ثقافة عصرية .. قصة قصيرة بقلم رؤى مسعود جوني

ثقافة عصرية .. قصة قصيرة بقلم رؤى مسعود جوني
ثقافة عصرية .. قصة قصيرة بقلم رؤى مسعود جوني
 
كان يقرأ على مسامع من حوله، وهم ممن يفاخرون باهتمامهم بالأدب، ويبيحون لأنفسهم إطلاق الأحكام النقدية على الشعر بخاصة، مدللين على سعة اطلاعهم، وعمق تفكيرهم، ورهافة ذوقهم الفني، أسجل من القصيدة ما يلي من الأبيات:
إن الغرام حبيبتي يقفز فوق الغدير
وفي الظلام تمساح رابض،
ولكنني أنزل إلى الماء وأواجه الأمواج
ويشتد بأسي فوق الغدير
ويكون الماء هو والأرض تحت قدمي سواء..
لان حبها يملأ قلبي بقوة
وإذا رأيت حبيبتي مقبلة ابتهج قلبي لمرآها
وفتحت ذراعي لأضمها إلى صدري،
فإذا ما ضممتها كنت كمن في أرض البحور
وإذا أقبلت انفرجت شفتاها
وسكرت من غير خمر
قال الأول: إن هذه القصيدة تمثل قمة الحداثة في الشعر، أضف إلى ذلك هذه العاطفة الغنية التي تسربلها، وتأخذ بالمدارك في شموليتها النابعة من الزمن الإيقاعي، المشحون بالتوتر النفسي الصادق، الذي يعكس الهموم العصرية في تساوق غريب، وانسجام ينبئ عن شاعر يمتلك أدواته الفنية امتلاكا غير عادي، يدخل القصيدة في إطار البناء الإبداعي!!
وعقب الثاني: انظر إلى هذا: (التمساح) ثم ألا ترى أن الشاعر يستنطق الغدير، حتى تشعر وكأن هذا الغدير هو الذي يثب إليك ويحدثك، ناقلاً رعشات الحب الخائف، التي يمكن رد أسبابها إلى تراكم أثقال الحضارة، وهموم العصر، وهذا الأمر – كما أرى – جد طبيعي، لأن القصيدة لا بد أن تعبر عن عصرها، وتفصح عن هذا التعبير ولو بشكل غير مباشر.
ونظرا أخيرا إلى المزج العفوي بين الحب والأسطورة، حيث يملأ قلبك وكل حواسك عبق البخور!!
وقال الثالث: إذا أردنا أن نحلل القصيدة – التي لا اكتم إعجابي بها-مدرسة ما، لتعذر علينا ذلك، فهي نسيج وحدها، تشق لنفسها أسلوباً يبعدها عن كل الأساليب السائدة التي اعتاد الذهن السلفي على تناقلها وتمثلها، مع احتفاظها بروح الأصالة التي تحسها في كل بيت، بل في كل عبارة!! ولا شك في ان الأبيات التي سوف تكمل إشراق الصورة، وتبشر بأسلوبية لا تجارى، ولذا أجد نفسي بكل شوق متلهفاً لمتابعة القصيدة...
كان قارئ القصيدة الذي توقف بعد قراءة المقاطع المدونة اعلاه، مفسحاً لنقاد مجلسه، الإدلاء بدلائهم النقدية، دون ان يعقب بعد ذلك بحرف، ودون أن يذكر لجلسائه اسم الشاعر العصري صاحب قصيدة، رغم سؤالهم المتكرر عن اسمه.
وبعد صمت الجميع ابتسم ابتسامة ماكرة ثم قال:
أصدقائي النقاد يؤسفني أن أخبركم بأن تحليلاتكم العميقة لا تمت بصلة لما هو مكتوب، لأن هذه القصيدة وجدت منقوشة على حجر، وهي لشاعر يعود نسبه وتاريخ مولده إلى الأسرة التاسعة عشرة من أسر قدماء المصريين.