أثناء خدمتي العلمَ المقدّس صيفاً ،على سفح جبل الشيخ الذي لايملّ يناطح برأسه الأبيض عنان السماء ، وفي دورة الأغرار القاسية (دورة المثقّفين كما تُسمَّى)، وحين كنت مساءً أُنفّذ مع زملائي عقوبةً مُرهِقة وحرارة طقس آب اللهّاب مرتفعة مُتعبة -وأنا ظمآنُ لقطرة ماء تخفّف وهج اشتعال نار العطش في جوفي- على ضوء القمر السهران الذي يحرسنا وقد أشفق على حالنا واحمرّ حياءً وحزناً،وهو بدر منير رائع الحُسن، آلمت تلك العقوبة جسدي النحيل مع زملائي رحمهم الله أحياء وأموات ونحن في الدورة العسكريّة التاسعة والخمسين، وقد بالغ مدربونا -سامحهم الله- في نوعها وصعوبتها ومدّتها وإجبارنا على تنفيذها ونحن مُنهكون جياع حُفاة ونصف عُراة....
كنت أفكّر وأنا أتذكّر أبي الطيّب بنظّارته الأمينة القديمة وسُبحته المباركة وحديثه المسلّي الحكيم ونوادره الطريفة المدروسة ...
وأتذكّر أمّي الحنون وابتسامتها الوفيّة ونظرات أمومتها المتدفّقة من عينيها العسليتين ،وإخوتي وأخواتي وحركاتهم السعيدة ووجوههم المتفائلة وضحكاتهم العفويّة،في قريتنا الجميلة التي يحملها جبل المريقب الشامخ على صدره، وقد اتّقد قلبي اشتياقاً ومحبّةً لهم، وأتخيّلهم مجتمعين ساهرين تحميهم أوراق العنب المتشابكة وعناقيده السّمينة الذهبيّة ، وهم يتسامرون ويتبادلون الأحاديث الريفيّة المسلّية التي اشتقت إلى الإصغاء إلى تراتيلها و اشتقت إليهم ،وهم يتأمّلون البدر الضاحك المبارك نفسه الذي كنت أتوجّع وأحترق صبراً على ضوئه في الوقت عينه وأتخيلهم يحتسون المتّة بعد تناولهم وجبة العشاء الجماعيّ، ويتمتّعون بنسمات جبل ضيعتنا المنعشة الباردة وهي تُقبّل شجيرة الملّيسة ونبات الحبق وعطر الليل والجوريّ والنعنع....
وكنت أحلم بأن أكون معهم ولو حُكِمَ عليّ بالإعدام بعدها بوقت قليل ، وأفضّل تلك السهرة العائليّة المتواضعة على أموال الدنيا وقصورها ومفاتنها كلّها...
سقى الرحمن الرحيم ذلك الزمن الأجمل زمن المحبّة والوفاء والبساطة.