"مع لمسة الحب، يصبح كل فرد شاعراً"
* Plato
لم تبق أمة تعمل في استنطاق الآثار، إلا خصصت علماء منها بالحضارة السورية.ذلك أن نتاجا يمتلك نصوصاً أدبية ودينية وميثولوجيةكتلك التي ظهرت في مدينة (اوغاريتougarit) العاصمة الكنعانية ( الفينيقية ) على الساحل السوري، والتي تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد. أو يمتلك مشاعره مثل ( بلتيسBilitis(قمين بأن يصبح أدبا عالميا وإنسانيا خالدا.فما بالك بكل نتاج الأدب السوري القديم.لو وصل إلينا كاملا!...
لقد دون الأوغاريتيون كتاباتهم بالأحرف الأبجدية المسمارية، على ألواح الطين الذي تم شيه فتم حفظه.اما سكان باقي المدن الكنعانية مثل جبيل وبيروت وصيدا وصور، وجزيرة أرواد، فقد دونوا كتاباتهم بالأحرف الأبجدية التي اخترعوها في مدينة ( جبيلByblus) وعددها 22 حرفا هي الأساس لأبجديات العالم اليوم - وذلك على ورق البردي الذي كانوا يستوردونه من مصر وقد فقد معظمها لان ورق البردي لا يتحمل الحرارة والرطوبة على الساحل السوري.
وأبجدية جبيل والكثير من المعارف الحضارية الأخرى، نقلها الكنعانيون إلى بلاد اليونان، ومنها انتقلت إلى أوروبا.والذي نقل بحسب الأسطورة هو الامير الكنعاني ( قدموس Cadmus) وقد إشارة المؤرخ اليوناني الشهير ( هيرودوت Herodotus) إلى ذلك في تاريخهفي القرن الخامس قبل الميلاد.
وبعبارة أخرى نقول: أن صورة الادب السوري القديم بالنسبة إلينا لا زالت غامضة في بعض النواحي، ومجهولة في نواح أخرى.ولو انصاف المؤرخون لسجلوا أسماء سورياSyriaفي السطر الأول من الصفحة الأولى في سفر الحضارة الإنسانية.
وكانت الحضارة في الساحل السوري، قد عرفت الفنون الأدبية و ممارستها، بدرجة عالية من الوعي والوضوح، وبلغت مستوى رفيعاً من الإتقان والنضج.ومن هذه الحضارة، تعلم الإغريق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بعض الدروس الأولية، في مضمار المدنية والتحضر.
لمحة عن حياة الشاعر بلتيس
ولدت الشاعرة السورية بلتيس ، في اواخر القرن السادس عشر قبل الميلاد في قرية الجبلية في مقاطع ( بامفيليا Pamphylia) المطلة على البحر المتوسط، في جنوب بلاد الأناضول، إلى الغرب من مقاطعة ( كيليكا Cilicia) حيث الغابات الجميلة، والينابيع المتفجرة، والوديان المليئة بالسكون.
وقد ولدت الشعراء بلتيس من ام فينيقية وأب يوناني ويبدو أنها لم تعرف والدها فهي لم تشير إليه، في ذكريات طفولتها.اذ ربما مات قبل أن تولد وإلا كيف حملت اسما فينيقيا !....
وفي مطلع شبابها تكدرت حياتها بحب نعرف عنه القليل.وقد تركت مسقط رأسها في بامفيليا لأسباب غامضة وانتقلت للعيش في مدينة ( ميتيليني Mytilene) وهي مدينة يونانية في شرق البلاد.حيث قدمت إليها بطريق البحر، مواكبة شاطئ آسيا الصغرى الجميلة.وتقع هذه المدينة في جزيرة ( ليسبوس Lesbus )بين جزيرتين ( آتيكا Attica ) الرائعة و(ليديا Lydia( الزاهية.
وفي جزيرة ليسبوس، تعرفت الشاعرة بلتيس، إلى الشاعرة اليونانية الجميلة ( سافو Sappho) تلك المرآة المدهشه التي تحدثت عنها شاعرتنا تحت اسم ( بسافا ) التي علمت البمفيلية الصغيرة فن الغناء ومن المؤسف أن بلتيس، تعطي قليلا من التفاصيل، حول تلك المرأة.و عوضا عن ذلك، تركت لنا بلتيس حوالي 30 قصيدة أو مغناة، حول تاريخ صداقتها، مع فتاة من عمرها جميلة جدا، عاشت معها، كانت تسمى ( منا سيديكا ).وفيما مضى كنا نعرف هذه الفتاة، من بيت شعر للشاعرة اليونانية (سافو) يمجد جمالها.
وإلى قبرص الجزيرة الفينيقية اليونانية انتقلت الشاعرة بلتيس من جديد.وكانت جزيرة قبرص تذكرها دائما بمسقط رأسها ( بامفيليا ) وهنا بدأت بلتيس المرحلة الثالثة من حياتها، بشكل يصعب تذكره، دون أن تذكر أيضا، إلى أي مدى كان الحب مقدسا عند الشعوب القديمة!...
