على ذكر الموت الذى اختطف جدتي وبعدها بساعتين اختطف ابن عمي هذا الأسبوع، أرجوكم أن تحبوا الحياة.
على ذكر الدموع التي نزفت من القلوب قبل العيون أحبوا الحياة. على ذكر الفقد الذي يحتوينا بين أحضانه كما لو كان يضعنا في علبة مظلمة مليئة الشوك ويغلق علينا بلاصق متين فتدمى قلوبنا كلما حركنا الحنين فيها إلى وجوههم التى غابت، إلى دفئهم وابتسامتهم.. إلى طلتهم في العيد.. إلى صورتهم في مناسباتنا السعيدة.. إلى رائحتهم بين أحضاننا لنكتمل بهم كأمهات وزوجات وأبناء يكبرون كلما مرت الأيام لا تستند روحهم في الحياة إلى شجرتهم.. شجرتهم التي تظلل وتطعم وتسند الظهر كلما تعبوا من السير في دروب الحياة.
حينما مات أبي رفضت فكرة موته، وقررت نفسيًا أنه قد غادر سافر منذ أربعة أعوام ولم يأتِ بعد، رغم أننى أزور قبره بشكل دورى وأسقى الصبار لأرتاح من شوك الحنين. واليوم دفنا الجدة، صديقته وحبيبته، لم تسعفني الدموع هذه المرة بل أسعفتنى الذكريات المبهجة التى تزاحمت، وأطلت من ذاكرتى حتى فرضت على الآن أن أكتب بعد ساعات من الدفن. تذكرت أن أبى سيفرح بها وسيضحكون مثلما اعتادا على ذلك في سمرهم وهما جالسين على الكراسى أو الكنبة تحت شجرة التوت، كلما حضرت كل عام في موسم الحصاد لتحاسب المستأجرين وتوزع زكاة المحاصيل بنفسها وتكثر من الصدقة وتقول لي: "روحى اعملى لنا شايا أنا وابوكى. فأقول لها: "بس استنى متفتحوش الحكايات والنبى إلا لما أجى.. فيضحك أبى ويقول: عمتى وصديقة طفولتى، تكبرنى بتسعة أشهر فقط وطالما تسببت لى في المصائب فتجلجل ضحكتها فيشهدنى أبي، ويقول: هل ترين هذا أثر هذا الجرح في جبينى؟ كنا نلعب الاستغماية واختبأنا في الإسطبل فرفسنى الفرس وشج رأسى فأكركر من الضحك معهما وتقول هى: مش كنا بنلعب يا ولد. فيسارع بقوله هل تتذكرين جرة السمن البلدى التى أكلناها كلنا بأرغفة العيش كلما جعنا وتعبنا من اللعب حتى اكتشفوا الأمر وأنا أخذت علقة ساخنة وأنت لم يضربوك لأنك يتيمة رغم صرامة أمك. جدتى. فنضحك ونضحك، وأقول لها والنبى يا تيتة احكى لي عن أمى وخالاتي وعماتى وقت أن كن تلميذات في مدرسة أمك. فتضحك، وتقول: "كانوا يختفون منها طوال الإجازة الصيفية حتى تنسى جريمة اشتراكهن في حفلة نهاية العام الدراسي بالغناء والرقصات التعبيرية والباليه وخاصة عمتك سعدية.فتنقلب الجلسة كلها إلى فرح وعيون تبرق بالحنين إلى تلك الأيام عيون أبنائنا الذين لا يصدقون ما تحكيه عنه وهن يتخيلن جداتهم على مسرح المدرسة.
اليوم لم أبك لأننى تذكرت الفرح الذى تركته لنا جميعا.الفرح الذى كان وليد المحبة والعطاء والتعامل الصحى وجو العائلة، الذى هو الميراث الحقيقى والتركة الأبقى.
على ذكر الموت اليوم لحق بها ابن عمى الشاب الخلوق الذى أحب الجميع وأحبه الجميع لم يجرح أحدا ولم يهمل أحدا في واجب فرح أو سانده في حزن حتى وإن لم يكن يلقاه بشكل دائم فالحياة عجلتها تدور ولا تتوقف وأن لم نسر بسرعتها فسننكفئ وتدهسنا.
رفرف محمد بجناحيه خفيفا بعد صراع مع المرض تاركا تركة من الود والطيبة والرجولة والمواقف التى لا يمكن نسيانها، والتى تتلخص في صلة الرحم وحبه لأقاربه، وحبه للتعرف على أولادهم في أية مناسبة. فترك لابنته قلوبا تظلهم محبتها. تلك المحبة التى زرع هو شجرتها وسقاها على مر الأيام.
على ذكر الموت أسعدوا مع من حولكم، وانشروا الفرح وانسوا الحقد والصراعات التى لا تخلو منها كل عائلة في مجتمعنا، الصراعات التي تبعدنا عن بعضنا البعض، وتضيع علينا فرصة للسعادة، ونحن على قيد الحياة. وتحرمنا من ذكريات دافئة بعد الموت. لا تغرنكم الحياة فأعظم منا رحلوا وأكبر منا رحلوا وأنقى منا رحلوا.فلم الضغينة والفرقة والمشاحنات؟ أحبوا الحياة.