هزائم.. قصة: كرم الصباغ

هزائم.. قصة: كرم الصباغ
هزائم.. قصة: كرم الصباغ
بحذاء ممزق مثقوب، وقدمين منهكتين التمس طريقه على الأسفلت الخشن، و  اجتاز عددا من الشوارع المعتمة بشرود، و وصل بعد مشقة  إلى حافة النهر. ثمة بنايات بعيدة، أرسلت أضواء شحيحة، بددت قليلا من ظلمة الليل، و فتحت مجال الرؤية بالكاد أمام عينه. تقدم خطوات إلى الأمام، والتصق بسور الكوبري الحديدي، و حملق إلى  صفحة الماء؛ فرأى النفايات طافية على السطح الساكن، و استنشق روائح كريهة، أشعرته  بالانقباض و الاشمئزاز؛  فتراجع  خطوة إلى الوراء، لكنه سرعان ما عاود الالتصاق، والنظر، حينما اضطربت صفحة الماء بشكل مباغت؛ فأبصر إحداهن تشق  رتق الموج، و ما إن صعدت بالكامل، حتى مشت على الماء بغنج و دلال. كان فزعه قد بلغ منتهاه، لكنه لم يستطع الحراك، أو صرف نظره عن تلك الأنثى الفائرة، التي أومأت إليه برأسها، والتي  أشارت   إليه بيدها أن أقفز دونما إبطاء. و لما لم يفعل،  اضجعت على جنبها،  وأرسلت إليه قبلات عبر الهواء، و دعته مجددا إلى إلقاء جسده من فوق الكوبري؛ ليبدأ عرسهما المنتظر. فما كان منه إلا أن   امتقع  لونه، و  شحب وجهه، و ارتجف بدنه، و  حينما رأته  على تلك الحال، أطلقت ضحكة ماجنة، ترددت أصداؤها في أرجاء المكان.                                  
   (  ٢)
التقطت زوجته علبة سجائره، و فركت السيجارة الوحيدة، التي تبقت داخل العلبة، فنظر إليها بغيظ، لكنه لم ينطق ببنت شفه.  كانت الغرفة تضج بالدخان، والفوضى، والكتب المبعثرة، وأدوات الرسم، و اللوحات.  اتجهت زوجته بحنق إلى الشباك الموصد؛ كي تطرد الروائح الخانقة؛ فظهر أمامها برص بشع المنظر؛  أجبرها على الصراخ، والتراجع إلى الوراء، والإطاحة ب(بالتة) الألوان والفرشاة، واللوحة، التي عكف عليها النهار بطوله. البرص ابتلعه  شق في الجدار، و اللوحة سقطت على البلاط المحطم، و انسكبت عليها ألوان (البالتة)؛ فتشوه وجه الفتاة المرسوم، والزوج فقد أعصابه تماما، و راح يضرب الجدار بقبضته.                    
      ( ٣)
ثمة سيارة مرقت بسرعة؛  فأنارت  المكان للحظات، لكنها سرعان ما  ابتعدت؛  فجرت خلفها خيطين طويلين من  الأضواء الحمراء، التي أرسلتها  الفوانيس الخلفية؛ فعاد المكان موحشا كما كان.
درجة حرارة ابنتك تخطت التاسعة و الثلاثين، لوزتاها التهبتا  تماما، ولا مفر من استئصالهما.  العيد اقترب، والعيال عراة، يجب كسوتهم. حليب الرضيع نفد، و حساب الصيدلية تخطى الألف، تحدثت  زوجته بحرقة، ولما لم يجبها كعادته؛ زفرت، و صرخت   في وجهه، وقالت بصبر نافد: اخرج من شرنقتك،افعل شيئا.
حدثه ابنه الأكبر عن ثمن الهواتف التي اشتراها زملاؤه، وأخبره بأنه لو امتلك هاتفا ذكيا  مثلهم، لصار مبرمجا. نظر إليهما بانكسار، وحدثهما بدوره عن راتب هزيل، ينفد بعد سبعة أيام من كل شهر. حدثهما عن رجل يبحث عن عمل إضافي، و كلما طرق بابا،  زاحمه عليه طابور من العاطلين.  أقسم لهما بأنه ليس سيئا كما يظنان. لقد  خنقته العبرة؛ فأمسك عن الكلام، وسارع إلى الخروج من البيت، بمجرد أن تدحرجت على خديه دمعتان كبيرتان؛ إذ لم يكن من اليسير عليه أن تفضح الدموع عجزه، أو أن يبدو منكسرا مهزوما إلى هذه الدرجة  أمام ابنه على وجه الخصوص.
     ( ٤)
كشفت أنثى النهر عن نهديها، وساقيها، و راحت ترقص  بمجون، و أشارت إلى سرير الماء؛ فرفع   رجله اليمني، ولامس حافة السور، وما إن هم بالقفز، حتى سمع صرخات، أتت من خلفه مزلزلة،  و أحس بأياد تتشبث بملابسه، و تجذبه إلى الخلف؛ فما كان منه إلا أن  استدار؛  ففوجي بابنه الأكبر و ابنته يقفان  أمامه مباشرة، و قد كسا الفزع وجهيهما، فطوقهما بذراعيه، وراح يهدئ من روعهما، بينما  وقفت زوجته على بعد خطوة واحدة، و لما رآها ذاهلة، رق لحالها، و مد يديه، و ربت على كتفيها، ثم التقط  طفله الرضيع من بين ذراعيها، وضمه إلى صدره، بينما راح يراقب بانكسار تلك الأنثى، التي غادرت النهر، والتي تراءت له على جدران البنايات، كلما عبر شارعا معتما، أثناء عودته إلى بيته بصحبة أسرته.