ثم نكتَ مصلحي العصا في الأرض بشدة نقفلهم بالمرصاد راجل.. لراجل صاح الحاضرون بحناجرهم القوية هو ده عين العقل.. وابتسم الحاج لملوم ربنا ينصرنا.. كذلك أيضاً عائلة ( الحجارة ) وهم أقارب عسران فتجمعوا في منزل الحاج عنتر الحجار في أيديهم عصي الخير زان والبعض الآخر يحمل السلاح.. تكلم جارحي وهو شقيق عسران الذي يرسم خريطة الليل الطويل ممطراً من فيه السمِّاوي شوية الحرامية يعملوا رجالة علينا هنشوف مين اللي ينتصر.. هاج الجالسون بأصواتهم المختلفة التي تغرس في النفوس طعم المر.. ردَ سرحان بصوتٍ عالٍ : نربي شوية الكلاب عشان يحرموا يعملوا كده استحملنهم كتير.. أقترح أحدهم رأياً آخر : نستناهم في زرعه القصب البحرية وهم عائدون من عند لملوم نصطادهم واحد وراء التاني عشان يحرموا يعملوا كده.. صاح الحاج عنتر: آخرة المشاكل دية أيه ماورهاش غير خراب البيوت وإحنا مش عايزين نقطة دم.. ضرب فنجرى العصا في الأرض غيظاً، يعني نعيش حريم في البلد.. ردَ الحاج عنتر: اسكت يا بني ما تخربش البيوت.. فجأة انقطع التيار الكهربائي وهم جالسون علي المصاطب الطينية  ثم أغلقتْ الأفواه بالصمت قليلاً.. صار الهدوء يسكن الشارع المذد حم بالبشر ويتمدد الليل في الدروب الضيقة حاجزاً ضوء السماء.. يسير دياب وهو ابن عم بهدال بخطوات متثاقلة إلي منزل عمه شرقاوي، يضرب العصا في الأرض كأنهُ المخلص في هذه الليلة.. بينما البيت ملاصقاً لبيت الحاج عنتر فوضع قدمه علي عتبة الباب، رأي جارحي واقفُ أمام البيت كأنهُ  يراقب الطريق باصقاً تحت قد ميه.. نطق دياب: مالك ياواد ؟..عليّ أنا.. أيوه.. أنا واد يا كلب، فاندفع نحو بعضهما في عراك شديد وتبادلا ضربات العصي فوق الرؤوس ..رأتْ إحداهن من نافذتها العلوية تشاجرًا كبيراً بينهما فصرختْ صراخاً عالياً أفزعتْ من حولها ولكن الطرفين في عراك مستمر ..علي الفور جاء عبد الصبور مسرعاً من غرفته القريبة ماسكاً في يده فأساً حديداً وهو ابن عم عسران فقام بتكسير باب الحاج عنتر بالفأس حتى صار قطعاً صغيرة ضاغطاً علي أنيابه صائحاً بصوتٍ عالٍ الرجل يطلع يقابلني.. ألهب في نفوس عائلة ( الحدايدة ) بحمل العصي والفؤوس الحديدية متسارعين في تكسير الأبواب المَغَّلقة والنوافذ الزجاجية لعائلة ( الحجارة ) هرع القادمون من الشوارع الجانبية إلي مكان العراك الذي لا ينتهي ولكن لا يستطيعون أبعادهم عن بعض.. بهدوء صعد فنجري إلي سطح منزل عمه الحاج عنتر ، مطلقاً رصاصة في السماء فاختفي الحاضرون من أمام الأبواب ثم تمددتْ خيوط العتمة علي أعتاب البيوت والنوافذ المهشمة لا صوت يعلو فوق صوت طلقات الرصاص في الهواء ثم أندستْ دلال وهي شقيقة عسران في عشة الدجاج واضعة في حجر عباءتها كومة من قطع الحجارة التي ترميها بقوة في منزل الحاج لملوم دون أدراك، فأصابتْ بعض الأطفال وهم يرتجفون.. ضحكتْ بسخرية وهي تقفز إلي أعلي قائلة : أنا انتصرتْ علي بهدال.. في حين جاءتْ عربة الشرطة محملة بسرية من الجند ماسكين في أيديهم الهراوات البلاستكية المكهربة لفض العراك المشتعل.. صمت الواقفون من هول الجند، فأختفي المحرضون إلي زراعات القصب البعيدة والبعض الآخر في الطاحونة المهجورة.. ألتف الجنود حول جارحي رافعين في وجهه السلاح فاستسلم هو ومن معه من العائلتين ثم سارتْ عربة الشرطة مسرعة إلي قسم شرطة ملوي ، والبعض الآخر من الهاربين يدبرون في صمت لحين الساعة المنتظرة ...