لا ريب أن الشعراءَ – وخصوصًا الرومانسيين منهم – أكثرُ الناس إحساسًا، وأرَقُّهم شعورًا بين الورى؛ فهم طلاب الكمال والمُثُل العليا على حد تعبير أستاذنا العقاد، وفي رأينا أن الشعرَ الجيدَ وليدُ تلك الحالة حيث يطغى الحزنُ والألمُ على الشاعر؛ فيجيء إبداعه نفثًا لتلك الآلام، وكما يقول نزار:
هل يُولَدُ الشعراءُ من رحِمِ الشقاءْ؟!
نخلُص من ذلك أن الحزنَ والشعرَ الجيدَ متلازمان، والعَلاقةُ بينهما عَلاقةٌ طردية. وما يمرّ به الشاعر من أحزانٍ تتعدد أسبابها؛ فقد تكون تلك الأسباب داخليًة نابعًة من أصقاعِ نفسه، ومن تلك الحالة التي يحياها ولا يقوى عليها غيره ولا يتحمَّلها سواه؛ فيترجمها إبداعًا نطرِب له، ونبكي منه وعليه في آن واحد. وقد يكون سببها الرئيسُ واقعُ الشاعر الذي لا ينفصل عنه؛ فهو يَسعَدُ مع إخوانه، ويحزن عندما يلمُّ بهم مُلِمٌّ.
نشر الشاعر محمد ناجي هذه الأبيات الثلاثة على جداره:
كُلَّما أحبَبْتُ شَيئًا أَفَلا
فالأسَىٰ بي لَمْ يُغادِرْ أَمَلا
ومَتَىٰ آنَسَ قلبي غَرَضًا
يَخْشَ جُرحًا نازِفًا ما انْدَمَلا
هلْ إذا أحبَبْتُ حُزني مَثَلًا
رَحَلَ الحُزْنُ كَمَنْ قَد رَحَلا؟!
لا يخفى عليك أيها القارئ الكريم ما بالأبيات من الأسى والمرارة والشكوى، يبدأ شاعرنا بأسلوب الشرط وأداته (كلما) وما تحمله من معاني التَّكرار والتجدد، وكأنَّ أزمته دائمةٌ متصلة، ثم يصدمنا الشاعر بقسوة الأحاسيس التي تعتمل في نفسه حين نحاول الربط بين فعل الشرط (أحببتُ) المسنَد لفاعله وهو الشاعر، وما فيه من إيحاء التمسك والتعلق، وبين جواب الشرط (أفلا) المسند لفاعله الضمير المستتر العائد على (شيئا) تلك النكرة التي توحي بالعُمومِ والشُّمول، وفي عبقرية ناجي المعهودة يتخذ من دلالات اللفظة فيضاعف ما بها من الإيحاء، وكأنه يشحن الأبيات بتلك الدلالات التي تقرب إحساسه من المتلقي، خذ ـ أيها القارئ الكريم ـ مثلًا واحدًا مما نريده في تلك اللفظة (أفلا) وهي فعل ماض معناه غاب واستتر، هذا (الشيء) الذي (كلما) أحبه الشاعر غاب واستتر؛ لكن ناجي ـ وهو مغرم بتلك الدلالات ـ جعل من أفوله واستتاره حَجْبًا لا يكاد يظهر؛ ففضلا عن المعنى الناتج من جذر(أَفَلَ) اللغوي، فقد منحه ناجي استتارًا آخرَ بفاعله الضمير المستتر(هو) فأكد لنا أنه محجوب عنه للأبد إمعانًا في الأسى والألم.
وحتى لا تتعجب أيها القارئ قدَّم شاعرُنا مبرراته لتلك الحالة بقوله:
فالأسَىٰ بي لَمْ يُغادِرْ أَمَلا
فالأسى ما فتئ يلازمه (بي) بما يوحيه الجار والمجرور هنا من إيحاءات المُلازَمة واللصوق، فهو يعلم أن الأحزان ستقتل آمالَه في مهدها، وما ذلك إلا لأن قلبه الحزين يخشى جراحًا نازفًة لم تندمل بعد – وأغلب الظن أنها لن تندمل – فالأسى المقيم الذي ما فارَقَ شاعرَنا هو عدو أفراحه التي جمعها في كلمة (غرضًا) بالتنكير كذلك لدلالة العموم. ثم يختتم ناجي أبياته بهذا الاستفهام الذي يُنكِر خلاله ويستبعد رحيلَ الحزن عنه:
هلْ إذا أحبَبْتُ حُزني مَثَلًا
رَحَلَ الحُزْنُ كَمَنْ قَد رَحَلا؟!
هذا الاستفهام الذي يضَجُّ بالسخرية المريرة، وهي سمة يتميز بها محمد ناجي، ومن عجيب الأمر أن ختام الأبيات كان بأسلوب الشرط كبدايتها؛ ففي البداية جاء فعلا الشرط والجواب (أحببت) و(أفلا)، ثم كان الختام بفعلي الشرط والجواب (أحببت) و (رحل) إنها العبقرية والمهارة في توظيف الألفاظ والكلمات، وهي براعة من شأنها تصوُّرُ هذا النَّزف المستمر الذي يعانيه القريض مع شاعرنا، "هذا (النزف) هو الشعور الذي يساعد على دفع الإنسان إلى التقدم، إنّه الرياح التي تساعد سفينة البشر على السير والتحرك في الحياة بدلًا من الجمود والركود، ومن حق الشاعر المعاصر أن يشعر بالحزن لأنّه يرى العالم في صورة لا تُرضي إحساسه وهو يرفض هذه الصورة و يطلب البديل لها" (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نجية موس، ظاهرة الحزن وبواعثها في الشعر العربي المعاصر ص102