لعقود طويلة كانت قضية «الإصلاح» من الموضوعات غير المُحبَّبة لدى النخب السياسية العربية فى عمومها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والبدء التدريجى لاستقلال الدول العربية وتخلصها من الاحتلال الأجنبى بصيغة أو أخرى. النخب الجديدة التى جاءت بعد «ثورات» أطاحت بالنخب القديمة، التى كانت من ناحية ذات ثقافة غربية ليبرالية، وكبيرة السن فى معظمها، وحلت محلها نخبة جديدة من الشباب، الذى أخذ يستلهم إما من تركيا «الأتاتوركية» أو من النماذج الثورية الاشتراكية الجديدة فى العالم.
الأجيال الجديدة كانت باختصار لا تطيق الانتظار، وتريد حرق المراحل، والقيام بالتصنيع؛ إما من خلال قرارات ثورية مثل تأميم قناة السويس، أو مشروعات عملاقة مثل السد العالى.
كانت المعركة مع الاستعمار لا تزال مستمرة، ومعها كانت معركة مواجهة التخلف مُلِحّة، وكان المراد دائمًا عملية اختراق واسعة النطاق سواء من خلال تحقيق الوحدة العربية، أو تحرير فلسطين، أو لعب دور دولى من خلال حركات عدم الانحياز أو الحياد الإيجابى. كان هناك الكثير من الأفكار الإصلاحية التى تكونت خلال سنوات الأربعينيات، والتى كانت تحاول الموازنة ما بين تحسين أحوال معيشة الشعب، وزيادة موارده وقدراته المادية من ناحية أخرى. فى الواقع كان ما تم مقصورًا على الجبهتين، فتحسن العيش صار إدارة الفقر لقطاعات عريضة من الشعب، وبناء الموارد والقدرات بات متخلفًا عن المستويات الدولية والعالمية. وكانت هذه هى الحالة التى واجهت بها النخب الثورية الجديدة الاختبار الأكبر فى يونيو ١٩٦٧، والذى أظهر الحالة التى بات عليها النظام السياسى والعسكرى والاقتصادى فى البلاد.
محاضر اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى، التى انعقدت فى 3 و4 أغسطس ١٩٦٧، أى بعد أشهر قليلة من «النكسة»، تكشف حقيقة ما بات عليه نظام «يوليو» أو جيل الثوار الجدد ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبات واضحًا أن هناك حالة إفاقة وجهت جهودها إلى إزالة آثار العدوان مع إشارات إلى إصلاح «الجبهة الداخلية».
العقود الثلاثة التالية، رغم التكافل العربى لمواجهة العدوان، وشن حرب الاستنزاف ومن بعدها حرب أكتوبر بشقيها العسكرى والنفطى؛ فقد نتج عنها توجه يسارى عنيف يعود إلى ما كان فى الستينيات مضافًا إليه ما اعتُبر دروسًا من حرب فيتنام، وما بدا هزيمة أدت إلى «الخروج الأمريكى» من المعادلات الدولية المتجهة نحو اليسار. على الجانب الآخر، ومع «الحقبة النفطية»، ظهر اتجاه شديد المحافظة سرعان ما أسفر عن وجوه إرهابية. وسط ذلك، ظهر اتجاه إصلاحى ظل غائبًا لسنوات طويلة، مثّله الرئيس السادات، الذى كان واقعيًا فيما يتعلق باستمرار الصراع مع إسرائيل، وأكثر واقعية فى ضرورة العمل على زيادة عناصر القوة الوطنية، مع القيام بإصلاحات اقتصادية تُعيد مصر إلى الحالة الطبيعية للأمم. وقتها كانت آثار انتهاء الحرب الفيتنامية فى شرق آسيا قد ظهرت فى شكل توجهات إصلاحية تُعيد الاعتدال إلى المنطقة، ومعه عملية بناء الدول والنظم الاقتصادية. نهاية السبعينيات وعقد الثمانينيات شهدا البدايات الأولى لإصلاحات شرق وجنوب شرق آسيا، بينما فى مصر جرى اغتيال الرئيس السادات، واستغلال «ثورة ١٨ و١٩ يناير» لعودة التفكير المصرى إلى ما كان عليه لإدارة الفقر وليس إدارة التنمية. فى مصر ودول عربية أخرى بدا التيار الدينى السلفى الإرهابى درعًا لمواجهة فوضى اليسار، ومن ناحية أخرى عونًا على أوضاع تتدهور كل يوم.
