لأنه بالنسبة لمصر وشعبها كان الحياة بالفعل ولكل من شارك فيه سيبقى معه بكل فخر مدى الحياة كأحلى ذكرى وما أجملها ذكرى ، ستظل معى إلى آخر لحظة في حياتي ، كم أفخر بأنني كنت واحداً من أبناء مصر الذين شاركوا في انتصار السادس من اكتوبر 1973 ، وكم أفخر بزملاء السلاح من ضباط وجنود كانت أكتافنا تلامس بعضها وكأننا ساترا لوطننا الحبيب ، وكم أفخر وأترحم على الزملاء الضباط والجنود الذين استشهدوا في ساحة الشرف ، بكيتهم وأنا أودعهم في لحظاتهم الأخيرة . ذكريات قاربت أن تصبح نصف قرناً من الزمان لكن أعيشها وأحسها وكأنها بالأمس في كل مرة أكتب عنها ، وكم كتبوا وكم كتبنا ومهما كتبنا لا أحد يمكنه أن يصور هذه اللحظات التي يصعب على أي قلم أن يترجم الأحاسيس والمشاعر ونحن نعبر لنمتطي خط بارليف الذي صوروه وكأنه الجبل الذي لا يمكن لإنسان أو مارد أن يخترقه أو يعتليه أو حتى يقترب منه وقد كدست بداخله وفوق ظهره ترسانات من الأسلحة وأدوات القتل الشيطانية ، تحطيم هذا المصد الهائل الذي كُتب عنه وصُور كأفلام على الشاشة البيضاء أو التلفزيون وتحاكت عنه الأحاديث اسطورة حطمها تكتيك العبور الغريب الذي دًُرس في الأكاديميات العسكرية وعن الأبطال الذين صنعوا النصر ، شىء لا يمكن أن تطويه جعبة التاريخ لكن يعاد مرارا وتكرارا على مدي أعوام طويلة زهوا وفخرا وحلاوة لنصر إعجازي أو معجزة من السماء . هذا النصر وكل ما كتب عنه لا يزال هناك الكثير الذي لم يُعرف أو يُعلن عنه على حد السواء ستكشفه الأيام كما ذكرت سابقا أو لن ينكشف على الإطلاق ويظل من خفايا التاريخ ، لكن هناك الكثير الذي يجب أن يطرح في كل ذكرى كدروس مستفادة للأجيال وكي يضعها كل رئيس يحكم مصر على توالي الزمان لتكون حكمة أمامه فمعظم الرؤساء الذين حكموا مصر سابقا لم تكن الحكمة في طريقهم ولم يضاروا هم بالقدر الذي أُضيرت به بلدا بأكملها وطنا وشعبا . حرب أكتوبر بالفعل كانت إعجازا أو معجزة من السماء ، فمن كان أن يتوقع أن يلملم الجيش أطرافه التي بعثرت دون رحمة في هزيمة يونيو المخزية بكل ما تحمله الكلمة من معنى وانكسار وموت حولتها السياسة الفاشلة وقتها دون حياء إلى ما يسمى " نكسة " وكم حملت المسميات من معاني لاتمت للواقع بأدنى صلة من قريب أو بعيد ، وكيف تَمُتْ ومن أسماها هم شلة المنتفعين حول كرسي الحكم . الآن وبعد مضي ما يقرب من نصف قرن على هذا الانتصار الباهر الذي أذهل العالم كله بعد أن بصم على استحالة عبور هذا الخط الرهيب الذي سمي بخط بارليف وبصمت قبلهم اسرائيل وفوجئوا بأن هذه البصمة مجرد خيال داعب رؤوسهم التي انخدعت في قوة مصر وشعبها بعد هزيمة يونيو 67 ، لكن بانهيار هذا الخط سواء بالعبور بالقوارب المطاطية وتسلقه أو بالثغرات التي انهارت أمام مضخات المياه التي صممها اللواء مهندس باقي عزمي رحمه الله علموا وتعلموا أن الجندي المصري والعقول المصرية لا تقف أمامهم عقبة تعوقهم عن الدفاع عن الوطن ولولا السياسة الفاشلة في ذلك الوقت وتخاذل قادة الجيش ما كانت حدثت هزيمة يونيو 67 والجندي المصري والشعب براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب . دائما أحاول في كل ما كتبته عن هذا