د.محمد فتحي عبد العال يكتب : من حواديت المحروسة .. قبة أفندينا

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : من حواديت المحروسة .. قبة أفندينا
د.محمد فتحي عبد العال يكتب : من حواديت المحروسة .. قبة أفندينا
قبر انفرد به صاحبه عن أسرته التي حكمت مصر وأرست بنيان نهضتها فجده محمد علي باشا دفن بمسجده بالقلعة   وأبيه الخديو اسماعيل ونسله دفنوا في مسجد الرفاعي أما شخصيتنا اليوم اختار أن يكون قبره بمقابر المجاورين بمنشية ناصر بالقاهرة حاليا . شاءت الأقدار أن يكون صاحب القبر المنفرد موصوما بتهمة خطيرة وهي جلب الإحتلال وتمكينه من بلاده ...إنه الخديو محمد توفيق باشا والذي لم يتفق المؤرخون حوله فمنهم من دافع عنه خاصة من شهدوا حوادث الثورة العرابية عن كثب ورأوا أن الرجل سلبت منه كافة صلاحياته كحاكم وأصبحت لدى أحمد عرابي ورفاقه وأن عرابي أدخل مصر في مغامرة عسكرية غير محسوبة العواقب أمام قوة كبيرة كبريطانيا دون استعداد رغما عن أنف الخديو والباب العالي  مما  أدخل مصر في أتون احتلال دام أكثر من سبعين عاما . فيما رأي المؤرخون المعاصرون أن الخديو وظهوره بصحبة الأميرال (بوشامب سيمور) قائد الاسطول البريطاني في قصر الرمل بالإسكندرية كان ضربة قاسية للحركة الوطنية و لاستقلال بلاده .
أيا كان الأمر فموضوع حلقتنا سوف يكون من منظور مغاير وغير تقليدي عن الوجه الآخر لتوفيق باشا ..فهو الرجل المحب للتعليم والثقافة الذي عنى بإنشاء المدارس تحت رعايته ودعمه كما ألغى الضرب بالسوط  الذي ألهب ظهور الفلاحين لعقود طويلة وذلك في عهد رئيس نظاره رياض باشا علاوة على عفوه عن المشاركين في الثورة العرابية من الأهالي وإنشاء مجلس شورى القوانين والمحاكم الأهلية وإنشاء عدة ترع بالقرى والمدن .
تفرد توفيق كذلك بتدينه الشديد وزياراته للمدن والأقاليم المصرية القبلية والبحرية  لمتابعة شؤونها  وتسابق الأهالي والأعيان  في إظهار الولاء له عبر الزينات والاحتفالات كما أنه ألغى الدوسة إحدى مظاهر الطرق الصوفية البشعة واللاإنسانية  وفيها ينبطح الدراويش على بطونهم في صف واحد كأنهم سجادة بشرية ليمر على أجسادهم كبير الدراويش راكبا فرسه وكلما تحملت أجسادهم ذلك كان هذا تدليلا على قوة إيمانهم وكان المصابين منهم أو الصرعى منهم توارى سوءاتهم في سرية تامة حتى لا يقدح ذلك في كرامات الموكب وفي ولاية شيخهم وينال من القوة الإيمانية  التي تتلبس الدراويش أثناء مهمتهم الدينية  الخارقة !!! .
أما عن حياة توفيق الخاصة فقد تزوج  من إمرأة واحدة هى (أمينة هانم إلهامي) في ظاهرة فريدة لتوفيق بين حكام أسرته والذين تعددت زيجاتهم ومستولداتهم وربما  كان السبب في ذلك في وجهة نظري هو شرط وضعته أمينة هانم للزواج منه حيث شهدت هذه الأزمنة تعهد الزوج بعدم الزواج على زوجته ووضع هذا التعهد ضمن شروط العقد  وفي حالة حنثه من قبل الزوج تصبح الزوجة طالقا من تلقاء نفسها   كما جاء في زواج رفاعة الطهطاوي من زوجته وابنة خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلاَّمة الشيخ محمد الفرغلى الأنصاري !!.
ولما لا وقد  اجتمع لأمينة هانم شرف النسب؟!! فهي حفيدة وال وزوجة خديو وأم خديو وولي عهد أيضا فهي ابنة إبراهيم إلهامي باشا بن عباس حلمي الأول والي مصر السابق  وهي أم الخديو عباس حلمي الثاني فضلا عن كونها أم ولي عهد الدولة المصرية الأمير محمد علي في عهد الملك فاروق .
  أطلق عليها المصريون لقب أم المحسنين لسخاؤها المفرط في العطاء والبذل في أوجه الخير وأنشطتها في الجمعيات الخيرية .
الأمر المثير  هو نسبها أيضا للباب العالي فأمها هى الأميرة منيرة ابنة السلطان عبد المجيد الأول مما جعلها تطمح أن تزوج ابنها عباس حلمي الثاني من ابنة السلطان العثماني وقد كان لها مكانة كبيرة لدى الباب العالي وأطلق عليها هناك الوالدة باشا لكن الرياح  تأتي بما لا تشتهيه السفن فعدم ترحاب الباب العالي بمثل هذه الزيجات وتوجسه منها واعتماده سياسة جديدة لضمان نقاء الدم العثماني إضافة لكثرة الوشايات علاوة على نزوات عباس وظهور أعراض الحمل على إحدى جواريه وتدعى إقبال هانم دفعت الأم للاستسلام للأمر الواقع وقبول زواج ابنها من جاريته إقبال !!!.
