بالأرقام لا بالعواطف.. كشف حساب شامل لفترة حكم مبارك
ما الصورة التي ستظل راسخة أكثر في عقول المصريين لمبارك : هل لقب «رجل الحرب والسلام»، الذي استخدمته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عنوان تغطيتها لخبر وفاته، أم وصمة «المستبد المصري الذي أزاحته انتفاضة شعبية» التي رأتها صحيفة وول ستريت جورنال أنسب في مقام تشييعه إلى مثواه الأخير؟
سننحي الانطباعات الشخصية جانباً، ونستند إلى الإحصائيات الاقتصادية، والمؤشرات الدولية، واستطلاعات الرأي الشعبية والوثائق المسربة في محاولة لتقديم تقييم موضوعي قدر الإمكان للإرث التي تركه مبارك للمصريين.
ماذا حدث لـ«النواة الأساسية لنهضة مصر الصناعية» في عهد مبارك؟
استلم مبارك مصر وهي تمتلك ما يمكن تسميه «نواة أساسية لنهضة صناعية»، إذ تراوح معدل نمو الصناعة في السنوات الخمس الأخيرة من عهد السادات بين 5.5% و7.9% سنوياً، بينما تفاوت أداء الصناعة في عهد مبارك من فترة لأخرى، ففي السنوات العشر الأولى من حكمه «1981- 1990» كان أداء الصناعة قريباً مما كان في عصر السادات، ولكنه تدهور بشدة في الخمسة عشر عاماً التالية، فأصبح معدل نمو الصناعة في النصف الأول من التسعينيات نحو نصف معدله «5% و10% على التوالي» ثم استمر التدهور بعد ذلك حتى تراوح هذا المعدل بين 3% و4% في السنوات الأخيرة.
لم يقف الأمر عند ضعف النمو الصناعي، إذ شهدت الخمس عشرة سنة الأخيرة من عهد مبارك اتجاهاً متسارعًا لبيع المصانع، حين زادت ضغوط صندوق النقد الدولي والإدارة الأمريكية بعد توقيع مصر لاتفاقية مع صندوق النقد في مايو 1991، ومع البنك الدولي في نوفمبر 1991.
و رأى صندوق النقد والإدارة الأمريكية، في سنة 2004، أن الخصخصة لا بد أن تسير بسرعة أكبر بكثير؛ فجلبا إلى الحكم حكومة من نوع جديد، أبرز وزرائها من أكبر المتحمسين لبيع القطاع العام.. كما يذكر جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في كتابه "قصة الاقتصاد المصري.. من عهد محمد علي إلى عهد مبارك"
سياسة مبارك الاقتصادية النيوليبرالية.. كيف أثرت في العقد الاجتماعي؟
في بداية فترة مبارك كانت مصر تعاني من وضع اقتصادي سيئ، وورث مبارك مشكلات اقتصادية متراكمة بالفعل، وعلى سبيل المثال، بلغ حجم الدين الخارجي مع وفاة السادات نحو 14.3 مليار دولار، فنظم مبارك مؤتمراً اقتصادياً كبيراً في فبراير 1982، وجرى الاتفاق فيه على اتباع استراتيجية طموحة من خلال خطط خمسية للتنمية بدأت الأولى منها عام 1982، حسبما ورد في الدراسة الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
غير أن ما حدث خلال فترة مبارك كان عكس التوصيات التي خرج بها المؤتمر؛ إذ اتجه إلى اتباع نهج الاقتصاد «النيوليبرالي» كما سنتحدث والتوجه نحو الخصخصة والاستثمارات الأجنبية المباشرة في كل القطاعات، إضافة إلى تمكين رجال الأعمال على حساب العمال ومحدودي الدخل.
إن مبارك «الليبرالي الجديد» سارع في إكمال خطة الانفتاح الاقتصادي التي أطلقها السادات.. تلك العملية التي مهدت الطريق لتفكيك العقد الاجتماعي الذي كان مستمرّاً في ظل اقتصاد شديد المركزية خلال فترة جمال عبد الناصر. و في الوقت نفسه أصبح الفساد والرشوة نمطًا من الحياة اليومية التي حاصرت مصر وأدخلتها في حلقة مفرغة، حيث «ضعف الدولة يشجع الفساد، وانتشار الفساد يضعف الدولة أكثر».