الموضوع أن أضع ولو إشارة عابرة عن سبب اهزيمة 67 المرة أمام الأجيال الجديدة التي لم تكن قد أتت إلى الحياة في ذلك الوقت حتى لا يصغُرَ في عينيهم بأس الجندي المصري وبسالته وشجاعة أبناء الوطن من الشعب وتحملهم ما فاق الخيال للوقوف خلف جيشهم في اكتوبر 73 وحتى لا يظن أنهم السبب في هزيمة يونيو 1967 . في هذه المناسبة ومع كل ذكرى أفضل ما يقال هو أن نطلب الرحمة للضحايا من شهداء 67 الذين دفعوا للموت دفعا والأبطال من شهداء اكتوبر 73 الذين قاتلوا بشراسة واستشهدوا في سبيل النصر ، رحمهم الله جميعا . لم تنته حرب 73 بانتهاء القتال لكنها فتحت الباب أمام السياسة والدبلوماسية المصرية ومباحثات الكيلو 101 بخصوص الثغرة وانتهت كلها لصالح اليوم التاريخي السادس من اكتوبر ، واستمرت السياسة والدبلوماسية المصرية المترتبة على هذ الانتصار العظيم وكان ما يهدف إليه الرئيس السادات هو إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية والجولان وبمعنى أوسع بخصوص المنطقة العربية كلها ليحل السلام في المنطقة وكانت خطوته الجريئة بزيارة اسرائيل والتي ألهبت مشاعر العرب الكاذبة ورفعوا أصواتهم التي لا يسمع لها صوت سوى في الفخر الزائف ، التهبت ضد ضد الرئيس السادات وبالتبعية مصر ، أصوات ليس لها وزن ولم تفكر يوما في رفع بندقية في وجه اسرائيل من أجل القضية الفلسطينية ، الأثقال كلها كانت فوق أكتاف مصر وجيشها وشعبها وألاف من الضحايا وتدهور في اقتصادها وهم يغنمون سالمين على حساب مصر ، قاطعوا الرئيس السادات ومصر ولم نسمع لهم صوتا بخصوص القضية الفلسطينية ولو كانوا التفوا حول الحل السياسي وناصروه ، أعتقد أن أمورا كثيرة كانت ستتغير لصالح فلسطين والمنطقة كلها ، ومرت الأعوام ولم نسمع دوي رصاصة واحدة خرجت من أي دولة عربية لصالح فلسطين خاصة وما زاد الطين بله الإنقسام الفلسطيني وكأنه وأد للقضية الفلسطينية أو كصوت عال لإسرائيل أفعلي ما تشائي فلقد أعطيناك فرصة من ذهب وبالفعل تمادت اسرائيل في زرع المستوطنات التي تزداد يوما بعد يوم وبدون توقف ومن الذي سيقف ليقول لا وقد انقسم أصحاب الشأن ، نعم كانت فرصة لا تعوض وسيذكرها التاريخ فرصة الالتفاف حول الرئيس السادات لإيجاد حل سلمي لفلسطين وللمنطقة كلها لكن الجميع ساروا في عكس الاتجاه وتمادوا في العداء لمصر ووصل الأمر أن حماس زرعت الإرهاب في سيناء وكانت تود أن تستوطن بها وتترك غزة لإسرائيل ولولا حماية الله ونجاح ثورة 30 يونيو وبسالة الجيش المصري لحققت أطماعها الدونية الشريرة وعضت اليد التي امتدت بكامل سعتها لمساعدة فلسطين والفلسطينيين ، وها هم قادتها يختبئون في جحورهم ليطلقوا صاروخا بين الوقت والآخر في اتجاه إسرائيل تكون مغبته فوق رأس الشعب الفلسطيني وهم في مأمن يتنعمون بأموال هي حق الشعب ، وبالرغم من كل هذا لم تتخل مصر عن واجبها نحو فلسطين وأخذت على عاتقها محاولة لم شمل الانقسام الفلسطيني والمطالبة التي لا تتوقف عن حل عادل وإقامة دولتين ، فهل ستحاول حماس أن تعود للصواب ، أقول أبدا !!! لأن لها مآربها الخاصة من وراء هذا الانقسام . لا يظن القارئ أنني بعدت عن السادس من أكتوبر لكن الحقيقة أنها حلقة مرتبطة