نعود للقبة..أقام الخديو توفيق وزوجته أم المحسنين هذه القبة لتكون مكان دفن أسرتهما فيما تركا مسجد الرفاعي وقيل السبب في ذلك الجفاء بين توفيق وبين  هوشيار قادين (خوشيار هانم ) أم أبيه الخديو اسماعيل ومنشئة المسجد لدعمها للثورة العرابية ونظرتها الدونية له لكونه ابن جارية  هي شفق نور هانم ودوره في عزل أبيه إسماعيل !!!.
 أقام القبة  مهندس القصور الخديوية (فابريكيوس بك) على نمط العمارة  المملوكية الممزوجة بالطراز الأوروبي في بعض جوانبها وضم  بعض قطع الأثاث المستخدمة في افتتاح قناة السويس وكسوة الكعبة  كما دمج إليها مدفن (بنيا قادن) زوجة أحمد طوسون ابن محمد علي باشا الكبير وأم عباس حلمي الأول وتعد  قبة أفندينا ثاني أكبر مقبرة في العالم بعد ضريح تاج محل  بالهند .
في عام 1892 توفي الخديو محمد توفيق ليكون أول من يدفن بالقبة وقد جاءت وفاته بشكل مفاجىء ودون سابق إنذار مما  جعل الناس يتشككون في أن وفاته جاءت نتيجة خطأ طبي مما جعل مجلس النظار يشكل  لجنة طبية للتحقيق في أسباب الوفاة برئاسة روجرس باشا  انتهت أن الوفاة طبيعية بالنزلة الوافدة (الانفلونزا )وما اتبعها من مضاعفات سريعة بالحمى وثقل بالتنفس نهاية بالتهاب الكليتين وأنه عولج بالمورفين  والكافيين و الكينين ولم يتخلف عن الإدلاء بشهادته سوى الدكتور عيسى باشا حمدي مما جعله في مرمى هجوم الصحف آنذاك .
نأتي لذكر صاحب القبر الثاني في القبة ونمضي برحلتنا من الأب إلى الأبن حيث يعتلي أريكة الحكم الخديو عباس حلمي الثاني خلفا لأبيه وقد  تفرد بإنجازات ضخمة فاقت سابقيه كبناء سد (أو خزان)  أسوان في الفترة بين عامي 1899 و1902 وتم تعليته عام 1912 لحجز المياه الزائدة في موسم الفيضان والذي كان  أكبر سد في العالم آنذاك وإنشاء الجامعة المصرية في ديسمبر عام 1908 فضلا عن تدشين عدد كبير من الكباري أشهرها كوبري عباس وكوبري الملك الصالح علاوة على خطة طموحة لترميم الآثار الإسلامية كما تزايد نشاط الصحف الوطنية في عهده  كاللواء والمؤيد وحتى المعارض منها له كحمارة منيتي لكن ما تكشفه عنه زوجته الثانية الكونتيسة المجرية (ماريانا ماى توروك هون زندرو) أو جاويدان هانم بعد إسلامها كان صادما من أنه كان حريصا على المال بشكل كبير  وأنها كانت تحتال على تقتير الخديو وضيقه بالمبالغ الكبيرة بفواتير المشتريات للفساتين والورود وغيرها  فكانت تجعل أصحاب المحلات يرسلون الفواتير مفصلة للغاية حتى تبدو  أرقاما صغيرة يسهل تمريرها عليه !!.. ويبدو أن مسألة سعي الخديو لتنمية ثروته بشتى الطرق كانت لافتة بدرجة كبيرة إذا علمنا أنه حينما عزل عن حكم مصر عام 1914 وفرضت الحماية البريطانية على مصر  لكنه لم ينس على الرغم من مضي السنوات إرثه في الحكم فتنازل عن حقه في العرش للملك فؤاد مقابل ثلاثون ألف جنيه دفعتها له الحكومة المصرية عام 1931 ضمها لثروته المتنامية !!. وقد توفي الخديو عباس حلمي الثاني بسويسرا عام 1944 ثم تم نقل رفاته بعدها بعام لظروف الحرب العالمية الثانية ليستقر بمدفنه بقبة أفندينا .
وتنتهي رحلتنا مع أم المحسنين والتي 
  جمعها صراع قضائي طريف مع الملك فؤاد حول وقف ورثته عن  بنيا قادن التي أشرنا إليها آنفا بناحية قها بالقليوبية وكانت قد أقامته بنيا قادن  للانفاق على سبيل أم عباس وكتاب تعليم الأطفال الملحق به واللذين  أقامتهما ترحما على روح ابنها الوالي عباس حلمي الأول الذي قتل غيلة بقصره ببنها وكانت الغلبة للملك فؤاد  في السيطرة على الوقف في النهاية وتوفيت أم المحسنين في اسطنبول التي قضت بها جم حياتها ليستقر جثمانها في قبة أفندينا عام 1931 .
إنها ذاكرة الحجر التي تحمل لنا إرثا تاريخيا  لمصر المحروسة لا تنتهي حواديته وحكاياته وطرائفه .
 
المراجع والمصادر:
1-مذكرات الأميرة جويدان حرم الخديوى عباس حلمي الثاني .
2- كتاب القول الحقيق في رثاء وتاريخ الخديو المغفور له محمد باشا توفيق لعزيز زند.
3-كتاب الحياة في البلاط الملكي لألفريد جاشوا بتلر.
4-كتاب  أثار العصر الحديث علم وتراث  لمحمود عباس أحمد عبد الرحمن.