إدوارد فيلبس جرجس يكتب : امرأة تحت سيف الأقدار ( 31 )

إدوارد فيلبس جرجس يكتب : امرأة تحت سيف الأقدار ( 31 )
إدوارد فيلبس جرجس يكتب : امرأة تحت سيف الأقدار ( 31 )
من مبدأ الصمت يعني الموافقة ، لم ينتظر المسئول إجابتهما وأجاب مباشرة وهو يشير نحو الورقة التي كان يمسك بها عند دخولهما :
_ هذا خطاب من الفنانة ناديه كتبته وأرسلته قبل اقدامها على الانتحار ، تعترف فيه بأنها كانت على علاقة لليلة واحدة مع كل منكما ، ليس هذا هو المهم ، أو على الأقل ليس هذا ما يعنينا في الموضوع ، الأهم من هذا والخطير جدا في نفس الوقت ، وأرجو أن تتماسكا عند سماعكما ما سأقوله الآن ، وهو الشطر الذي يخصنا في هذا الموضوع ، هو اعترافها بأنها مريضة بالإيدز ،  انتقل إليها من زوجها المعروف بأن مغامراته النسائية كانت لا تعد ولا تحصى ، وعلى ما أعتقد أن إصابته كانت من إحدى مغامراته في الخارج كما لمحت ناديه في خطابها . كما أوضحت أن موت ابنتها كان نتيجة لإصابتها بهذا المرض الذي انتقل إليها منها . النتيجة أن ناديه أصيبت بصدمة عصبية على أثر موت ابنتها وموت زوجها منتحرا وعلمها بالحقيقة من الخطاب الذي تركه لها  قبيل انتحاره ، هذه الصدمة أدت إلى حدوث انفصام في شخصيتها . العلاقة معكما تمت وهي في حالة اللاوعي، بعدها جبنت أن تخبركما بالورطة التي وقع كل واحد منكما فيها نتيجة اتصاله معها ، للأسف من المؤكد أن المرض القاتل انتقل إليكما نتيجة هذا الاتصال وعلينا أن نعالج الموضوع في سرية تامة ، وما أرجوه ألا تكون دائرة المرض اتسعت نتيجة علاقتكما بنساء أخريات في الفترة السابقة .
 هوت الجبال فوق رأسي وائل وراضي ، تمنيا لو تقتلهما في التو واللحظة ، أبقت عليهما لتزيد من ألمهما ، فقدا التحكم في إرادة حركاتهما . المسئول يشير بيده يرجوهما تمالك أعصابهما ، انهار وائل وعلا نحيبه ، هوت الكلمات من بين أسنانه كفرقعة السياط :
_ قتلت زوجتي وطفلي الذي لم ير النور .. قتلت زوجتي وطفلي الذي لم ير النور .
-هل أنت متزوج ؟ .. سأل المسئول وقد أدرك أن المهمة ازدادت تعقيدا . 
_نعم ، بعد أن يأست من الزواج من ناديه ، تزوجت بابنة عمي منذ ثلاثة أشهر وهي الآن حامل . 
_ هل لم تتصل بأي نساء قبل أو بعد زواجك؟ 
- إطلاقا . 
_  ألم تجر أي عملية جراحية أو نقل دم لشخص آخر خلال هذه الفترة ؟
- لا .
جاء دور المخرج راضي وقبل أن يطرح عليه المسئول أي سؤال ، هز رأسه بشدة وكأنه يريد أن ينفض عنها الكابوس الذي هوى عليها فجأة ، تفرقت نظراته بين وائل والمسئول وهو يعترف بالحقيقة المخيفة قائلا :
_ لا بد من الاعتراف بكل ما حدث بعد الليلة التي أمضيتها مع ناديه ، الضمير هو الذي يقول هذا ، الفضيحة أخف وطأة من الإنكار الذي سيتسبب في مزيد ومزيد من الضحايا . ما أرجوه يا سيدي هو أن لا تتسرب هذه الاعترافات لمن يجد لذة في التشهير .
_ تأكد من أن هذا لن يحدث ،  كان من الممكن أن نستدعيكم عن طريق الشرطة ، لكن حرصت أن اأستدعيكما في سرية  .
أكمل راضي ونظرة من اليأس القاتل تدور داخل عينيه : 
_ في الفترة الماضية كانت لي علاقات تزيد على عدد أصابع اليدين من الوسط الفني وخارجه ، للأسف بعض هذه العلاقات كانت مع نساء متزوجات . أما الطامة الكبرى أنني توجهت لأحد أطباء الأسنان لقلع ضرس خلال هذه الفترة .
لم يتمالك راضي نفسه بعد هذه الاعترافات ،أجهش بالبكاء وانتقلت العدوى إلى وائل. 
قال المسئول :
_ كنت أتمنى أن أشارككما البكاء لو كان يجدي الآن ، لكن حجم المصيبة لا تكفيه ولا تحله الدموع . علينا أن نعمل بمنتهى السرعة لحصر كل من يشتبه في انتقال الإصابة إليه. 
