تظل دائما العقيدة هي إحدى أهم الأشياء المؤثرة في الإنسان والمشكِّلة لصفاته والمحددة لسلوكه والدافعة لتصرفاته، ومن هنا تأتي الأهمية البالغة لهذه العقيدة، مهما كانت، من ناحية، وتأتي الأهمية القصوى لضرورة أن تكون هذه العقيدة صحيحة سليمة من ناحية أخرى.
والصحة التي نقصدها ليست تلك التي يمكن أن نخضعها للعقل والمنطق والتجريب، بل إننا نقصد تلك الصحة التي يتعايش فيها الإنسان في هدوء وسلام مع نفسه مرة ومع الآخر المنتمي لنفس العقيدة وإن اختلف في الفهم والرؤية مرة أخرى، ومع الآخر غير المنتمي إطلاقا لهذه العقيدة، مرة ثالثة، وهو في كل ذلك يصدر عن رحابة صدر وسلام داخلي.
ما أكثر هؤلاء الذين يظنون أنهم يمتلكون صحيح عقيدة، وإذا بهم، نتيجة لذلك، يذهبون بعيدا في تصورهم بأنهم فقط من يملكون الحقيقة المطلقة، وهنا تكون المشكلة الكبرى، حيث أن صاحب هذا الفهم يجعل في مقابله ذلك الذي لا يملك الحقيقة بل يجعل هذا الآخر يعيش في الوهم، هذا الذي يدفعه دفعا لأن يسعى لتغيير عقيدة الآخر، ربما في البدء بالحسنى، التي ما تلبث أن تتحول إلى الإجبار، هذا الذي يضع المجتمع الذي ينتشر فيه مثل هذا الفهم إلى مجتمع مفتقد إلى السلام الاجتماعي.
وأنا اتعرف على شاعر وفيلسوف التشاؤم الشاعر والفيلسوف الإيطالي الكبير جياكومو ليوباردی الذي اجتمعت فيه كل المتناقضات، فهو النبيل المعدم، والنابغة الذي لا حيلة له، صاحب العقل الفذ في الجسد العليل، ذلك الجسد الذي لم يستطع مقاومة وباء الكوليرا، فكانت نهايته عام 1837، وهنا تصل مأساة هذا الفذ لذروتها، حيث يدفن جثمانه في حفرة كانت أعدت لضحايا هذا الوباء، ولم ينقل جسد الفيلسوف الشاعر إلا بعد عدة محاولات من أحد أصدقائه، لتخصص له مقبرة خارج نابولي المدينة
التي قضی فيه سنواته الأخيرة نُقِشَ عليها: "أحد
أرفع الشعراء والفلاسفة ولا يمكن مقارنته سوی
بكتّاب الإغريق الكبار".
وأنا بين يدي هذا الفيلسوف العدمي، والشاعر المتشائم، والذي أشاد به فيلسوف التشاؤمية الكبير الألماني شوبنهور والذي وصفه بأنه شقيقه، يقصد بذلك أخوة الفكر، والذي لم يلتقه شوبنهاور، ولا مرة واحدة، بل لقد مات جياكومو ليوباردي ولم يعلم بوجود الفيلسوف الألماني، تعجبت كثيرا لهذه الحياة وتلك الأحداث، وهاتيك الظروف التي تكالبت على هذا الفيلسوف لتصبغ حياته تلك الصبغ السوداء، ومن ثم يرى الحياة مجرد شقاء وألم، وينفي منها لفظة "السعادة" نفيا، بل يمحي هذه الصفة من الوجود محوا، حيث وصف ما يسمى، في رأيه، بالسعادة، على أنه مجرد انقطاع للألم الدائم، والبؤس المستمر، الذي ما يلبث أن يعود يتملك الإنسان تملكا لا فكاك من براثنه، ولا مناص منه، هذا الذي يجعل الحياة عبثا، ويحيلها لعدمية مقيته.
