"عبدالحميد بدران" اسم أديب مصري غرباوي ريفي أزهري، متكامل نفسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا وأدبيًّا بطريقة خاصة جدًّا، فهو منسجم مع نفسه والآخرين، ومع محيطه الداخلي والخارجي، يجمع بين خلال ثلاث قلَّما يتحققن في شخص: (الصفاء والوفاء والنزعة العَمَلية). فليس هو ممن يستعلي علينا أو يتعالم أو يشحذ الثناء أو يتسربل بما ليس فيه، وليس هو ممن يتربص أو يكيد أو يتجاهل أو يفرط في حق الآخرين، وليس هو ممن يريد من الآخرين سمَّاعين وفقط! وليس هو ممن يفرض على الآخرين بضاعته، وليست بضاعته كاسدة تحتاج مُرَوِّجًا، وليس هو ممن يجتر قديمه ويتاجر به ليل نهار! وليس هو بالمتشنج ولا المتهور ولا المتملق ولا المتسلق ولا المتظالم، على النحو الذي نراه في واقعنا الافتراضي الغاشم الجاثم، يحيا بإبداع، ويحيا لإبداع، يحيا للقلم، ويحيا بالقلم! وهذه الثلاثية (الصفاء والوفاء والنزعة العَمَلية) جعلت منه (قائدًا) غير منظور، و(قائدًا) نحتاجه، و(قائدًا) فيه الخير الكثير، و(قائدًا) يبني ويعطي ويتفانى ولا ينتظر أجرًا ولا فائدة ولا عرضًا من أعراض الدنيا، تأتيه الدنيا راغمة ولا يأتيها، إنه التقي النقي الصفي الوفي، أقول ذلك عن عشرة، وأقول ذلك عن قراءة في آثاره علمية وأدبية، وأقول ذلك عن طريق مشاركته في مشروع عن علمي فذ هو تأسيس المؤتمر الدولي الأول لمدرسة شباب النقد الأدبي، وأقول ذلك عن تنبؤ(ولنقل تفرس) واستشراف، وأقول ذلك عن سماع لا ينتهي من أساتذته وأترابه وطلابه، وأحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدًا....
وتأتي جيميته (الرجل البدائي) دليلاً إبداعيًّا على ما أقول: طلقة شعرية ضد عالم المادة، وعالم النرجسية، وعالم التكنولوجيا، طلقة شعرية ضد الافتراضيين والمفروضين، والمرفوضين والرافضيين عقليًّا لا عقديًّا ! دليلاً أبهرني، دليلاً جذبني وجبذني، دليلاً فرض علي التلقي الإيجابي الفوري له، دليلاً إبداعيًّا على حياة الإبداع الأزهري وحيويته وحداثته! ما إن قرأت هذه الخريدة البدرانية المحضة حتى قلت: نص يستدعي المقاربة الأيكولوجية استدعاء، وقالت نفسي الأمارة عقب قراءته: قاتل الله من زعم موت المؤلف، ومن روج لذلك، ومن طبق ذلك، ومن اقتنع بذلك. إن(الرجل البدائي) تجربة لا يمكن فصل المبدع فيها عن الإبداع، ولا يمكن قراءتها بعيدًا عن مبدعها، جمالها في هذا التمازج والانسجام العجيب بين الإنسان والمكان. إنها نص بيئي صرف: من البيئة خرج، وفي البيئة دار، وعن البيئة عبر، وإلى بيئة صحية خضراء دعا! وهذا ما يدعونه(الأيكلوجية)!
وما إطلاقي لفظة(الأيكولوجية)-ذلك اللفظ الدخيل المولد المفروض بفعل الضعف العروبي الآني- نوع من التعالم، ولا نوع من التفاخر بالحداثة، ولكنه وسيلة لجذب المتلقي إلى هذا المنهج النقدي الطازج الوافد إلينا، عبر النقلة العرب، من بني الأحمر والأغبر!
والتعريف العملي الذي وضعه منظرو الأيكولوجية أو دعاة النظرية النقدية المتعلقة بالبيئة هو أن "النظرية النقدية المرتبطة في البيئة تدعو إلى دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة الطبيعية، عن طريق استعادة الكرامة المهنية بكتابة أنواع الطبيعة المحبوسة القيمة، ولهذه النظرية موقف أخلاقي تتخذه وتلتزمه نحو العالم الطبيعي المهم فيها ولها، وليست الأيكولوجية دراسة مواضيعية أو موضوعاتية فقط بل لابد فيها من المزج بين الشكل والمضمون معًا، باعتبار أن الشكل بيئة العمل الأدبي، والمضمون روحه وشعلته!
وفي تجربة عبدالحميد بدران نجد النزعة الأيكولوجية بادية في كل بيت، بل في كل شطر، بل في كل جملة، ولا أبالغ حين أقول: في كل مفردة! إنها سيرة شعرية مكثفة، تمتزج فيها الذات مع الآخر، مع الأجيال السالفة والأجيال القادمة، مع الريف، مع الكتاب، مع المكان، مع الزمان، مع النبات، مع الحيوان، مع الجماد، مع اللغة، مع العشق، عبر تسعة عشر بيتًا!
ولنقف أولا مع مطلعه:
انا رجل بدائيُّ المزاج بكشّافٍ ومِسبحة سِراجي
نجد أنفسنا مع قالب إيقاعي وافري متحرك لذيذ، وتزداد اللذاذة بألف الردف وياء الوصل، ومع هذا الروي الجيمي الصادم بغرابته وندرته، وحق لشاعرنا أن يختاره إن قصد إليه أو يقبله أن أتاه عن طريق أَتِيِّ؛ لأن فكرة النص غريبة ونادرة! ومع أننا أمام جيمية إلا أننا لا نجد في قوافيها كلمة حوشية أو غريبة أو مجتلبة، وهذا دال على طبعها وكونها دفقة واحدة، من بيئة واحدة، ومن نفس واحدة، يبدأ النص بالضمير المهيمن(أنا) فمن يخاطب شاعرنا؟ أيخاطب نفسه تنبيهًا، أو يخاطب غيره إرشادًا؟ ولماذا هذه اللفظة المتعصبة(رجل) وليس لفظة(إنسان) التغليبية! ثم تكون اللفظة المفتاح(بدائي) وما فيها من إيحاء بالصفاء والنقاء والخضرة والبياض والفطرة! ثم اللفظة النفسية الخاصة(المزاج) وما فيها من هوى وعشق ورغبة وشهوة وإرادة! ثم يأتي العجز معبرًا عن مرجعية بدران في الحياة(كشاف) و(مسبحة) يمثلان (سراجه)، حيث الإعلان عن النزعة الثقافية الصوفية المستنيرة! ومع أن النرجسية سمة كثير من الشعراء إن لم أقل كلهم! إلا أن التعبير الاستفتاحي: (أنا رجل بدائي) يعلن عن مبدع متواضع، مستريح لهذا التواضع، يتخذه شعارًا، ويراه دواء كما سنرى في محطات القصيدة التالية...