ببعضها فحروب مصر كانت معظمها من أجل فلسطين وأقول بإذن الله هي نهاية الحروب لمصر وكاذب من يقول أن الحروب في المنطقة من صالحها ولذا على الجميع أن يفكروا في الحلول السلمية بمنتهى الجدية وإلا فليحاربوا بأنفسهم لتكون النتائج على رؤوسهم وبداية الحل السلمي لن تكون سوى بانهاء الانقسام الفلسطيني ، بالفم المليان أقول خوضوا تجربة الحل السلمي والدبلوماسية الجادة وخذوا من مصر قدوة في استعادة كل شبر من أرضها لأنه كما يقال رحم الله امرؤ عرف قدر نفسه ، وهذا ما عرفته القيادة المصرية بعد حرب أكتوبر بأن الجيش ولا البلد تتحمل حروبا أخرى فلجأت إلى الحل السياسي ولعل قوة الحل السياسي والدبلوماسية ظهرت واضحة وجلية في استعادة طابا التي اختتمنا بها استعادة كل الأرض المصرية ، ومن لا يتذكر هذه المرحلة من النضال السياسي والدبلوماسي الذي لا يقل شراسة وعنفا عن معارك السلاح وانتصرت فيها الدبلوماسية المصرية التي استعانت بكل الخبرات المصرية بمختلف انتماءاتها السياسة والفكرية في ذلك الوقت منذ عام 82 وحتى إعلان حكم المحكمة في سبتمبر 1988 بمصرية طابا ، أبطال معركة طابا من السياسيين والدبلوماسيين المصريين في الداخل والخارج ما زالوا على قيد الحياة الذين كانت لهم وقفتهم حتى أعلن القاضي السويدي رئيس هيئة التحكيم الدولية في قضية طابا حكمه التاريخي في التاسع والعشرين من سبتمبر 1988 بقاعة البرلمان بجنيف بأغلبية 4 أصوات واعتراض صوت واحد " القاضية الإسرائيلية " حيث تضمن منطوق الحكم " أن وادي طابا بأكمله وبما عليه من إانشاءات سياحية ومدنية هي أرض مصرية خالصة ، وفي 19 مارس 1989 تم رفع العلم المصري بعد أن استعادت مصر مدينة طابا ، آخر مناطق النزاع المصري مع اسرائيل وعودتها إلى السيادة المصرية بعد سنوات من النزاع القانوني في المحاكم الدولية . طابا لا تتجاوز مساحتها واحد كيلومتر مربع " 1090 " متر مربع ، ولم تتوقف مصر عن المطالبة بها حتى استردتها بالدبلوماسية المصرية لنقول والرأس مرفوعة أن مصر استردت كل شبر وأن انتصار أكتوبر ضرب الضربة الأولى بالطائرة والمدفع والدبابة وحقق الانتصار الرائع وكان هو الباب الذي فتح على مصراعيه لتبدأ حربا أخرى من السياسة والدبلوماسية فاسترددنا كل أرضنا وأصبح علم مصر خفاقا فوق كل شبر منها ، وهذا مالم يفهمه أصحاب الحناجر فبقيت فلسطين حتى الآن تحت نير الاحتلال والله أعلم متى ستصبح دولة مستقلة والانقسام داخلها يعطي الضوء الأخضر للاحتلال لمزيد ومزيد من المستوطنات . ذكرى اكتوبر ستظل في وجدان كل مصري سواء شارك فيها بسلاحه أو بقلبه والآن يجب أن نعبر للانتصار الأكبر أن تصبح مصر رائدة من رواد العالم وتخرج خارج مقولة " دول العالم الثالث " فنحن لسنا أقل من الصين التي غزت بمنتجاتها العالم كله ، ليست مجرد كلمات ، لكن تاريخنا يقول ذلك وحضارتنا تقول ذلك وما يحدث الآن في كل المجالات هو بداية الطريق بإذن الله ، وسنحقق بإرادتنا وبعون الله مقولة طريق الألف ميل يبدأ بخطوة ، نعم ستتجمع قلوب جميع المصريين والمحبين لوطنهم وسنجتاز كل الصعوبات والخطوات ستزداد سرعة لنصل إلى نهاية الألف ميل .
إدوارد فيلبس جرجس
********************