لا يختلف أحد على عبقرية الشاعر الإيطالي، ولا على مكانة ذلك الفيلسوف، ولكننا نتأمل هذه النظرة السوداء التي ينظر بها للعالم، فإذا بنا في عتمة حالكة، ويأس مميت، فالحياة كلها شقاء وألم، ولا أمل لانقشاع تلك الغمة السوداء، ولا بصيص نور يمكن أن يخترق هذا الظلام الدامس، وأتساءل معه، ما فائدة هذه الحياة، وما قيمتها، وليس هناك سبيل لتحقيق أية نتيجة، وليس هناك طريق ننال منه ولو القليل من الراحة، والنادرة من السعادة؟. فإذا بالإجابة بالنفي، وإذا بالنفس في وحشة شديدة، وبالقلب في هم مقيم، وبالعقل في تفكر وتكدر.
وهنا تظهر الأهمية القصوى للدين، الذي هو الشيء الشيء الوحيد القادر على أن ينجو بالإنسان من هذه العدمية وهذا العبث، والذي يستطيع أن يملأ النفس أملا، يستحيل سعادة: دنيوية أو أخروية، هو الدين، فالدين هو المنقذ للإنسان في كل الحالات، وخاصة في تلك هذه الحالة التي يصل فيها إلى حافة الانهيار واليأس والبؤس.
ذلك الدين الذي يجب أن يفهم بطريقة صحيحة، لينقذ الإنسان، أما لو انحرف الفهم للدين عن الطريق القويم، فستكون النتيجة، ليس فقط ما وصل إليه جياكومو ليوباردي، بل أخطر من ذلك بكثير.
فإذا كانت قد تضافرت كل تلك العوامل والمناقصات السابقة لتخلق هذا الشعور العدمي لدى فيلسوف إيطاليا وشاعرها في عصر الأنوار فإنني أرى أن هناك عاملا لا يقل خطورة عن كل تلك العوامل، بل نراه حاسما، أكثر من كل تلك العوامل السابقة، أعني به والدة جياكومو ليوباردي، تلك السيدة المتسلطة من ناحية، والمتشددة والمتزمته دينيا من ناحية ثانية، هذا التشدد الذي جعلها تتمنى موت أبنائها صغارا، لا لشيء، سوى لتصورها أنهم بموتهم أطفالا فإنهم يدخلون الجنة، لأنهم لم يتلوثوا بآثام الحياة وشرورها.
فما أظن أن جياكومو ليوباردي أستطاع أن ينسى هذا المشهد الذي ارتسمت فيه الابتسامة على شفتي والدته، ولا الحبور الناطق في عينيها، حينما توفى أخوه الصغير، ولا استطاع أن ينسى إجبار هذه الأم المتسلطة حينما أمرته أن ينظر، وهو الطفل الصغير، لجثة أخيه الميت طويلا، حتى يتعظ.
إن هذه الأم تمثل هذا النموذج الكاره للحياة باسم الدين، وهي تذكرنا بهؤلاء الإرهابيين الذين يدفعون أبناءهم للموت بتفجير أنفسهم، بزعم أن مثل هذا العمل الإرهابي البغيض، هو استشهاد لرفعة الدين، ومن ثم يكون جزاؤه دخول الجنة، مع الفارق بكل تأكيد، فوالدة جياكومو ليوباردي، لم تؤذ أحدا غير نفسها وأبناءها، عكس هذين الوالدين الإرهابيين اللذين بتفجير أطفالهم يعيثان في الأرض فسادا، ولعلنا نتذكر الإرهابيين السوريين اللذين الذين ألبسا طفليهما البريئين حزامين ناسفين ليفجرا نفسيهما.
إن والدة جياكومو ليوباردي، كما والدي الأطفال اللذين يدفعان أبنائهما للانتحار والقتل، قد انحرفوا في فهم العقائد، وحرّفوا الدين بمفاهيم خاطئة، وأرادوا أن يفرضوا هذا الفهم الأعوج على أبنائهم، وهو ما يكون له أكبر الأثر، على المستوى الشخصي، كما حدث مع شاعر وفيلسوف إيطاليا الكبير جياكومو ليوباردي، وعلى المستويين: الشخصي والعام، كما يحدث مع أبناء المتشددين الإرهابيين من قتل لأنفسهم، وقتل الآخرين وإرهاب المجتمع، في محاولة لنصر عقيدتهم، تلك التي لا تنتصر، نتيجة للفهم الخطأ، وتصور امتلاك الحقيقة المطلقة إلا بالدم والقتل، مهما كان مصدر هذا الدم ومهما راح ضحية هذا القتل.