عمرو الزيات يكتب: فيلسوفُ(الجنِّ) وعرَّابُها

عمرو الزيات يكتب: فيلسوفُ(الجنِّ) وعرَّابُها
عمرو الزيات يكتب: فيلسوفُ(الجنِّ) وعرَّابُها

ثمّ حديث بدأناه عن حسنات العام الماضي وانقسام الناس حولنا إلى مؤيد داعم، وعدو مبغض، ومنافق متلون، جاء فيه:

"من حسنات العام الماضي كشفه النُّقب عن تلك النفوس التي انقسمت في مشاعرها تجاهنا ثلاث طوائف كان لها أعظم الأثر في رسم منهجنا وتوجيهنا ونحن نخطو أولى الخطوات في العام الجديد:

الطائفة الأولى: (الداعمون المحبّون).

يمكننا أن نطلق عليهم: الأصدقاء الشيوخ، وهؤلاء من اتخذناهم – وهم أصدقاؤنا – قدوةً لنا في بعض الأمور، تعلمنا منهم، هم خير دعم لنا، وهم الحصن المنيع الذي نأوي إليه، نُصحُهُم خير ونعمة، ونهيهم محبة، يباركون ما نفعل، ويرون في نجاحنا نجاحًا لهم، هم نعمة من نِعَم الله علينا، نحن مدينون لهم؛ ففضلهم علينا لا ينكره إلا جاحد، وسوف نفرد لكل من هؤلاء مقالًا مفصلًا بإذن الله؛ إذ ذكرهم في هذا المقام سريعًا حيفٌ بيّن، ولهم علينا مكرمات لا تُحيط بها الصحائف مهما سوّدت، وليس معنى قولنا: الأصدقاء الشيوخ أن جميعهم يكبروننا سنا؛ فأغلبهم أكبر منا مقامًا وعلمًا؛ بيد أننا وُلِدنا قبلهم، لهم قلوب نقية لا تعرف البغضاء، هم كالجبال في علمهم وثقافتهم".

من تلك الطائفة التي تضم أعلام مدرسة الجن ومفكريها أستاذنا الدرعمي الكبير علي عبد الكريم، ولا نذيع سرا إذا قلنا: إننا تهيبنا كثيرا ونحن نكتب عن تلك القامة الكبيرة؛ إذ كل ما نأتي به في تلك السطور لا يتعدى طرقا لباب قلعة علمه دون ولوجها؛ وكيف نلج عالمه وهو رحيب لا يحيط به إلا أولو العلم الراسخ والثقافة العميقة ولسنا من هؤلاء بداهة؟!

بيد أن رياض الرجل قطوفها دانية؛ تغري المارّة العابرين، وأنهار علمه عذبة سلسبيل، وما على تلميذه من لوم إن مدّ راحته فاغترف غرفة تروي غلّة نفسه وروحه!

كان شيخنا ولا يزال الشاهد الأول على حلم صديقنا الرائد السيد خلف أبي ديوان، وظلّ مشجعا داعما لأبي ديوان، وهو على يقين أن الرائد وجنوده يمثلون خط الهجوم الزاحف نحو الانتصار، وأن هؤلاء الشباب قادرون على تغيير خريطة الأدب العربي والثقافة العربية بما لديهم من ملكات ومواهب، يؤمن أن أبا ديوان قد وهبه الله حسن اختيار المردة والمريدين، وتلك من نعم الله عليه.

شرفنا بمعرفته، وكان الفضل لصديقينا أبي ديوان ومحمد ناجي، ويعتبر الأخير أقربنا إلى قلب أستاذنا الشيخ، أغبط ناجيا على تلك المكانة، ولا ألوم شيخنا على ذلك؛ فقد يميل الأب – رغما عنه – لأحد أبنائه لأسباب وضعها الله في قلبه، ولا يملك لها تفسيرا؛ فقد قال معاوية في معرض المفاضلة بين يزيد وبعض أبناء الصحابة:" لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، وابني أحب إلي من أبنائهم".

وهو رجل تيمم هذه الحياة محرابا، واحتواها غابا، وصدف عنها سرابا، لابس منها خفايا أسرارها، واشتف مرارة أقدارها، وتتبع غوابر آثارها، وحواضر أطوارها، فإذا نصح أو كتب في فلسفة الحياة كما تراءت له فهذا مجاله وميدانه الذي حاز قصب السبق فيه غير لاهث، ولم تتلاحق أنفاسه لبعد المضمار، ووعورة السبل، وكيف يدركه نصب وهو أمة وحده؟! ترنو إليه العيون وتهفو إليه القلوب، تحاول اللحاق به؛ بيد أن الأنفاس تنقطع دون ذلك. 

عالم نحويّ من طراز فريد، ولغوي ماهر هاضم لكل ما تقع عليه عينه، وأديب بليغ لا يمل متابعه، له أسلوب يعرفه من يطالع كتاباته، وفي ذرعنا أن نطلق عليه: نجم الفضاء الأزرق؛ فله فلسفة عجيبة وهو خير من استخدم هذا العالم العجيب، فقد سخّره لنشر فكره وفلسفته وبث محبيه خلاصة تجاربه؛ فهو يعلم أن العلم يربو على الإنفاق؛ فطفق يلقي بآرائه بأسلوب محبب يجبرك على متابعته وترقب ما يقوله راضيا عنه مستمتعا بكل حرف يخطه بنانه، ومن كان في ريب من كلامنا فليراجع صفحته؛ ليرى بنفسه صحة ما نذهب إليه.

نمرّ بما يكتبه فنقف حائرين بسبب تلك المهارة وأثرها في جذب النفوس، وتلك اللغة القريبة المحبّبة، نسافر في عالم فلسفته الرحيب، يرهقنا الفكر، ونعود من تلك الرحلة وكلنا رضا، وكثيرا ما ترددنا في كتابة حرف واحد تعليقا على هذا الفكر؛ مخافة تشويهه، وقد يكون صمتنا في حرم جماله وإبداعه جمال، له طريقة بديعة يعرض بها رأيه في قضية ما؛ فهو يشعرك – أيها القارئ – أنك من تعرض هذا الرأي، ولا يحجر على فكرك، متواضعا جم الخلق، يناقش ويجادل، يفسر ويشرح للجميع في تواضع منقطع النظير، وتلك سمة من سمات العلماء.

وشيخنا موسوعي تراه قد أخذ من كل علم حظا وافرا، يتمتع بثقافة عميقة عمق روحه وعراقته، لم يقصر نشاطه على حقل من حقول المعرفة، وإنما سعى إلى الثقافة الشاملة، ونظر إليها على أنها كلّ لا يتجزأ، يؤمن أن إنسانا منحه الله عقلا لا يستخدمه في المعرفة والعلم لا يستحق الحياة.

ومن يطالع ما يكتبه شيخنا على عبد الكريم على صفحته على الفضاء الأزرق ليعلم أنه يحارب الجهل، ويبدَّد بعلمه الظلام، ويحمل مشاعل الثقافة بمفهومها الواسع، ويواجه ظواهر الفوضى ومذاهب الهدم والدجل والجمود والتخلف في شتى مناحي الحياة.

تلك قطرة من بحر أستاذنا الحبيب، حاولنا الكشف عن عالمه، ونعلم أن التقصير حليفنا؛ فعذرا إن أضاع التلميذ اتزانه وهو يتحدث عن أستاذه.