لقد آضتِ القصةُ القصيرةُ فنًّا معبرًا عن طبيعة العصر الذي نعيشه بوتيرتِه المتسارعة، ولا ريبَ أنها أقدرُ الأجناسِ تجسيدًا لمتناقضاته، وأقربُ الفنون من نفس المتلقي مقارنةً بالشعر؛ إذ يظل الشعر فنًّا أرستقراطيًا في إبداعه وتلَقِّيه في آن.
ولا يُفهَم من كلامنا هذا أن الشعرَ يتقهقر أمام ازدهار القصة القصيرة؛ كلا فللشعرِ جمهوره ومبدعوه الذين تُلقى عليهم مهمةُ السمو به بوصفه فن العربية الأول.
بين يدي حضرات القراء مجموعةٌ قصصيةٌ بعنوان ( من حكايا أبي ) لأديبٍ مصريٍّ حتى النخاع تؤثر فيه الحياة المصرية سيَّما تلك الطبقةَ الكادحةَ من المجتمع المصري. هذه المجموعةُ ترجمةٌ صادقةٌ وتجسيدٌ حيٌّ لطبيعة المصري الذي تعرُكه الحياةُ وتطحنه الأيام؛ بيد أنه ينهض في كل مرة قويًا يحدوه الأملُ راضيًا بعطاء ربه، مبتسمًا رغم مرارات النفس وآلامها.
والأديبُ الحقُّ ابنُ بيئتِه ومجتمعِه، وهو مَن يحمل رؤيته للعالم بحكم انتمائه الثقافي وموقفِه الفكري، وتلك الرؤية يكون لها أثرٌ في تحديد أنواع التقنيات التي يلجأ إليها الكاتب في إبداعه.
لصديقنا القاص سماتٌ واضحةٌ يمكن استنتاجُها من خلال إبداعه، إنها جليةٌ واضحةٌ رغم محاولاته أن يُسدِل عليها من الأستار. من أوضح تلك السمات – كما سيكتشف القارئُ الكريم – سمةُ الانتماء، ونعني به الانتماءَ بشتَّى صوره وأنواعه: الانتماء للأسرة، الانتماء للوطن، الانتماء للبيئة التي يحيا فيها، الانتماء لكل شخص يعرفه.
في قصته التي تتصدر تلك المجموعة (سلامي إلى أمي) تعلو صورة الانتماء للوطن، ويسيطر على القاص ذلك الشعورُ الذي يملأ عليه كِيانه، فيبدأ في سرد حكايته التي تصوِّر ما يواجه وطنَه من تحديات، ويقدم نموذجًا للتضحية من أجل وطنه (عبد الرحمن) الذي يحمل اسمُه دلالاتٍ عدةً نترك للقارئ الكريم متعةَ اكتشافها.
ومن عجيب الملاحظة وطريفِها أن صديقنا القاصَّ يختار لمجموعته هذا العنوان ( من حكايا أبي ) وهو العنوان الذي حملته آخرُ قصصِ المجموعة، وتتصدر تلك المجموعةَ قصتُه التي تحمل عنوانًا يعمِّق فكرة الانتماء التي نتحدث عنها، ونعني بها قصته ( رسالة إلى أمي)، وما ذلك إلا تأكيدٌ على الفكرة ذاتها، وكأنه يريد أن يبعث برسالةٍ لقارئه مضمونها: يظل الأبُ هو المعلم الأول في حياة كل إنسان، كما تبقى الأمُّ مصدرَ الحب والدفء، منهما تُستمَد القوةُ والقدرةُ على الإبداع.
أما عن الانتماء للبيئة والمجتمع والأفراد فذلك جليٌّ من عناوين بعض القصص مثل: الأسطى محمد، أم مسعود، محمد.
وتمتاز لغةُ الكاتب بقربها من المتلقي – رُغم فصاحتها – فهو يبتعد عن اللغة المعجمية، ويكتب بلغة يفهمها كلُّ من يقرأه؛ إذ يجعل نُصبَ عينيه أن القصةَ القصيرةَ فنٌّ يطالعه جميعُ الطبقات على اختلاف ثقافتها، ولعل ذلك ما جعله في كثيرٍ من جُمَل الحوار بين شُخوص قصصه، يستعمل تلك الكلماتِ التي نسمعها على ألسنة العوام؛ بيد أنك لا تكاد تشعر بابتذالها؛ فهي وليدة الموقف والحوار، يفرضها السياق أو " المسرح اللغوي" وهي تساهم في بناء الموقف الحواري وتخدمه.