وفي كتاب «الاقتصاد المصري من تجربة يوليو (1952) إلى نموذج المستقبل»، يقارن الباحث الاقتصادي أحمد السيد النجار بين مصر عام 1952 ومصر قبل خلع مبارك قائلًا: «إن ثورة 1952 وضعت 18 قرشًا حدّاً أدنى للأجر يوميّاً، موضحاً أن المبلغ كان يشتري نحو 1.5 كيلوجرام من اللحم في الريف ونحو 1.2 كيلوجرام من اللحم في المدن .. أي أن دخل العامل الشهري 34 كيلوجراماً من اللحم أي أكثر من 2000 جنيه، وفقاً لمعدل الأسعار في آخر أعوام حكم مبارك التي كان الحد الأدنى للأجور يبلغ فيها على أرض الواقع 118 جنيهاً فقط.
ويخلص الكتاب إلى جملة استنتاجات منها اضمحلال شريحة الطبقة الوسطى التي تضم نخبة المتعلمين في المجتمع، ووقوع الكثير منهم في براثن الفقر والبطالة.
وإذا كان هذا هو حال الحاضر آنذاك، فإن ملف الديون كان يوفر إطلالة مبكرة على آفاق المستقبل؛ إذ اعتمد مبارك سياسة التوسع في الاقتراض الخارجي بمرور السنين، حتى تفاقم الدين الخارجي بشكل كبير ووصل إلى 47.6 مليار دولار مع بداية عام 1990. صحيح أن إرسال مبارك قوات للمشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في حرب الخليج، توِّج بتنازل الدول الخليجية عن جزء كبير من مديونياتها لمصر، ومهد لاتفاق عقدته القاهرة مع البنك الدولي لتخفيض 50% من ديون مصر الخارجية، حتى استقر الدين الخارجي لمصر مع منتصف التسعينيات عند قرابة 27 مليار دولار، لكن بحلول نهاية فترة مبارك، بلغ الدين المحلي 888.7 مليار جنيه، فيما وصل الدين الخارجي إلى 33.6 مليار دولار، وهو ما كان يعادل قيمة الاحتياطي النقدي حينئذٍ، ليصل الدين العام إلى نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي.
نمو اقتصادي بدون رخاء للمواطنين.. كيف كان حال مصر مقارنة بجيرانها؟
على الرغم من أن إجمالي الناتج المحلي في مصر ارتفع بنسبة 5% تقريبًا في عام 2010، بحسب تقرير البنك الدولي، فإن خُمس المصريين الذين شملهم استطلاع جالوب عام 2009 هم فقط من كانوا يعتقدون أن الظروف الاقتصادية تتحسن، مقارنة بمتوسط 41% من مواطني الدول المجاورة متوسطة الدخل في المنطقة.
وفي أواخر عام 2010، كان 9 % فقط من المصريين يمكن تصنيفهم في فئة «الازدهار» (استناداً إلى تقييمهم لمستوى معيشتهم الآن وبعد خمس سنوات) مقارنة بـ13% في أوساط مواطني الأراضي الفلسطينية، و11% في اليمن، وهما دولتان تواجهان مشكلات أكثر صعوبة، ويبلغ نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي فيهما أقل من نصف نظيره بمصر، أما النسبة في ليبيا فكانت 14% وفي الأردن 29% وفي الإمارات 79% .
نمو اقتصادي بدون فرص متكافئة.. من المستفيد الأكبر في «دولة مبارك»؟
من مفارقات عهد مبارك أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي ارتفع بموازاة تراجع إمكانية وصول المواطنين إلى هذه الثروة الجديدة. على سبيل المثال، قال 20% فقط من المواطنين الذين استطلعت مؤسسة جالوب آراءهم في عام 2010 إن الحكومة سهلت إنهاء الإجراءات والتصاريح بدرجة كافية لرجال الأعمال.
وكان واحد فقط من بين كل خمسة مواطنين يشعر بالرضا عن الجهود التي تبذلها الحكومة لزيادة عدد الوظائف ذات الجودة، كما انخفضت نسبة المقتنعين بأن القيادة المصرية تهتم بالشباب إلى 29% في عام 2010 من 41% في العام الذي سبقه.
ولخصت مجلة فورين بوليسي الأمريكية أحد أهم أخطاء مبارك الاقتصادية في «الفشل في توزيع الثروة توزيعاً عادلًا بين أطياف المجتمع المصري»، فرغم نمو الاقتصاد المصري بشكل عام، فإن معظم المصريين لم يشعروا بفارق كبير في مستوى معيشتهم اليومية، ولم يحصلوا على حصتهم العادلة من ثروات بلادهم الغنية بالموارد الطبيعية، وفي الوقت ذاته باتوا يرون رجال الأعمال المقربين من الحزب الوطني الحاكم يسرقون ثروات البلاد.
