في حياة الشعوب والأمم ، أيام خالدات وشخوص خوالد، وأحداث تركت أثراً لن يغفله التاريخ، ورجال صنعوا مجداً لن يمحيه الزمن .
ثمانية وأربعون عاماً مضت علي ذكري العبور العظيم، لم ينس المصريون والعرب خلالها " ولن ينسوا" يوم السادس من أكتوبر عام 1973، حين تمكن جيشنا المغوار من تحقيق أول نصر عسكري علي أعداء أمتنا، واسترداد كامل التراب الوطني، وتحرير الروح العربية من قيود الهزيمة والانكسار، بعد أن تحقق لنا الإنتصار بسواعد وعزائم الشرفاء، الذين حفروا أسماءهم بحروف من ذهب علي جدران قلب الوطن .
أحد أولئك العظماء هو الفريق سعد الشاذلي ... صديق عبد الناصر، الذي عارض السادات، وسجنه مبارك!
في الأول من إبريل عام 1922، وفي قرية شبرا تنا مركز بسيون بمحافظة الغربية، ولد سعدالدين محمد الحسيني الشاذلي، لأب من أعيان القرية، وأم هي الزوجة الثانية لوالده الذي هو إبن لأحد ضباط الجيش المصري، وأحد المشاركين في الثورة العرابية، والمحاربين بمعركة التل الكبير!
كان لتلك النشأة تأثيرها المباشرعلي الوالد، الذي اختار لابنه إسم سعد تيمناً بالزعيم " سعد زغلول".
تلقي الفتي سعد تعليمه الإبتدائي في مدرسة القرية، وما أن أتمه حتي انتقل للعيش بالقاهرة،ليلتحق بالمدارس الإعدادية، فالثانوية، ثم يراوده حلم الالتحاق بالكلية الحربية، فيتمكن من إجتياز إختباراتها الخاصة في عام 1939، ليكون أصغر طالب في دفعته، ليتخرج فيها في العام 1940 برتبة ملازم في سلاح المشاة قبل أن يكمل السابعة عشر من عمره، ويتم اختياره عام 1943 للانضمام إلي الحرس الملكي، الذي استمر به لستة أعوام متصلة شارك خلالها في حرب فلسطين سنة 1948!
بدأت علاقته بالرئيس جمال عبدالناصر في منتصف الأربعينات، أثناء عملهما كمدرسين في مدرسة الشئون الإدارية العسكرية، وإقامتهما معاً في بناية سكنية واحدة، وهو ما عزز العلاقات بين أفراد أسرتيهما .
جمعت بينهما أيضاً ميول مشتركة من خلال تأثرهما بكتابات أحمد حسين في مصر الفتاه، وإحسان عبدالقدوس في روز اليوسف، حيث كانت تجري المناقشات بينهما بصورة يومية في تلك الكتابات .
توطدت العلاقة بقوة بين الشاذلي وعبدالناصر،ما دفع بالأخير إلي دعوته للانضمام لتنظيم الضباط الأحرار، ليوافق علي الفور، كونه وجمال كانا قد ذاقا معاً مرارة الهزيمة في حرب فلسطين!
لم يكن الشاذلي من المشاركين في ثورة يوليو سنة 1952، نظراً لوجوده في تلك الأثناء بكلية أركان الحرب لتلقي دورة عسكرية، وبمجرد أن نجحت الثورة عرض عليه صديقه جمال الالتحاق بالمخابرات العامة ولكنه رفض، وآثر البقاء ضمن صفوف الجيش، الذي أحس منذ سنوات عمره الأولي أنه خُلق ليخدم الوطن بداخله .
ليسافر بعدها في نفس العام إلي الولايات المتحدة الأمريكية لتلقي دورة عسكرية، وعاد ليؤسس سلاح المظلات المصري، ويعين به كأول قائد لكتيبة المظلات ( الكتيبة 75 مظلات ) .
