«القضية الفلسطينية» مثل طائر «العنقاء» الذى ربما يخمد ناره بعضا من الوقت ولكنه من لفحة النار يعود مرة أخرى متجددا وطارحا نفسه. «القضية» ربما تكون قد فقدت الكثير من مركزيتها التاريخية، ولكنها تأتى مرة أخرى فى صورة أن السلام والاستقرار فى المنطقة لا يتحقق دون البحث عن تسوية لها. وقبل ثلاثة عقود وفى خضم الغزو العراقى للكويت وما تلاه من حرب التحرير بتحالف واسع عربى وإقليمى ودولى، بدا ساعتها أن الموقف الفلسطينى المؤيد لعراق صدام حسين قد أطاح بالموقع الفلسطينى فى سلم الأولويات العربية، إلا أن قدرة الرئيس الراحل ياسر عرفات على تجديد نفسه، ومعه القضية كلها، نجح من خلال مفاوضات «أوسلو» أن يصل إلى اتفاقيات واشنطن التى انتهت بإقامة أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية فى التاريخ. هذه المرة فإن الطائر الفلسطينى لم يكن يواجه واقعة كارثية كبرى، وإنما زلزالا كبيرا وهائلا ألم بالمنطقة العربية كلها حتى ذاع اسمه «الربيع العربى»، وترجمته ثورات وحروب أهلية وأطماع إقليمية خلقت عشرات من الأزمات التى قدمت قضايا مصيرية لبلدان عربية كثيرة. وبعد أن كانت كلمات مثل «اللاجئ» أو «النازح» تدفع فورا إلى الذهن العربى مأساة القضية الفلسطينية، فإنها باتت علامة على عرب كثر بالملايين تركوا ديارهم نازحين ولاجئين، وأحيانا غارقين فى البحر، بحثا عن مأوى ووطن. وخلال عقد كامل انشغل العرب بأزمات عربية أشد قسوة، ولم يبق فى يد الفلسطينيين إلا قضية «المصالحة» بين قسمى الكيان الفلسطينى فى الضفة الغربية وغزة. انقسمت فلسطين قبل قيام الدولة الفلسطينية، ولم يكن الانقسام فقط سياسيا كما هو الحال فى بلاد تحت الاحتلال، وإنما كان جغرافيا وأيديولوجيا ومنهجيا، بين فتح وحماس. وفى العموم تقلصت مركزية دور إسرائيل واحتلالها للأراضى الفلسطينية، ولم يبق إلا تفاهمات تجرى أحيانا، وإعلانات عن استمرار النضال تنتهى بحرب فى غزة تتوقف بعد تدخلات دولية وإقليمية عديدة.
الآن تواجه «القضية الفلسطينية» فرصة أخرى للبزوغ مرة أخرى لأن مصر من ناحية لم تفقد أبدا إصرارها على تحقيق المصالحة الفلسطينية التى بدونها لا يكون للقضية مكان على جدول أعمال للمنطقة مزدحم بالكثير من الضحايا والجرحى واللاجئين والنازحين. يضاف إلى ذلك أن الموجة الجديدة من السلام والتطبيع مع إسرائيل من دول الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، أو ما يعرف فى الغرب بالاتفاقيات «الإبراهيمية»- نسبة إلى أبوالأنبياء إبراهيم عليه السلام- قد جعلت من سلامها وتطبيعها عاملا ضاغطا على إسرائيل أحيانا «بتعليق» ضم الأراضى الفلسطينية، أو تقديم تسهيلات فى الحركة، أو حتى تقديم تفاهمات مع إسرائيل للحصول على الكهرباء فى غزة أو صيد السمك فى البحر المتوسط. ولا يقل عن هذا وذاك أهمية أن الانتخابات الأمريكية قد أفرزت هزيمة للجمهورى دونالد ترامب الذى فرض أوضاعا قائمة على الأرض، وتولى الديمقراطى جو بايدن للقرار فى البيت الأبيض رغم أنه لا يخالف كثيرا المنهج «الترامبى» إلا أنه على استعداد للتخفيف من الضغوط على الفلسطينيين. المنهج الفلسطينى مع هذا الواقع الجديد بدأ أولا بالعودة إلى التنسيق الأمنى بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل فى العموم، والعودة مرة أخرى اتفاقيات أوسلو والتأكيد عليها بأنها تمثل الإطار للحركة الفلسطينية. وهى خطوة حكيمة للتواصل مع العالم وخاصة الولايات المتحدة والدول العربية. وثانيا الدعوة إلى انتخابات عامة تكون تعزيزا للشرعية الفلسطينية وتمثيلها للشعب الفلسطينى، وهنا يمثل إصدار الرئيس محمود عباس مرسوم الانتخابات العامة فى الخامس عشر من يناير ٢٠٢١ خطوة هامة نحو إمكانية إجراء الانتخابات العامة (التشريعية والرئاسية)، والقاضى بدعوة الناخبين الفلسطينيين للاقتراع فى مواعيد وآجال محددة وبشكل تتابعى ومترابط لإقامة السلطة التشريعية ومن ثم الرئاسية يتبعهما المجلس الوطنى لمنظمة التحرير.
