ضاقت قاعة الاحتفال بالجموع التى حضرت لتأبين الأديبة الكاتبة مى زيادة، التى توفيت يوم 18 أكتوبر 1941، وكان الحفل يوم 4 ديسمبر، مثل هذا اليوم 1941، وبدعوة من الاتحاد النسائى المصرى، برئاسة هدى شعراوى، وأطلق عليه اسم «يوم مى»، حسبما تذكر سلمى الحفار الكزيرى فى الجزء الثانى من مجلدها «مى زيادة ومأساة النبوغ»، وكان الحضور من مختلف الطوائف والأجناس والطبقات من شيوخ وشبان، وأساتذة ووزراء وطلاب، وخطباء وشعراء، وفقا لجريدتى الأهرام، والمقطم، 5 ديسمبر 1941.
كانت «مى» كاتبة متألقة وصاحبة أشهر صالون فكرى يتردد عليه أساطين الفكر والأدب وقتئذ، مثل عباس محمود العقاد، طه حسين، خليل مطران، أحمد لطفى السيد، الشاعر إسماعيل صبرى، ولى الدين يكن، مصطفى صادق الرافعى، وكامل الشناوى وغيرهم، وكانت سنواتها الأخيرة دراما مأساوية خاصة، فبعد أن شغلت الجميع بتفردها النادر، وجاءت من لبنان لتعيش فى مصر عام 1908، وكان مولدها فى مدينة الناصرة الفلسطينية عام 1886 لأب مارونى وأم فلسطينية، بعد كل ذلك شهدت سنواتها الأخيرة مأساة كبيرة بدخولها مستشفى أمراض عصبية فى لبنان عام 1936، ثم خروجها منه عام 1939، وعادت إلى مصر لكنها اعتزلت الجميع حتى يوم وفاتها.
يسجل الدكتور منصور فهمى شهادته على مأساتها، قائلا فى الجزء الثانى من أعماله الكاملة تحقيق «حسن خضر»: «فى سنة 1930 مات جبران خليل جبران، الذى كانت حياته وإنتاجه وآماله وآلامه وحبه لمى تفيض كلها بما يجبب إليها الحياة، وقد مات قبله يعقوب صروف، ذلك الشيخ الحكيم الذى أجلته «مى»، وجعلت منه رائدا علميا وروحيا وصديقا تعتز بصداقته وتوجيهه، ومات أبوها، ورأيتها تتقبل فيه عزائى، وهو لم يزل فى غرفة موته، وأمها الشيخة تجلس أمامها فى بهو الدار مولولة ناحبة، والأديبة تصطنع التجلد وهى فى آلامها الغائضة، وفى لباسها الأسود، تجلس فى كبرياء وجلد وخشوع، ثم ماتت أمها الشيخة الطيبة الحنون، لقد خلا محيط الكاتبة من الخلصاء والأهل، خلت كذلك من شبابها، ومن ذلك الحسن والبهاء الساطع، فهى حينئذ فى تلك السن التى كثيرا ما تتعرض فيه الكثيرات من العوانس لنوع من العصاب والأمراض النفسية النادرة».
افتتحت هدى شعراوى حفل التأبين، وأعلنت أن الاتحاد النسائى سيصدر كتابا يضم سائر الخطب والقصائد، التى ستلقى فى الحفل، ثم تحدث كثيرون أبرزهم، الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف، والشيخ مصطفى عبدالرازق الذى ألقى كلمة مؤثرة قال فيها: «كانت مى أديبة اجتمعت لها كل أسباب الأديب من ذكاء الطبع، وسلامة الذوق، ولطف الحس، وتنوع المعارف، إلى شغف بالتحصيل، ومثابرة على المطالعة، وكانت أديبة ممتازة، ونصيرة ممتازة للأدب».
أما كلمة طه حسين فكانت «نفحة من نفحات الأدب السامى»، بوصف «سلمى الحفار»، وقارن بين حياتها وحياة أبوالعلاء المعرى، قائلا: «كلكم يعرف أن بؤس أبوالعلاء إنما نشأ مما ألقى إليه من العلم، ومما ألم به من الحوادث فى أهله، وكلكم يعرف أن آخر عهد أبوالعلاء بالحياة الاجتماعية العادية، التى كان يلقى فيها الناس، ويتحدث إليهم ويشاركهم فى حياتهم، إنما هو ذلك الوقت الذى توفيت فيه أمه، فمنذ ذلك الحين قطع الصلة بينه وبين هذه الحياة، وكذلك كانت حياة «مى»، فمنذ عرفت «أبوالعلاء» تتبعت حياته ولكنها شاركت الناس فى حياتهم باسمة، مظهرة للرضا، مضمرة لعبوس شديد، وسخط متصل، ثم توفى أبوها فازداد حزنها وتشاؤمها، ثم توفيت أمها فانقطعت الصلة بينها وبين الناس، وإذا هى العزلة المرة التى لا يتخطاها الإنسان إلا بالجهد الشديد، والإلحاج المستمر».
«وأسمع نعى «مى»، فلا أزيد على أن أعيد فى نفسى هذه الأبيات، التى كنت أنشدها كلما لقيتها: «ألما بمى قبل أن تطرح النوى/ بنا مطرحا، أو قبل أن يزيلها/ فإن لا يكن إلا تعلل ساعة/ قليلا، فإنى نافع لى قليلها»، ولكن هذه الساعة ستتصل منذ الآن فما أعرف أننا نلقى أحدا فنطيل اللقاء، وما أعرف شيئا أوفى فى العشرة، وأحرص فى المصاحبة من الموتى إذا كانوا أعزاء على نفوسنا، وكانوا ينزلون فى قلوبنا، و«مى» فى قلوبنا».
ألقى عباس محمود العقاد قصيدة طويلة عنوانها «آه من هذا التراب» ألقاها باكيا، ومن مقاطعها: «أين فى المحفل «مى» يا صحاب/عودتنا هاهنا فصل الخطاب/عرشها المنير مرفوع الجناب/مستجيب حين يدعى، مستجاب/أين فى المحفل «مى» يا صحاب/شيم غر رضيات عذاب/وحجى ينفذ بالرأى الصواب/وذكاء ألمعى كالشهاب/وجمال قدسى لا يعاب/كل هذا فى التراب؟ آه من هذا التراب».
ثم ألقى شاعر القطرين قصيدة طويلة على غرار قصيدة «العقاد» قال فيها: «أيهذا الثرى ظفرت بحسن/كان بالطهر والعفاف مصونا/لهف نفسى على حجى عبقرى/كان ذخرا فصار كنزا دفينا».
هذا الخبر منقول من اليوم السابع