لم تحلم تركيا لنفسها جهرا ، و لكن كاتب امريكي اناط نفسه بان يحلم لها ، بان تكون في العام 2050 ، اي بعد 29 عاما من الان ، امبراطورية مترامية الاطراف ، تبتلع دول و تسطو على مقدرات شعوبها و تستعيد مجدا هو بحقيقة الامر زال الى الابد رغم حلم ليلة الصيف الذي حلمه الكاتب الأمريكي جورج فريدمان، مُؤسّس مركز “ستراتفور” للأبحاث في مجال السياسة الدوليّة، و هو مركز دراسات استراتيجي وأمني يُعنى بقطاع الاستخبارات ، فأهداها هذا الحلم في كتاب بعنوان : " 100 سنة قادمة " ، لغاية في نفس ابن يعقوب
وفي سلوك مرضي واضح يعكس تضخم الذات الاردوغانية ، تلقفت تركيا هذا الحلم ، و بثته تفصيلا ، و بابتهاج معتل ، عبر محطتها التلفزيونية الحكومية ، لتشبع شهوتها التاريخية للتوسع ، و لتروج لهذا الكتاب ، و ليكون هذا الحلم دعما لاردوغان ، في " زنقته " الانتخابية المقبلة ، و التي تتاهب فيها معارضة تركية قوية للاطاحة به و اسقاطه ،فالمعارضة لاردوغان تستشري في تركيا و خارجها حتى ان نجم كرة السلة التركي أنيس كانتر، المحترف في الدوري الأمريكي وصفه بـ" الديكتاتور وهتلر القرن" ، و سيكون هذا اللاعب من بين المتحدثين المدعوين للمشاركة في ندوة يعقدها رئيس البرلمان الأوروبي ديفيد ساسولي وعضو البرلمان الأوروبي بينا بيسيرنو حول “الديمقراطية وحقوق الإنسان للشعب التركي
ولازلنا نتذكر لاردوغان قوله الذي يتفق تماما مع خريطة فريدمان : ” لايمكن أن تبقى تركيا محصورة داخل مساحة حدود 780 ألف كيلومتر مربع لأنها أكبر ، فقد تكون مصراتة و حلب وشبه جزيرة القرم خارج حدودنا الفعلية لكنهم داخل حدودنا العاطفية والقلبية والجسدية وسنتصدى لمن يحاول تحديد تاريخ بلادنا بـ 90 عام فقط" قاصدا بذلك رفضه لحدود تركيا الاتاتوركية
ومن ثم فان الطموح التركي المرضي للتوسع ، لم يراع مشاعر دول عديدة شملها هذا الحلم بالسطو و الاحتلال و الضم ، بل بث هذا الهراء في طاووسية سياسية بلهاء و مريضة ، حتى ان خريطة الحلم المريض شملت ، اضافة لدول عربية ، اجزاء من روسيا ، بل و شملت اليونان ، و لم تمس اسرائيل بسوء ، فمن المعروف انه عندما اختار باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأسبق، جو بايدن نائبًا له عام 2008، انتقدت وسائل الإعلام التركية بايدن بوصفه “عدو تركيا”، ليس فقط لكونه مؤيدًا للأكراد، ولكن أيضًا مؤيدًا لليونان والأرمن، بل أشارت له بعض الصحف التركية بـ”السيناتور الوقح” ، و رغم هذا الارث العدائي بين بايدن و النظام التركي الراهن لم تواري انقره رغبتها في ابتلاع اليونان التي يؤيدها بايدن ، و اختارت انقرة الاحتفاء بهذه الخريطة الوهمية ، و هي خريطة لا يمكن ان ترسم على ارض الواقع الا في حالة نشوب حرب عالمية ثالثة مدمرة ، خرج الاقطاب الاعظم من اثرها عاجزين عن الفعل و التاثير ، حتى ان تركيا يكون بوسعها الزحف الى جنوب روسيا و احتلاله ، بل و ابتلاع اليونان ايضا ، وكأن جورج فريدمان الذي حلم بهذا الحلم في ليلة صيف ، و ربما وهو غائب عن الوعي لسبب او لآخر ، قد تنبأ ضمنا بوقوع حرب عالمية ثالثة لا محالة ، سيخرج منها العالم خائر القوى ، و عاجز عن الفعل ، و تبخرت منه الامم المتحدة و كافة المنظمات التابعة لها ، ليكون بوسع الجيش التركي المضي الى اطماعه كما تمضي السكين في الزبد ، فيقوم بالتنطع منفردا و ابتلاع كل هذه الجغرافيات الممتدة التي تعادل مساحاتها عشرة اضعاف مساحة تركيا على الاقل
ازاء حلم كهذا لم يستطع الروس اهماله لفرط سذاجته ، و لكن قلق ساورهم ، لان الحلم و حالمه من بنات افكار امريكي ، و موضوعه الجار التركي الذي له رصيد تاريخي غير مريح لهم و لا يمكن ان يؤمن جانبه، ومن ثم بادر النائب الأوّل لرئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما ألكسندر شيرين، فدعا حُكومة بلاده للنظر إلى الأمر بموقف جدّي، ومُنوّهاً إلى أن تركيا بعد عمليّة ناجحة في قره باغ، آمنت تماماً بقوّتها، وبالتالي فهي تُشير رسميّاً، إلى أين ستذهب بعد ذلك.
ومن شان بث هذه الخريطة التوسعية التركية ، التي لا تختلف عن ما يرتسم بالفعل في الخيال التركي العثماني ان تدق جرس انذار في دول و قوى شرق اوسطية تقيم جسورا قوية مع تركيا الاردوغانية ، و هي لا تعلم ان هذه الجسور مقدمات لخدعة تركية تستهدف تواليها السيطرة على هذه الدول و احتلالها لضمها الى الامبراطورية العثمانية الجديدة المترامية الاطراف ، و ان انقرة الاردوغانية تستثمر في اوجاع و متاعب هذه الشعوب تمهيدا لابتلاع مقدراتها ، من ذلك على سبيل المثال الزحف التركي الى شرق ليبيا ، و التدخل التركي السافر في الصراع على اقليم كارباخ بين ارمينيا و اذربيجان ، و التموضع التركي بمواقع و قواعد في القرن الافريقي ، و التنمر التركي بقبرص و اليونان في شرق المتوسط، ومن ذلك يمكن ختاما القول : الم تصور خريطة فريدمان الورم السرطاني في العقل الاردوغاني ؟!