شارك الشاذلي في حرب1956( العدوان الثلاثي ) كقائد لكتيبة مشاه، بعد أن دمرت قوات العدو طائراته علي الأرض، وفي عام 1960 تشكلت أول قوة عسكرية مصرية للمشاركة في المهام التابعة للأمم المتحدة، وتم إسناد قيادتها للعقيد الشاذلي، الذي أوفد إلي الكونغو " علي بعد 5000 كم من مصر " كقائد للقوة العربية التي ضمت مصر وسوريا، وكانت مفاجئته كبيرة حين قابله المواطنون الكونغوليون بالأعلام المصرية، وصور الرئيس عبدالناصر !
في عام 1961 أوفد إلي لندن كملحق حربي " ممثلاً لكافة أفرع القوات المسلحة "، سافر بعدها بأربعة سنوات إلي اليمن للمشاركة في الحرب التي كانت قد اندلعت بها في عام 1962 .
في عام 1967 كان اللواء الشاذلي قائداً لمجموعة من التشكيلات والوحدات المختلفة (والتي عرفت بمجموعة الشاذلي) وضمت لواء مدرع، وكتيبة صاعقة، وكتيبة مشاه، كانت مهمتها حراسة وسط سيناء بين المحورين الجنوبي والأوسط !
وعندما نشبت الحرب، قام اللواء الشاذلي بالتقدم بمجموعته إلي داخل الحدود الدولية والاحتماء بأحد الجبال لتفادي قصف العدو، حيث إنسحب بعدها بكامل قواته دونما أي خسائر في عملية أسطورية تدل علي عبقرية الرجل .
كانت المرحلة الأهم في تاريخ الفريق الشاذلي هي حرب أكتوبر المجيدة ...
حين أسندت القيادة السياسية إليه مهمة رئاسة أركان حرب القوات المسلحة، فعمل من اليوم الأول علي كسر الحاجز النفسي لدي الجنود والضباط الذين ذاقوا مرارة الهزيمة في 67، وذلك بأن قام بإعداد كل ما من شأنه تذليل العوائق النفسية، وأعد كُتيب إرشادي للجنود والضباط من أجل أن يقم كل فرد منهم بتنفيذ المهمة المنوطة به حسب تاريخ اليوم والساعة والدقيقة، كما هداه تفكيره إلي شحذ الهمم عبر ترديد عبارة " الله أكبر " بطول الجبهة المصرية، من خلال تزويد الجنود بمجموعة من مكبرات الصوت قام بتوزيعها علي أفراد لا يفصل بين كل منهم سوي كيلو متر واحد، وفور بدء المعركة كان نداء " الله أكبر " هو المسيطر علي كافة الجبهات، ليلهب حماسة الجنود والضباط ويتمكنوا من تحطيم حصن بارليف المنيع، ويحققوا النصر المؤزر بمدد من الله وتوفيقه .
بعد إنتهاء الحرب، إرتأي الرئيس السادات إبعاد الشاذلي عن الجيش، عبر إرساله كسفير لمصر بالمملكة المتحدة، ومن بعدها للبرتغال!
ربما تم هذا الإبعاد بسبب اعتزام السادات القيام بمبادرة السلام، والتوقيع علي كامب ديفيد
( التي عارضها الشاذلي فيما بعد ) وكان سفره للجزائر وبقاءه فيها لأربعة عشر عاماً كامله، اتهم خلالها بالخيانة وإفشاء الأسرار العسكرية!
حوكم الفريق الشاذلي غيابياً، وحكم عليه بالسجن، ليعود إلي مصر في عام 1992، ويودع السجن الحربي بتهمتين ...
هما نشره لكتاب بدون موافقة مسبقة عليه، وإفشاءه للأسرار العسكرية بداخله .
ولم يكتفي الرئيس مبارك" الله يرحمه" بسجنه، بل قام بمصادرة كافة الأوسمة والنياشين التي حصل عليها طيلة فترة خدمته!
كان الخميس العاشر من فبراير عام 2011 هو المحطة الأخيرة في حياة البطل سعد الشاذلي، حيث صعدت روحه الطاهرةإلي بارئها عن عمر يناهز 89 عاماً قضاها في خدمة مصر .