خرجت علينا في الفترة الماضية أحكام صادمة على فتيات في مقتبل العمر حملوا مسمى "فتيات التيك توك " خلفت موجة من الجدل الدائر حول دور وسائل التواصل في نشر الرذيلة والإفساد بين الشباب والشابات فباتت الفيديوهات الخادشة للحياء رهن الطلب بمبالغ مالية يسيل لها لعاب ضعاف النفوس علاوة على جني الأرباح من تحقيقها مشاهدات عالية ...قبلها بسنوات كانت الدعوة من جانب إحدى الإعلاميات لعودة البغاء المرخص كما كان بالماضي كوسيلة للسيطرة على الإنفلات الجنسي بالمجتمع المصري !!!
بالطبع سيكون طريقنا هو الدلوف عبر بوابات الماضي نقتفي أثر أمير الشعراء أحمد شوقي حينما قال :" وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا" فهل كان الماضي بسحره تغطيه عباءة الأخلاق أم كان يبحث مثلنا عن الأخلاق في أزمنة أسبق عليه هو الآخر؟! وكأننا ندور في حلقة مفرغة .
الحقيقة أن آفة الركون للماضي في تاريخنا أنه في بعض المشكلات كان أعجز من واقعنا الحالي عن إيجاد حلول فتركت بعض القضايا المجتمعية تتفاقم وتتسع حتى خرجت عن سيطرة المجتمع ولتكن قضية البغاء مثالا .بداية من الصعب تحديد بداية البغاء في مصر لأنه رافقها على مر العصور والأزمنة ولكنه اكتسى طابعه الرسمي في عهد العثمانيين وكانت بيوت الدعارة تسمى الكراخانات أي مكان النوم باللغة التركية. كان البغاء في مصر مصرحا به في السنوات الأولى لحكم محمد علي باشا بل ومصدر من مصادر الضرائب إلى عام 1837 والذي شهد منع و تجريم البغاء في مصر وفي ظني أن الأسباب التي دفعت صناع القرار في مصر لاتخاذ هذه الخطوة لم تكن لدواع أخلاقية وإلا لكان المنع منذ البداية ولكن السبب يقبع في استفحال الأمر والخشية من خروجه عن السيطرة مع دعوات إلغاء الرق وتحول الكثير من الفتيات والفتيان المحررين من أغلال الرق لممارسة البغاء لجني المال وهو ما كان يهدد بتفشي الأمراض بكثرة داخل مصر واستمر الوضع على ذلك المنوال حتى مجىء الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 ...
إذا كان لديك عزيزي القارىء الوقت لتطالع السفر الضخم (مصر الحديثة) للورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر وقد قدمت دراسة حوله في كتابي (على هامش التاريخ والأدب)ستجد حديثا مستفيضا عن الأخلاق البريطانية والمثل والقيم التي تريد غرسها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في مستعمراتها لكن الحقيقة أن المشروع الاستعماري كان يشوبه فصاما نكدا ففي الوقت الذي يحمي أبناء جلدته من مغبة انهيار الحاجز الأخلاقي بمنع البغاء داخل بريطانيا فهو يعمل على توطينها في الوقت ذاته لدى مستعمراته ومنها مصر فعاد البغاء مجددا في ظل قوانين منظمة.
في تقرير طريف كتبه الدكتور (فخري ميخائيل فرج) طبيب الجلد والأمراض التناسلية بالعاصمة صدر في 4يناير 1924 عن "انتشار البغاء والأمراض التناسلية بالقطر المصري وبعض الطرق الممكن اتباعها لمحاربتها " وكان يقصد بتقريره هذا الوصول إلى أكبر رأس بالبلاد وهو الملك فؤاد والمفترض أنه راعي الأخلاق في مصر في ضوء ما اشتهر عنه من التشدد بالحجاب وأطرف ما يساق في هذا الصدد من اشتراطه على ملك أفغانستان (أمان الله خان) أثناء زيارته لمصر بعدم ظهور زوجته الملكة ثريا سافرة أثناء الاستقبال الرسمي في قصر عابدين وأمر الصحافة بعدم إلتقاط صورا لها أثناء الزيارة وهي من القصص التي تصلح للاستهلاك المحلي وإقناع البسطاء بغيرة الملك على التقاليد لو صحت القصة خاصة أن مصدرها وصيفة من وصيفات القصر ولو قبلنا القصة فماذا عن استقبال الملك فؤاد لزوجات السفراء الأجانب في المناسبات الرسمية هل كان يفرض عليهن الحجاب وبلده محتل ؟!!.