أشعار بلتيس
يمكن أن نسمي اشعار بلتيس بالقصائد الذاتية، أو الشعر الغنائي، وتبدو اشعار بلتيس غاية في البساطة، وكأنها بلا أدنى جهد.ولكنها في الوقت نفسه غاية في التناسق والإتقان.وتلك قمة شامخة من قمم الشعر الغنائي وتقول بلتيس:
"تتدثر بعض النساء بالصوف
الناصع البياض
وتلبس بعضهن الحرير والذهب
وتتزين البعض بالأزاهر والأوراق والعناقيد...
خذني يا حبيبي كما انا...
بلا ثوب ولا حلي ولا نعال
دونك بلتيس وحدها...وحدها
أن شعري لم يتعرف الى سواد "
غير سواده
وشفتي الحمراوين
لا أثر للتصنع فيهما
فخذني بعيدا، كما وضعتني أمي
في ليلة حب
وإذا ما نلت إعجابك ورضاك
فلا تنس أن تهمس ذلك في أذني!...
والشاعرة بلتيس، فخورة بانتمائها إلى أرض سوريا المقدسة.تلك الأرض التي وصفها الشاعر اليوناني القديم (هوميروسHomer) بأنها ( أرض الآلهة ) ودعانا ( شعب الآلهة ) او ( حملة لغة الآلهة ).
وتقول بلتيس:
"منذ نعومة أظافري...
تلقنت حب ادونيس وعشتار
وأسرار سوريا المقدسة
والموت والعودة إلى عشتار
الإلهة ذات الأجفان المدورة.."
وتذكرنا بلتيس برقتها وأنوثتها عندما تقول:
"إذا كنت أمرأة غزل، فأي لوم في ذلك...
ألم يكن هذا واجبي كأمرأة"!
وفي نشيد عذب من أناشيد الروح في تمجيد الحب وتقديسه
تقول بلتيس وهي تتلذ بذكر أنواع الزهور وتتغني بالنجوم:
"تحت أكاليل الأوراق السوداء...
تحت أزهار النسرين العاشقة
هنا أرقد...
أنا التي عرفت إن تصوغ الشعر
وتجعل القبلة تزهر!..."
لقد غنت الشاعرة بلتيس العالم حبها، بشعر أنقى من الجمال، وكان للعاطفة في شعرها الوان متعددة، ولكنها في كل حال تعمق الإحساس بها، وترتقي بمجرد الوقوف عند أي مظهر من مظاهرها، ولننصت إليها وهي تقول في إحدى أغانيها:
"حين عاد... خبأت وجهي بيدي
فقال لي: لا تخافي في شيئاً...
من عرف بقبلتنا.. من رآنا!...
الليل والنجوم والسحر...
والقمر الذي تمرى في البحيرة..
وقالها للماء تحت الصفصاف...
وماء البحيرة قالها للمجداف...
والمجداف حدث بها القارب...
والقارب نقلها للصياد...
ويلاه.. ويلاه.. لو وقف الأمر عند هذا!..
ولكن الصياد قالها لامرأته..
وسيعرف أبي وأمي وإخوتي..
وكل (هيلاس)!...
وتلتصق بلتيس بالطبيعة، وتتعامل معها برقة وشاعرية، وتتخذها خلفية للحب، الذي كرست له حياتها وشعرها:
"غن أيها العصفور الصغير
ياعصفور قبرص...
غن معنا رغباتنا الأولى
فللصبايا ياربيع
وليل أحلامنا يقترب
ونحن فيما بيننا نلغط به...
غن أبها العصفور الصغير...
ياعصفور قبرص..
غن معنا رغباتنا الأولى"!...
وتتذكر بلتيس ساحل سوريا، موطن والدتها الحبيب، الذي مازالت تتفجر فيه اليانبيع من البحر، ينابيع المياع العذبة. وهي تقول في إحدى قصائدها بعنوان (التاريخ الأول):
"في الوطن الذي تتفجر منه الينابيع من البحر..
وتكون صفائح الصخر مجرى الأنهار..
في هذا الوطن رأت عيناي النور..
ولقنتني أمي أغاني جبيل الحزينة!...".
عبدت (عشتار) في قبرص..
غنيت حبي كما هو..
وقضيت عمري سعيدة...".
وفي إحدى أغانيها بعنوان (العناق) تقول بلتيس أروع العبارات:
"أحبيني.. ليس بالبسمات والمزامير، أو الزهر المضفور لكن بقلبك ودموعك..
كما أحبك أنا!..".
ومن الجدير بالذكر أن أشعار (بلتيس) طبعت في أوروبا وأمريكا تحت عنوان (The Songs Of Bilitis) وطبعت في فرنسا بعنوان: (Les Chansons de Bilitis) كما طبعت في بلدان آخرى.
وكان الشاعر الفرنسي (بيير لويس Pierre Louys) قد نشر أشعار بلتيس لأول مرة في عام (1894) وهي مجموعة من (143) قصيدة.
وقد ترجم قصائدها عن الفرنسية الشاعر السوري (أدونيس Adonis) التي بقيت مخطوطة.
وفي عام (1977) تم تصوير فيلم سينمائي في فرنسا عن حياتها بعنوان (بلتيس Bilitis) من إخراج (دافيد هاملتون David Hamilton) ولحن الموسيقار الفرنسي (كلود ديبوسي Claude Debussy) ثلاثاً من أغانيها، وحملت اسمها مقطوعات موسيقية ولوحات فنية رائعة.