وبينما زاد الدخل السنوي لنحو ألفي أسرة عن 35 ألف جنيه مصري، كان دخل أكثر من 4 مليون مصري يقل عن 200 جنيه. ووصل عدد الفقراء في مصر في يناير 2011 إلى 50% وارتفعت النسبة أكثر في محافظات الصعيد، وكان قرابة نصف الشعب المصري يعيشون على دولارين أو أقل في اليوم.
كيف نقرأ ارتفاع الناتج المحلي في ظل ارتفاع معدلات البطالة والتضخم؟
ظلَّت الحكومة المصرية تتفاخر بارتفاع إجمالي الناتج المحلي في السنة المالية 2010 إلى 5.3%، مقارنةً بـ4.4% في السنة المالية 2009، وكان متوقعًا أن ينمو الاقتصاد المصري بنسبة 6.0 – 6.2% خلال السنة المالية 2011.
لكن ماذا عن انعكاس هذا النمو على واقع سوق العمل في مصر؟ يقول تقرير البنك الدولي الصادر في ذلك العام (2010): إن البطالة ستظل تمثل تحدياً لمصر، وآفاق النمو الذي يصل إلى 6% لن يكاد يستوعب العدد المتزايد من الوافدين الجدد على سوق العمل.
وشهدت مصر خلال عهد مبارك ارتفاعًا كبيرًا في معدلات البطالة، خاصة بين خريجي الجامعات، إذ زادت من 5.1% في بداية حكم مبارك إلى 9.2% بعد عشر سنوات من حكمه وتحديدًا عام 1991، ثم زادت النسبة مرة أخرى إلى 11.7% بعد سبعة أعوام أخرى، أي عام 1998. وارتفعت أكثر في آخر أعوام مبارك، إذ أعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب إلى 20.4% في عام 2010.
وارتفاع معدلات البطالة، يعني عدم وجود دخول كافية للإنفاق. ما يحيلنا إلى مؤشر آخر لا تكتمل الصورة بدونه، وهو التضخم، لنجد توقعات البنك الدولي حينذاك تستشرف زيادة ضغوط التضخم، وترجح أن تؤثر الأسعار العالمية في المستهلكين المحليين، بموازاة تعديل تدريجي في أسعار الطاقة، ما يثقل كاهل المصريين الذين لا يجدون أصلًا مورد رزق ثابت يكفي إحتياجاتهم الضرورية
حجم الفساد في آخر عهد مبارك مقارنة بدول المنطقة والعالم
اعتمادًا على 13 دراسة استقصائية مستقلة، صنَّف تقرير مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2010 (آخر سنة كاملة حكم فيها مبارك مصر) في المرتبة 98 عالميًا (من بين 178 دولة)، وعلى مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حلت مصر في المرتبة 12 (من بين 19 دولة)، بـ3.1 نقطة
(10 يعني: دولة خالية تمامًا من الفساد، وصفر يعني: فاسدة تمامًا) .. المصدر: منظمة الشفافية الدولية
«أب سخيّ» أم «حارس سجن»؟.. مبارك في عيون المصريين
استناداً إلى استطلاعات واسعة النطاق، شملت مقابلات أجريت قبل أشهر من ثورة يناير 2011 وجهًا لوجه مع المواطنين البالغين من الذكور والإناث، المتعلمين والأميين، من جميع أنحاء مصر، خَلُصَ تقرير أعدته مؤسسة جالوب للبحوث الإحصائية، إلى ما يلي:
«أدى نمو الاقتصاد الكلي في مصر إلى زيادة ثروة أقلية صغيرة، لكنه ترك معظم المواطنين المصريين بمعزل عن هذا الازدهار محدود النطاق. وبينما تباهت مصر بأعلى التطلعات الديمقراطية في المنطقة، كانت من بين أقل الدول تطبيقًا للديمقراطية في الممارسة الفعلية».
دعونا نتحدث عن «متلازمة ستوكهولم».. كيف يفسر علم النفس تعاطف الضحية مع الجاني؟
صحيح أن الكثيرين قد يتسامحون مع عقدٍ اجتماعي يعتمد على فكرة «الدولة الأبوية»، حيث يقبل الناس مستوى أقل من الحرية في مقابل حصولهم على الخدمات الاجتماعية عالية الجودة المقدمة من الدولة، لكن المصريين «لم يحصلوا لا على الحرية ولا على الخدمات». وبموازاة تراجع رضا المصريين عن جرعة الحرية الشخصية الممنوحة لهم، تضاءل رضاهم أيضًا عن الضرورات التي توفرها الدولة. ويشير هذا التراجع المزدوج إلى أن «النظام القديم أصبح في نظر العديد من المصريين أشبه بحارس السجن أكثر من كونه أباً سخيّاً يفرط في حماية رعيته».
و للحديث بقية إن أحيانا الله و عشنا !