نعود لموضوعنا وتقرير الدكتور فخري الذي قسم العاهرات إلى عاهرات أجنبيات من الدرجة الأولى وصفهن بالأفعى صاحبة الصولجان فهن في حمى قناصل بلادهن مما يجعلهن بمفازة عن الكشف الصحي الرسمي والاستعاضة عن ذلك بشهادة من طبيب خاص ترسلها كل فترة وقد لا ترسلها وتكتفي الداخلية والصحة بشكوى لقنصلها عن تقصير العاهرة في إرسال الشهادة في موعدها !!
يعتبر الدكتور فخري هذا النوع من العاهرات الأخطر في مصر لأنه خارج الإطار التنظيمي والرقابة ولا توجد بيانات كافية ودقيقة عن تعدادهن والذي تؤكد الشواهد وقتها أنه كان في اضطراد مستمر خاصة مع إغلاق الشرطة العسكرية لكثير من أوكارهن الرسمية فتحولن إلى الممارسة الغير نظامية.
أما العاهرات الوطنيات (يقصد المصريات ) فيبشرنا الدكتور فخري بأنهن على العهد بهن بعيدات بحكم العفاف الشرقي والتقاليد الاجتماعية والدين وكأن الدكتور فخري لا يريد الاصطدام أكثر مع المجتمع وهو يفضح دهاليزه فوضع هذه الأسباب في المقدمة لكنه ترك للقارىء اللبيب أن يستشف من بين ثنايا السطور أسبابا أخرى لعدم ارتفاع نسبة الوطنيات في الدعارة من بينها عدم الإلمام باللغة الإنجليزية مما يجعل من الصعوبة بمكان عقد هذه الصفقات المحرمة مع جنود الإحتلال علاوة على انصراف الشبيبة (الشباب المصريين )عن المصريات لافتقارهن للجمال مقارنة بالأجنبيات الساحرات .
يستعرض الدكتور فخري أماكن البغاء التي تتركز في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية والزقازيق والمنصورة ما بين بنسيونات مراقبة وأخرى غير مراقبة و ما أسماه بالمودة (يقصد الموضة ) الجديدة في وجود ما يسمى بمحل خاص للتسلي وهو شقة خاصة تستقبل فيها السيدة زبائنها ومحل نصف خاص للتسلي وبه عدد من السيدات مشتركات في مصاريف الشقة وتتمتع كل واحدة منهن بخصوصيتها مع عشاقها وإيرادها الشخصي .
أما عن أماكن فحص سيدات البغاء فبحسب الدكتور فخري ثلاثة أماكن :مكتب درب النوبي -مكتب العباسية -مكتب السيدة زينب ويرصد لنا من داخل هذه الأماكن صورة طبق الأصل للكشف الطبي الذي يجري اليوم على مرضى العيادات الخارجية بشكل عام .فالكشف للمئات من العاهرات لا يستغرق الأربعين دقيقة في أحسن الأحوال فالأطباء في عجلة من أمرهم ولا يتم الكشف على جسم المرأة من الخارج ولا فتحة الشرج ولا أخذ عينات دم ولا فحص أي سائل أو افرازات ميكروسكوبيا على الرغم من وجود الميكروسكوب وحيدا يعاني قلة العمل !!!! ناهيك عزيزي القارىء عن عدم وجود خصوصية(Privacy) في الكشف وهو أمر من السهل أن تكتشفه في أول زيارة لعيادة حكومية في أي قرية أو مدينة اليوم وطبعا فيما يخص العاهرات في الماضي كان الأمر أقسى فالجميع في غرفة واحدة على اختلاف الاعمار بدون كلسون !!!وسط معاملة سيئة. هذا الكشف الطبي فما بال العلاج للمريضات منهن.
يتضمن التقرير حادثة طريفة هي أبلغ رد على مروجي الدعوة لعودة الفواحش ما ظهر منها وما بطن تحت إطار المكاشفة والحاجة المجتمعية أن أحد وكلاء النيابة أراد اختبار نفسه قبل الزواج فواقع واحدة من العاهرات المرخصات والمفترض أنهن خاضعات للكشف الطبي فإذا به يسقط في براثن مرضي السيلان والزهري !!.