 كانت رسالة ناديه لمسئول الصحة لا تحتوى سوى على أسم وائل وراضي ، لأن الدكتور ذهدي تعلم جيدا أنه مات ولم تحدث بينه وبين إي امرأة أخرى علاقة في هذه الفترة . أما عادل فهي خبرته في الرسالة ، وهي تعلم أنه لم يكن هناك اتصال بينه وبين زوجته في هذه الفترة التي كانت ترقد فيها داخل المستشفى ، علاوة على كونه طبيبا وسيدرك بنفسه مدى خطورة الموقف . 
 
********
عندما أقلعت الطائرة لتترك أرض الوطن ، الأرض التي يعيش عليها أغلى من له في الحياة . أحس بخنجر ينفذ لقلبه ويقتطع منه ببطء حتى يزيد من عذابه ، خاصة أنه يعلم أنها رحلة اللاعودة .  عادل وقراره القاطع الدامي للهرب في صمت . هرب عادل بعد أن علم بالمصيبة التي تكمن داخل جسده ، اتخذ قراره القاتل لروحه لأنه أحب زوجته ميرفت وأولاده . لم يستطع تقبل فكرة أن يعيش وسطهم مُهدَدَا بمرضه ومُهدِدِا إياهم بالإصابة . عادت زوجته ميرفت بعد نجاح العملية وتماثلها للشفاء ، وعاد علاء وعليا من منزل جدتهما ، كان الجميع فرحين وكان عليه أن يبدي أمامهم فرحا مزيفا. محكوم عليه بالموت وعليه ألا يلامس زوجته التي أحبها من شغاف قلبه ، عليه أن يكون حذرا في الاقتراب من أولاده ، امتلأت نفسه بأنه جرثومة تلوث جو المنزل ، وقد تنتقل في أي وقت لتقتل أعز من أحب . دهشة ميرفت شديدة ، أمام إصراره على النوم منفردا في غرفة أخرى ، لم يحاول حتى أن يُقبلها منذ عودتها من المستشفى . ساورتها الشكوك أن يكون عادل حبيبها زهد في حبها ، طرحت الفكرة تحت قدميها ، من السهل أن تشك في حبها لكن حب عادل لا . لم يهادن عادل أفكاره التي تتقلب كجمرة نار داخل رأسه ، كيف يتصرف ؟ ، ماذا يفعل ؟ ، الصمت جريمة وسيبعث على الشكوك داخل ميرفت ، عندما يطول الوقت وهو على حاله من هجرها . ماذا لو ضعف أمام حبه لها يوما وتلامس معها دون وعي !! معنى هذا أنه سيطعنها بيده ويتركها تنزف حتى تلفظ أنفاسها . مرضه ليس له علاج ، سيظل يرعى بداخله حتى يقتله ، لا يهم أن يموت هو ولكن هم يجب أن يبتعدوا عن طريقه تماما . ليالي ساهرة وأيام وهو يقلب الأمر على كل وجوهه ، الطرق دائما كانت تنتهي عند طريق الهروب . نعم يجب أن يهرب منهم جميعا ، لو كان بيده لقتل نفسه كما فعلت ناديه ، لكنه لا يريد أن يخسر أخرته كما خسر حياته دون قصد منه ، ليهرب بجسده ويترك قلبه معهم فهذا أفضل حل له وللجميع . ذهب لزيارة أبيه وأمه ،عرج على جميع أحبائه وهم لا يعلمون أنه يودعهم الوداع الأخير ، عاد إلى منزله يداعب ميرفت وعلاء وعليا ، مما أحيا الأمل داخل ميرفت في أن تكون هذه الليلة نهاية هجره لها ونومه في غرفة منفصلة . خاب ظنها عندما ولج غرفة الهجر وأغلق الباب ، ظل ساهرا حتى الفجر يكتب في خطابه لميرفت ، يرويه بدموعه ،  تسللت خيوط الفجر الأولى ، انسل خارجا نحو المطار بعد أن ودع كل شيء حتى جدران المنزل . 