لم يمنع ذلك من محاولات إصلاحية هنا أو هناك، وبرز أكثرها جدية فى التسعينيات من القرن الماضى فى تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، وبروز «دبى» كتجربة عالمية فى عالم المدن متعددة الأعراق. ولكن المُحصِّلة ظلت دائمًا مُتخلِّفة عن التيار العارم للتقدم فى العالم، سواء كان ذلك فى الصين وجنوب شرق آسيا أو شرق أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة.
لم يكن بلوغ الألفية الجديدة كافيًا للتغيير اللازم للإصلاح. كانت هناك تجارب جزئية أجهضها دائمًا استمرار نمو التيار المحافظ، وفى الحالة المصرية جرى ربط الإصلاح بالتوريث أو باختصار استمرار نظام فقد الكثير من حيويته مع طول مدة الرئيس فى الحكم. ولم يكن ممكنًا فتح أبواب الإصلاح الكبير دونما مواجهة مع ما بقى من نظم «يوليو» فى المنطقة من بيروقراطية عاجزة، ومواجهة مع التيار المحافظ، الذى بدا ممتلكًا لعقول ومشاعر الجماهير دونما امتلاك لمشروع وطنى شامل للنمو والتنمية. «الربيع العربى» جاء لكى يحقق هذه المهمة، رغم كل ما جرى له من تقلصات، أدّت فى الحقيقة إلى موجتين من الربيع: واحدة لإزاحة ما كان من محافظة بيروقراطية أو دينية؛ وواحدة لوضع الأساس لمشروع إصلاحى شامل يسير على خطوات الدول النامية والصناعية الجديدة فى العالم.
أطلقت الدول العربية التى تمكنت من الصمود فى وجه عاصفة الربيع العربى عمليات إصلاح واسعة النطاق برؤى وضعت عام 2030 هدفًا لتحقيقها. وما يعنيه هذا، فى النهاية، هو أن الدول العربية التى اختارت الإصلاح الشامل وضعت أقدامها على بداية طريق القرن الحادى والعشرين وتقنيات وصناعات وعلوم هذا القرن. ويسير مسار الإصلاح الشامل فى عدد من الدول العربية، ليس بنفس الطريقة أو وفق نهج أو أيديولوجيا واحدة، بل فى إطار السياق التاريخى الخاص بكل مكان، سواء فى المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربى، أو فى مصر والأردن والمغرب وتونس، فقد رأينا، فى السنوات الأخيرة، عمليات إصلاح واسعة النطاق، تختلف فى تفاصيلها من بلد إلى آخر. ومع ذلك، اتحدت فى حقيقة أنها اتخذت جميعًا كنقطة انطلاق تغييرات اقتصادية جذرية تهدف إلى جعل الدول العربية شبيهة بنماذج الدول الناشئة التى حققت مثل هذا التقدم السريع خلال العقود الأربعة الماضية.
فى الأساس، كان هناك مسار للإصلاح يسعى إلى تحفيز الاقتصاد من خلال الاستثمار المكثف فى البنية التحتية والتنمية الحضرية، وفى تحديث القطاعات الصناعية والتكنولوجية فى البلاد.
إن «شمولية» هذا النهج للإصلاح لم تأتِ بمفاهيم معينة تنادى بها المؤسسات الغربية. من ناحية أخرى، فإن الشمولية تشمل جميع الفئات الاجتماعية والدينية وجميع المناطق الجغرافية وسكانها. تتجه المملكة العربية السعودية بشكل متزايد نحو البحر الأحمر، ليس فقط من خلال مشروع مدينة نيوم الطموح، ولكن أيضًا من خلال التوسعات الاقتصادية، التى تمتد على طول الساحل الغربى بأكمله للمملكة. فى مصر، هناك تحول مماثل «من النهر إلى البحر». هنا، امتدت عمليات التنمية إلى ساحل البحر الأحمر وسيناء والساحل الشمالى بأكمله من طابا إلى السلوم.
فى كل من الحالتين السعودية والمصرية، يفتح التطور الطريق أمام زيادة الاختراق الجغرافى، وبالتالى اكتشاف كميات لا حصر لها من الموارد غير المستغلة سابقًا. النموذجان السعودى والمصرى خلقا تيارًا وتوجهًا يضع دولًا عربية أخرى على مسارات مماثلة، وفى جميعها يجرى الاعتراف بدروس الربيع العربى من ناحية، والتوجه إلى المستقبل من ناحية أخرى.