كلّ صباح وهي تذكر الله مُسبِّحَةً و تتوسّل إليه مُتضرّعةً أن يحمينا ويلطف بنا، تمدّ يمناها المباركة لتفرش أصابعها الرّحيمة على جبيني حينما توقظني من النّوم استعداداً للذّهاب إلى المدرسة البعيدة عن بيتنا الجبليّ المتواضع ، وأنا في المرحلة الابتدائيّة، و تفعل ذلك مع إخوتي الثلاثة وأخواتي الخمس أيضاً لتستكشِف حرارتنا وتطمئنّ بأنّها طبيعيّة...
وفي يوم من أيّام الشّتاء وبعد أن عاينتي بخبرة الأمومة وحرصها كعادتها بيدها المباركة تغيّرت نبرة صوتها وازدادت شفقةً عليّ مع خلال كلماتها التي زيّنها الحنان الممزوج بالخوف بعد أن أحسّت بحرارتي المرتفعة وعلمت بأنّ ذلك هو إشعارٌ بأنّني في بداية مرض شتويّ ما.....
وقتها شعرت بالفرح والفخر اللذين أظهرتُهما لإخوتي وأخواتي مباشرةً، معتقداً بأنّ أمّي بحنانها المعروف ستعفيني ذلك اليوم المميّز من الذّهاب إلى المدرسة والدّوام على مقاعدها الخشبيّة، وسأرتاح من المشي مسافة نصف ساعة على طريق نصفه ترابيّ موحل وسأرتاح من برد شباط ورياحه الحاملة للمطر التي لابدّ أنّها ستكسّر وتُمزّق مظلّتي الصّغيرة وتغرق ثيابي المدرسيّة وتملأ حذائي بالماء البارد، وسأرتاح من العقوبة القاسية التي كنت أتوقّعها لمصلحتي وغيرةً عليّ من معلّمتي في حصّة الحساب الذي كنت أكرهه كما كانت تكرهني مسائله التي أعجز دائماً عن حلّها ، وسأتنعّم بالدّفء أينما أردت الجلوس بجانب مدفأة المازوت المُلتهبة في بيتنا لوحدي هذه المرّة ،وسوف أتدلّل كثيراً فأحصل على عناية خاصّة من أمّي في طعامي وشرابي المدعومين لأنّني مريض، ولن أخسر من عدم ذهابي إلى المدرسة إلّا حصّة الرّسم الذي كنت أعشقه وأتباهى بعرض ما أرسمه على دفتري الغالي الذي كان يحظى برعاية منّي مبالغ فيها ،ولكنّ ربحي سيكون أكثر من خسارتي كما كنت أتوقعّ...
لكنّ فرحي وفخري سرعان ما تلاشيا بعد قرار حكيم من أمّي صرّحت به بعد أن عقدت اجتماعاً طارئاً لدقائقَ فقط مع والدي ، يطالبني هذا القرار بألّا أضيّع يوماً دراسيّاً وخاصّة حصّة الحساب الذي أحتاج شرحاً فيه من معلّمتي القديرة...
ويطالبني هذا القرار بأن أحصل من مدير المدرسة على ورقة معاينة ليفحصني الطبيب في العيادة الصّحيّة ويصف لي الدّواء المناسب، وذلك حصراً في حصّة الرّسم الذي كنت متفوّقاً فيه ولا تلزمني حصّته التي يُمكن الاستغناء عنها برأيها ولاقيمة لدرجاته التي كانت تُوضَع كما اليوم بلا اختبار حقيقيّ.....
نفّذت ماطلبته أمّي حرفيّاً وأنا أشعر بشيء من الخيبة والحزن لكنّ مظلّتي لم تتكسّر ولم تتمزّق على الطّريق كما توقّعت لأنّني لم أستخدمها فالأمطار توقّفت ، ومعلّمة الحساب لم تعاقبني كما ظننت، لأنّها علمت بمرضي وأشفقت على حالتي.....
و حصّة الرّسم العزيزة على قلبي تمتّع بها زملائي في ذلك اليوم دون أن أكون معهم هذه المرّة فلم أتمكّن من التّباهي بعرض مارسمته أناملي الصّغيرة على دفتر الرّسم الحبيب.