********
       اتخذت قرارها في هذه الليلة ، يجب أن تفاتحه وتناقشه في سبب هجره لغرفة نومهما ، لا تشك لحظة في حبه لها لكن ما هو السبب ؟ ، الليلة كلها قضتها متقلبة في الفراش ، لم يغزو النوم عينيها إلا مع خيوط الفجر الأولى ، في نفس الوقت الذي كان فيه عادل يستعد لهجر حياته بالكامل معها وليس من غرفة النوم فقط . بالرغم من تأخر نعاسها استيقظت مبكرا ، تدفعها فكرة إنهاء هذا الهجر الذي ليس له مبرر. فتحت باب غرفته برقة لتوقظه بقبلة طال اشتياقها لها ، تقابلت عيناها مندهشة مع الفراش الخالي ، بحثت عنه في كل أرجاء المنزل ، الساعة لم تتجاوز السابعة وهو غير معتاد أن يغادر المنزل إلى عمله قبل العاشرة . لم يخبرها بالأمس أنه مضطر للخروج مبكرا لأي سبب من الأسباب ، عادت إلى الغرفة ثانية ، جذب انتباهها المظروف المغلق والموضوع على المنضدة والمعنون باسمها ، فضت مظروف النهاية بالنسبة لها ، ومع كل كلمة من كلماته كانت تخرج روحها وتأبى أن تعود :
      حبيبتي وأغلى شيء لي في الوجود ، جنية بحور الشعر ، هل تتذكرين أول مرة تقابلنا فيها ، وحلقتِ بي إلى جنة الله التي لم يسمع عنها أحد سوانا . أتذكر هذا اليوم الآن ، أقارن بين حالي في تلك الليلة وحالي هذه الليلة ، جالس أكتب لك وقلبي يتلظى فوق جمرات متوهجة ، أعلم تماما أن هذه الجمرات لن يخبو توهجها لآخر يوم لي في هذه الحياة . قد لا تصدقين إن قلت لك أنني أشعر بلذة الألم وهي تشوي قلبي بنيرانها المستعرة ، نعم يا حبيبتي الألم أحيانا يعطي شعورا باللذة . في حالتي هذه الشعور باللذة يتولد من أنني أعاقب نفسي أشد العقاب من أجلك ، أكتب على نفسي الموت من أجلك ، ألا تعلمين أن الموت قد يكون له طعم مستساغ لو قورن بفراقي عنك . أنك لا تعلمين أي موت كنت فيه في الأيام السابقة ، أراكِ أمامي وأعجز عن احتوائك بين ذراعي ، لم يكن أمامي الخيار ، إما أن استسيغ الموت وأهجر حضنك ، أو أحتويك بين ذراعي وأنفث فيك سما ناقعا يفوق سم الحية الرقطاء . لا تندهشي يا حبيبتي ولا تتألمي ، أتخيل عينيك حبيبتي وهما يذرفان دموعا بالنسبة لي أغلي كثيرا من حبات الماس . لم يكن أمامي سبيل سوى أن أهرب من نفسي للأبد حتى أدعك تعيشين ، لم يكن أمامي سوى الهرب النهائي ، أفضل من رؤية نظرة عتاب ولو للحظة واحدة تطل من عينيك . أخطأت ولكن أقسم لك أنه خطأ لا يحتسب عليَّ ، هذا الخطأ أشترك فيه عاملان ولم يكن لي ضلع فيه ، الأول هو خروجي عن وعيي ، والثاني حزن كالجبل عليك كان يربض فوق قلبي . في تلك الليلة التي رجوتِ فيها ناديه أن تصحبني إلى المنزل لآخذ قسطا من الراحة ، وقعت الواقعة ، أنا خرجت عن وعيي بعد عدة كؤوس من الويسكي ، كنت أظنها ستنسيني بعض من ألم يعتصر قلبي لمرضك ، وناديه خرجت عن وعيها بمرضها الذي كنا نجهله ، مرض انفصام الشخصية الذي أصابها عقب صدمة عصبية حادة ، إثر علمها بأن سبب الكوارث كلها كانت بسبب مرض الإيدز الذي نقله لها زوجها وهي أورثته بدورها لابنتها . لم تعلم بهذه الحقيقة المرة إلا بعد انتحار زوجها حامد النجار ، نزوتي أنا وناديه لم يكن مدبرا لها ، لم يجل بخاطري أو خاطرها بمثقال ذرة أن أخون حبيبتي وزوجتي التي ملكت حياتي كلها ، وهي أيضا كان من المستحيل أن تخون صداقتها لك وأنت في منزلة الأخت لها . كان من الممكن لولا هذا المرض الذي من المؤكد أنه انتقل إلىَّ منها ، أن نجيء نحن الاثنان معا ونعترف أمامك بخطأنا . وأنا متأكد بأنك كنت ستغفري لنا لأنه خطأ كانت له ظروفه الخارجة عن إرادتنا ، وليس المقصود منه خيانة إنسانة نعتز بها ونحبها . القدر الأعمى الذي يضرب ضربته دون أن ينظر لمن يوجهها ، كال لنا جميعا لكماته الحديدية ، التي انتهت بانتحار ناديه تحت وطأة تأنيب ضمير شديدة ، وبي أنا للفرار من جنتي التي كنت أعيش في نعيمها ، وبك أنت ترقدين تحت أكوام من الحزن الهائل أمام هذه الحقيقة المفجعة ، التي أخشى أن لا تتحملها أعصابك المرهفة فتسوقك للحتف ، وأكون قد قتلتك بيدي .
 اغفري لي وسامحيني فليس أمامي سوى أن أعاقب نفسي بالهروب القاتل بالنسبة لي ، هذا أفضل من أن أزهق روحي كما فعلت ناديه ، أرجو أن تقبلي أمي وأبي وفلذات كبدي علاء وعليا . وأنا واثق أنك ستجدين ما ستخبرينهم به دون أن تشوهي وجهي أمامهم .. الوداع يا حبيبة الحياة والآخرة .  
طريد الحياة عادل
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