بحسب التقرير فإن الزهري كان الأكثر انتشارا بين المصريات أما السيلان فكان على التساوي لدي الاجنبيات والمصريات لذا كان لزاما ضرورة السرعة في تخصيص مستشفيتين للعاهرات الوطنيات إحداهما بالقاهرة بالحوض المرصود والأخرى بالإسكندرية أما الأجنبيات فتم تخصيص مستشفى لهن في شبرا وقت تواجد الجنود الإنجليز في مصر إبان الحرب العالمية الأولى ثم تم إغلاقها لعدم الحاجة عام 1922 مع رحيل القوات المحاربة وكأن حماية صحة الإنجليز أولى وأهم من صحة المصريين!!بحسب التقرير .
كانت حالة المريضات المصريات في هذه المستشفيات غاية في البؤس فكانت تكلفة معيشة المريضة التي تدفعها مصلحة الصحة من مأكل ومشرب وعلاج لا تتعدى خمس قروش صاغ يوميا في وقت تصرف فيه المرأة الإنجليزية على كلبها ثمانية قروش صاغ يوميا وللقارىء أن يتخيل واقع الحال !!!
هذا المبحث تحديدا أسوقه لنرى أن الرعاية الصحية لم تتغير بين الأمس واليوم فهي على نفس الدرجة من السوء إن لم يكن أكثر بالماضي لكن الفارق أن عالم الأمس لم يكن به وسائل السوشيال ميديا فكان كشف الحقيقة مسألة صعبة وتزييف وتجميل الصورة من أهون ما يكون لكن لا نعدم وجود ضمير حي مثل الدكتور فخري يعري الحقائق بهدف الحل وهو لا يعبأ بمن سوف يتهمونه بإهدار الكرامة الوطنية والإساءة لسمعة مصر بنشر عيوبها فأن تبادر أنت لاكتشاف مواطن ضعفك ونقائصك وحلها أفضل من أن يذكرها لك الأجنبي في شكل انتقاد وهذا هو مسلك جميع الأمم الحية الراقية .
في مذكرات حكمدار القاهرة البريطاني (توماس رسل )في الفترة مابين 1917 إلى 1946 يرصد لنا عن كثب واقع ما أسماه المجتمع السفلي وتنبع أهمية مذكراته من كونه من وضع حدا لواحد من أشهر أباطرة الإتجار في الرقيق الأبيض في منطقتي الوسعة ووش البركة وهو رجل نوبي مخنث بدين ضخم الجثة يرتدي ملابس نسائية وحجابا أبيض ومجوهرات ذهبية في ذراعيه وعلى رأسه التاج يدعى (إبراهيم الغربي) وكان له عليهم الطاعة العمياء التى وصلت إلى حد توقيع عقوبات على المخالفين منهن تصل للموت وكانت نهاية الغربي الموت بسجنه فعم الحزن أوساط البغاء في مصر كلها !!!! .
انتهت الدعارة بشكل رسمي في مصر بموجب القانون 68 لسنة 1951 والمعمول به حتى الآن وقد سبق هذه الخطوة خطوات تدريجية منها تجريم القوادين عام 1937 وهدم بيوت الدعارة عام 1949 بموجب قانون عسكري ..الملاحظ أن هذه التواريخ تتزامن مع توقيع معاهدة عام 1936 والتي نصت على جلاء القوات البريطانية عن مصر وقد تم جلاء القوات البريطانية عن القاهرة والإسكندرية بحلول عام 1946 ورفع العلم المصري عليها وهكذا بدأ البغاء شرعيا مع الإحتلال وانتهى رسميا برحيله هذا هو الأصوب في ظني وليس القصة الشهيرة التي رواها الشيخ الفاضل (محمد متولي الشعراوي) أو نقلت عنه من أن إلغاء البغاء في مصر كان بحيلة من نائب منطقة باب الشعرية (سيد جلال الجيلاني) الذي احتال على وزير الشؤون الاجتماعية (جلال باشا فهيم) وجعله يمر بشارع كلوت بك (من مفارقات القدر أن يحمل هذا الشارع اسم كلوت بك الطبيب الفرنسي الذي عادى البغاء في مصر فإذا بشارعه يعج بالبغايا) فتعرض الوزير للسرقة وتمزيق ملابسه من العاهرات هناك فألغى البغاء في مصر فهل الوزير لم ير البغايا إلا في هذا اليوم وما هي صلاحياته لاتخاذ مثل هذا القرار المصيري؟! ومع توقيري واعتزازي وحبي لشيخنا الجليل راوي القصة فمثل هذه القصص صحت أم لم تصح لا يمكن التعويل عليها في تفسير التاريخ .
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري