الكَييّف بقلم محمد فيض خالد

الكَييّف بقلم محمد فيض خالد
الكَييّف بقلم محمد فيض خالد
تَراخت شَفتَاهُ امتعاضا وقَد احَكَمَ طرف ( البوصة) في فَمهِ الواسع، هَزّ رأسه القَانِعُ ، يُطلِق دفقات دُخَانه الكَثيف ، بَذلَ جَهدا يُخفي انفعالا مكبوتا ،  هَيّجه كلام أمه ، تثرثرُ دونَ انقطاع :" خَلصت باكو المعسل ، ابوك هيقطع رقبتك"، أشَاحَ بوجههِ غَيرَ مُكتَرِثٍ بتوبيخَها ، ليَغيبَ ثاَنيةً في زَهوِ الكَيف ، قَالَ ثملا باستهتارٍ:" يعدلها ربنا "، انصرفت عنه وهي تُبرطِم مُتَوجّعَة، إذ كَيْفَ  لصَبيٍّ مثله أن يحَذو  حَذو الكِبار، تعَالى صِياحها في الخَارجِ تَنهر عَنزة ، هَجَمت في جرأةٍ تخطفُ رَغيفا يابسا، غَابَ عنه خيالها الباهت، أمّا صوتها المزعج فيتأتّى مُقتَحِما على نَوباتٍ، فيُخِرجهُ عن طَورهِ،  قد ورم أنفه، وحقد الدّم في خدّيهِ.
اعتَدلَ في جلستهِ، يُدنّدن بلحنٍ ركيك،يواصلُ شرب "التّعميرة" ، اعتقدَ الجميع وأولهم والده ؛ أنّ فَتا لم يبرح العَاشرةَ مثله ، لن يؤول مآله فيتعاطى الدُّخان بهذا الشّره آناء الليلِ وأطرافَ النهار كالعتاة ،ظَنّوا أنّمَا هي ملهاة صغير تعلّقَ بلِعبةٍ، سُرعَان ما يَملّها كغيرها من التَّسالي ، لَكنّه خيّبَ ظنونهم، وأضحى " كسبان" أسيرا ، يتخذ " الجوزة" صَنما لنفسهِ، يخلص لها الحُبّ ، يُسَبِّحُ بحمدهِا بُكرةً وأصيلا ، سِرا تصَبّ والدته لعَناتها فَوقَ رأسِ والده ، ذَاكَ العَجوز الطائش الذي جَرّ طفلا ؛ لهذا المأثم الوبيل ، كَانَ الريس " شلقامي" تاجر البصل خامد الذّهن، ضعيفَ التّفكير ، حين حَسِبَ يوما أنّ هزئه البرئ؛ سيسلم نجله الوحيد لهذا المسلك الوَعر ، يطلق ضحكته المجلجلة ، مُمتلأ بالسَّعادةِ وهو يَغرس طرف " البوصة " في فمِ الطفلَ الغرير ، يشرق وجهه عن رضا واستقرار، قائلا لمن حوله:" إنّه الحيلة ، لابد أن يشبّ رجلا "، لم يردعه تلاوم من حوله ، الذين ضاقوا ذَرعا باستهتارهِ، فاكتفوا مع الزّمنِ، بنظرةٍ ساخرة يُغرِقونه بها ، قائلين :" وليَعلمُنٍّ نبأهُ بعدَ حين!" ، لم يَذُق " كسبان" من مرحِ الطّفولة كغيره، ولم يُرى في حلقات اللعب إلّا لِماما،فهو دائم التّلهف للدخان ، يشعل نيران " الكوالح" يعرك حبات المعسّل اللّدنة عَركا متأنيا في الحَجرِ ، ثم يفرش فوقها حبّات الجَمر، يغَيبُ قليلا في سحباتٍ ضعيفة مُتَقطّعة ، تكتمل نشوته ، حينَ تتنامى إلى سَمعهِ طشطشة ناعمة من قلب النّار؛ تنبئ عن أنّ طبخته قد نضجت ، وما عليهِ إلّا أن يَلقي حصيره البالي أمام العتبةِ ، ويجلس في خُشوعٍ يتعاطى كؤوس اللّذة ، بمرورِ الوقت  وبموتِ والده ؛ أصبحَ لصاحبنا " شلة" أُنس يُجَالِسونه ، ما إن يمتلئ الزُّقاق بنفثاتِ دخانه الشّهي ، حَتّى يتَقاطرَ رفاقه من كُلّ  حَدبٍ ينَسلون ، فُضلة من عَجائز لفظتهم الحقول ، وبقية من العاطلين جَحَدوا الفأس فجحدتهم، لا شغل لهم سوى التّسكع خَلف أكوابِ الشَّاي ، وتَعقّب أحجار المعسّل ، تتمشّى ابتسامة على شَفتيهِ مُرحِبا بهم:" ألف أهلا بالرجاله"، بينَ تلافيف الظّلام يَنسلّ مرات في خِفيةِ اللّص مُعتليا سَطح الدّار، يملأ حِجره بكيزانِ الذّرة ؛ يسدُّ عن نفسهِ غائلة رأسه، يَقولُ لأمهِ التي طفقت تلَطمُ وجهها في ولَولةٍ:" يعني اسرق علشان اشتري باكو المعسل؟!"، لا تمسك المسكينة دموعها إلّا ريثما تُرسِلها ، قد اسلمت أمرها للهِ ، هنالكَ يستعيد وجهه بعضَ نضارته ، وتبتلعه ابتسامة المنتصر .
يُقسّمُ " سيد بُرعي " تاجر الحمير ؛ أن   أنف صاحبه يلتقط الدّخان من مسيرة يومٍ ، تطربه كلمات الإعجاب من جلسائهِ الذين داروا ولائهم خلف ابتساماتهم المصطنعة :" والله أنت أنزه شاب في بلدنا ، مرجلة وايدك فرطة"، في تيهٍ يمسك بطرف ( البوصة) ، يتململ في جلستهِ، ترتسم على تقاسيمِ وجهه مخايل الكبرياء ، مُتراخيا يطلقُ دخانه ، وقد اغمضَ عينه وتركَ خياله يمرح.
كان الضّباب يذوب مُتثاقلا تحت ضربات الشّمس الحارقة ، عندما طرقَ الباب " مختار" شيخ الخفر ، اختنق صوته يُوشك أن ينفَجر ، باغت المرأة في عبوسٍ بغيرِ روية :" ابنك ممسوك في المركز، هجم على غيط العمدة" ، كان صاحبنا قد عدل عن شرب المعسل ، بعدما تركَ نفسه نهبا لسُلطانِ الغواية ، باتَ مجلسه لا يكتمل بغيرِ سُطل الحَشيش ، وفمه لا يتلمّظ إلا على عدس الأفيون ، اخبرني من أثق في روايتهِ :" إن صاحبنا لا يفيق من شهوتهِ الآثمة ، بعدما ضيّعَ الكيف حياؤه ، وافقده إنسانيته".