وفى الأول من فبراير الجارى صدر عن المركز الفلسطينى للبحوث السياسية والمسحية فى سلسلة «أوراق سياساتية نقدية» ورقة عن «التحديات التى تواجه إجراء الانتخابات العامة القادمة» أوضح فيها التعديلات التى طرأت على قانون الانتخابات:
أولا، الاتفاق على طبيعة النظام الانتخابى الذى ستجرى على أساسه الانتخابات القادمة باعتماد النظام الانتخابى النسبى باعتبار الضفة الغربية وقطاع غزة دائرة واحدة.
وثانيا، تعديل النص المتعلق بالتزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية غير متلازمة.
وثالثا، إلغاء الاشتراطات السياسية (الالتزام بمنظمة التحرير ممثل شرعى ووحيد للشعب الفلسطينى، والالتزام بوثيقة الاستقلال، الالتزام بالقانون الأساسى الفلسطينى) المطلوب التوقيع عليها من أى قائمة انتخابية ومرشحيها، وقد تم الاقتصار على الالتزام بالقانون الأساسى الفلسطينى.
ورابعا، يتعلق بتعديل «الكوتا» النسوية ورفع نسبتها إلى 26% فى القوائم المترشحة بحيث أصبح التعديل امرأة من بين أول ثلاثة أسماء فى القائمة ومن ثم من بين كل أربعة امرأة.
وخامسا: إجراء تعديل لبعض القضايا الفنية المتعلقة بالمدد الزمنية للاعتراض والطعن على قرارات لجنة الانتخابات المركزية. هذه التعديلات تواجه تحدى إجراء الانتخابات فى مدينة القدس الشرقية، وتحدى الاتفاق على تشكيل محكمة قضايا الانتخابات، وتولى جهازى الشرطة فى الضفة الغربية وقطاع غزة لحماية العملية الانتخابية، وطبيعة الانتخابات لرئيس الدولة الفلسطينية، وتقييد حق الترشيح لفئات متعددة من الفلسطينيين، وتهيئة بيئة تضمن حرية ونزاهة الانتخابات التشريعية بحيث تتيح تكافؤ الفرص لجميع الأحزاب السياسية المتنافسة.
هذه التحديات المذكورة فى الورقة بالغة التعقيد، وليست سهلة الحل، ولكنها فى النهاية ذات طبيعة فنية وتوجد بالفعل فى الورقة توصيات عملية بشأنها، وهناك إمكانيات للتعامل معها من خبرات دولية وإقليمية متنوعة. ولكن ما تجاهلته الورقة فهو الجانب السياسى والاستراتيجى للمشروع الفلسطينى لقيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. والقضية هنا ليست فقط الاعتراضات الإسرائيلية المتوقعة، والتعنت والاستيطان الإسرائيلى، وإنما أن يكون الفلسطينيون قادرين على إقناع العالم وخاصة الولايات المتحدة بقدرتهم على إقامة الدولة. وهناك فارق كبير ما بين المفهوم الفلسطينى للدولة، وأن تقوم دولة فلسطينية «قابلة للحياة» وهو المفهوم الأمريكى لحل الدولتين. والفارق أكبر عند الانطلاق من خلال تقديم تسهيلات للحركة للفلسطينيين، وربما إقامة ربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال نفق أو جسر أو طريق. تطبيق «قرارات الشرعية الدولية» كما يطالب الفلسطينيون، وعمليا استئناف عملية السلام من حيث توقفت، والبناء على ما عقد فى «صفقة القرن» للإدارة الأمريكية السابقة كما تريد الإدارة الأمريكية الجديدة مضافا لها تفهم للمعاناة الفلسطينية. الفارق هنا كبير للغاية، ومن ثم فإن الفلسطينيين والعرب، يحتاجون إلى التفكير فيما يجب العبور به لكى يكون حل القضية الفلسطينية جزءا من حل معضلات وأزمات المنطقة المعلقة فى إطار من التعاون الإقليمى والتنمية الإقليمية. نقطة الانطلاق هنا تقوم على إقناع الفلسطينيين للعالم الذى يساندهم بالقدرة على إدارة دولة حقيقية يكون فيها للسلطة السياسية احتكارا كاملا للاستخدام الشرعى للسلاح. قبل تحقيق ذلك سوف تكون هناك صعوبة كبيرة فى عودة القضية الفلسطينية إلى مركزها الذى تستحقه فى القضايا العربية.