حذاء أسـود تملؤه الشقوق بقلم مراد ناجح عزيز

حذاء أسـود تملؤه الشقوق بقلم مراد ناجح عزيز
حذاء أسـود تملؤه الشقوق بقلم مراد ناجح عزيز
 
 
وحيداً ..
فتح نافذته المطلة علي الشارع , بدأ يتنفّس أنغام الموسيقي , تغازله الأضواء في هيئتها المتناثرة ليلا ورائحة البخور التي تسرّبت إليه كمن وطأت قدماه بلاد , يود لو أنه احتضن كل ما فيها , هذه الرائحة التي جعلته يعود متقهقرًا بقطار الزمن إلي رائحة البخور التي كانت تطوف أرجاء حجرته محملة بأنفاس أمّه ودقات قلبها التي تدعو له ذهابا وإيابا , ممتطيا جواد ذكوريّته , يقطف النجوم بيديه من سماوات بعيدة ويسطّر تاريخا من الانتصارات لم يصل لمثله احد , يركب أمواج البحر بقارب صغير ويعبر حدود البلاد محمّلاً بعجائب الحيوان والطير , تلمع عيناه بذكاء شديد , يستطيع أن يتقدم الصفوف , كمخرج كبير له الحق في توزيع الأدوار أثناء اللعب , تقتله الهزيمة ويجعله النصر ملكًا متوّجًا , ربما لأنه كان الأقل حظًا في ظروف بيئته وضيق حال والده , نصب فخاخا كثيرة لطفولته , جعلت منه وحشًا يطارد غزلان البراءة داخله فتسقط صرعى بين فكي غطرسته واللامبالاة , يشعر دائما بازدياد رغبته في امتلاك كل شيء , أصبح مثالا حيّا لبطش الحياة حتى تحيل طائر اليمام إلي صقر جارح , يالها من أيام  ..
ضجيج صوت السيّارات , مكبرات الصوت خارجة من أحد الشوارع الجانبية بأغنياتها الصاخبة , لا تحمل شيئاً من الرقة وعذوبة الكلمة , ذهب بخياله بعيداً مرّة أخري مرتدياً ثياب طفولة مكدّرة , حذاء اسود تملؤه الشقوق وقميص بنّي بهتت ألوانه , سنوات عمر أكلت أصابع بهجتها الحياة , وتركت لها القليل تلعقه ألسنة القهر بدم بارد , ارتسمت علي وجهه ابتسامة رقيقه , تذكر يوم أن أصبح ثريّا بما يكفي لشراء قصر علي النيل , لديه صندوق خشبي كبير يحوي الكثير والكثير من أغطية زجاجات .. (الكوكاكولا والبيرة والشويبس وغيرها .. ) , كانت شهوته الأولي التي يشعر من خلالها بزهو المنتصرين وكأنها خزائن هارون , أصبح تدلّله لنفسه مرض عضال , أصاب الآخرين كما أصابه , نفد صبر أمّه , تجمّد قلبها الحاني للحظات لم تعرف لسابقها مثيل , فراحت بكل قوّتها تكسّر الصندوق الخشبي , تبعثرت الأغطية يميناً ويساراً حتى ملأت أرضية الحجرة التي لم تظهر نقوشها من كثرتها , أوقات عصيبة عاشها في تلك الليلة , حملته أمّه بكِلتا يديها ثم ألقت به فوق سجادة الأغطية المبعثرة , ليرشق في رأسِه إحداها بأسنانه المدببة كأنها حربة , بدأت الدماء تسيل من رأسه غير مصدق لما حدث , راح يتخبّط بين حوائط الغرفة , كمن يبحث عن بقعة ضوء في صحراء معتمة , عاني قليلاً ولكنها لحظات وكأنّها دهر حتى عثر علي الباب , ترك لقدميه الطريق بكل قوّته جرياً لا يعلم إلي أين ؟ , شعر بقشعريرة في جسده , مسح عيناه التي ترغرغت بالدموع , أغلق النافذة واستدار بالكرسي المتحرك متجها إلي المرآة , يقرأ بعضا من التفاصيل التي تركتها سنوات عجاف , يالها من آثار لا تزال علي جبهتي وكأن الدماء تسيل منها اليوم .