حدّثني أمسِ أحد أصدقائي المُثقّفين المحترمين الذي كان طالباً في الجامعة لسنوات خمس تقريباً خارج سوريّة، وقد درس (الطّباعة الإلكترونيّة) في جامعة فرنسيّة راقية عام ألف وتسعمئة وأربعة وثمانين...
قال:
- كنت يوماً مع بضعة من زملائي العرب الدّارسين معي في فرنسا ،نلتفّ في استراحتنا حول طاولة كبيرة، نتسلّى ونتبادل الأحاديث بلهجاتنا الأصليّة في أحد المقاهي الشّعبيّة في مدينة باريس، وفي أثناء ذلك اتّجه إلينا رجل عجوز أنيق تغطّي رأسه قُبّعة ،و تبدو عليه ملامح الطّيبة وقسمات الوقار ،وقد أستأذن منّا بلطف ولباقة طالباً أن يجلس معنا ويشاركنا الحديث، وقد علِم بأنّنا عرب من لغتنا التي نتحادث بها بفيض وإسهاب ،وقد سمح له ذلك أنّه كان مجاوراً لنا في الجلوس في ذلك المقهى الشّعبيّ وقدسمع أصواتنا....
وبعد أن رحبنا به بلغته الفرنسيّة طبعاً وجلس معنا سألنا باهتمام واضح :
- من منكم أيّها الشّباب من سوريّة؟
أجبناه بسرعة بأنّ أكثرنا من سوريّة...
فسألنا أيضاً:
- مَن منكم من السّاحل السوريّ؟
فأسرعت أنا بالإجابة ،وكنت الوحيد من بينهم من السّاحل:
- أنا أيّها العمّ من السّاحل السّوريّ ومن محافظة طرطوس تحديداً...!!
فقال لي بلهفة واهتمام:
المؤكّد - أيّها الشّابّ - أنّك تعرف الثّائر العظيم الشيخ صالح العليّ، أليس كذلك؟
فأجبته مُستغرِباً معتزّاً فرحاً والحنين يجتاح قلبي إلى بلدي وإلى قريتي:
- نعم، أنا من الشّيخ بدر مولد المجاهد ومركز ثورته ،و بيتنا المتواضع في ضيعتي والحمدلله قريب جدّاً من ضريح هذا المجاهد الكبير، ويشرّفنا ويسعدنا ذلك كثيراً ....!!
وقسماً بالله، بعد أن سمع منّي ذلك، وقف بقامته النّحيلة مُنتصباً ،وهو الرّجل المُسنّ ،وقدتجاوز الثمانين من عمره ،ورفع قبّعته وحنى رأسه لثوانٍ احتراماً وإكباراً لشخصيّة المجاهد الشيخ صالح العليّ ولذكراه المعطّرة مجداً ونضالاً...!
وقد علمنا من حديثه الذي شعرنا بحرارة صدقه بعد ذلك بأنّه كان في شبابه من المتطوّعين في الجيش الفرنسيّ الذي احتلّ سوريّة، وهو يحترم الثائر الكبير الشّيخ صالح العليّ ويجلّه ويعتبره رمزاً إنسانيّاً ، لأنّه كان يقوم بواجبه الوطنيّ والإنسانيّ بوفاء ومحبّة قلّ نظيرهما ،و كان يقاتل الظّلم والظّالمين ،شجاعاً باسلاً، ويقف شامخاً متحدّياً القوّات المستعمِرة التي استباحت أرض بلاده، وجاءت من أوروبا لتغتصب وطنه الغالي وتذلّ شعبه، وقد تصدّر هذا المجاهد حلبات الجهاد حقّاً ،وسبق غيره في ذلك، دون أن ترعبه أوتمنعه مدرعاتها ومجنزراتها الفتّاكة، وكان مُستعدّا ليضحّي بروحه من أجل كرامة وطنه ومن أجل أن يُعلي صوت الحقّ وصوت الإنسانيّة ....
وقد كان مُلهماً ومعلّماً وقدوة ومحرّضاً غيره من الشّرفاء في هذا العالَم الرّحب ليعبروا دربه المُقاوِم نحو الحريّة والكرامة ولم تغره أمور الدّنيا ومراكزها وبهارجها و قشورها الماديّة الزّائلة.....
رحم الله روحك الطّاهرة فضيلة الشّيخ العلّامة الثائر الشاّعر صالح العليّ....
رحمك الله أيّها المجاهد الأبيّ المؤمن بالحقّ ،وقد قلت للمكارم و للتّاريخ و للعالَم كلّه بكلمات بندقيتك المُقدّسة وملاحم مواقفك المُشرّفة:
((سجّل أنا الصّالح انا الإنسان بإذن العليّ القدير)).