إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الرابعة)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الرابعة)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الرابعة)

  الحديث ينتقل في سلاسة ويسر بين عادل ووالدته وميرفت بجانب حمام السباحة ، في انتظار حضور أبيه ليقدم له ميرفت كما قدمها لوالدته ، الانتظار طال على غير المتوقع ، مما دفع عادل لمهاتفته يستعجله العودة . أخبروه أنه يجري عملية جراحية لن يفرغ منها قبل ثلاث ساعات على الأقل ، ألقت ميرفت بنظرة إلى الساعة التي تزين معصمها ، نهضت مبتسمة :

_ تأخر بي الوقت ومضطرة للاستئذان .

قالت والدة عادل وهي تقبلها :

_ بودي لو أمسك بك ولا أدعك تذهبين ، لكم أحببتك .

وقالت ميرفت ومسحة من الحزن اكتسى بها وجهها:

_ بالرغم من أني لم أتعرف على حضرتك سوى من وقت قصير ، إلا أنني أشعر نحوك كما لو كنتِ أمي التي لم أرها .

قال عادل محتجا :

 _ بدأت أُغار من حديثكما ، أشعر بأنني طُردت خارج دائرتكما..

قالت والدته :

_ ستشعر بالغيرة أكثر عندما تتزوجان بإذن الله ، وتأتي ميرفت للإقامة بيننا وأدللها كطفلة صغيرة أنجبتها .

_ لست أخشى من هذا فأنا متأكد من أن مستودع حنانك سيفيض على كلانا .

_ هيا تصحبكما السلامة قبل أن يشعر والدها بالقلق لتأخرها .

_ عندك الحق يا أمي فمن لديه ابنة مثل ميرفت ، لا بد وأن يشعر بالقلق عندما تبعد خارج نطاق عينيه ولو لبضعة خطوات .

قالت ميرفت ضاحكة :

_ لا تكن مبالغا ياعادل فأنت لم تلتق بي سوى اليوم .

قال عادل :

_ هيا بنا فأنا في اشتياق لأن أتقابل مع حما المستقبل وكاتبي المفضل الذي أعشق كتاباته.
توقفت ميرفت ونظرت نحوه وعلى وجهها ابتسامة حائرة وقالت:

_ إنك تمزح .. هل تود مقابلة والدي الآن ؟

قال عادل وهو يقبض على يدها :

_ ولما لا ؟ .. إذا لم تسمع أُذناي موافقته على ارتباطنا لن يغمض لي جفن :

_ وماذا سأقول لأبي ..؟ هل أقول له سامحني يا أبي فأنني لم أكن أعلم أنني سأقابل مجنون جميل اليوم .

قال عادل وهو يحدق في عينيها وضوء القمر ينسكب فوق وجهيهما :

_ لا تخشى شيئا .. أنا الذي سأتولى الإجابة بالنيابة عنك ، وأقول له ..الحب نوع من الخمر الحلال ، صنعه الله ليستقي به من رضى عنهم ، ليدخلوا في غيبوبة جميلة لا تخضع لأي قياسات ، وتتوقف عندها الأزمنة والمواقيت ..  أليس هذا قولك أيها الكاتب الكبير .. من المؤكد أنه لن يستطيع التملص من قوله وسيمسك برأسينا ويقول .. بارككما الله ولتنعما بهذه الغيبوبة الجميلة..

همست ميرفت ونظرة ملائكية تطل من عينيها :

_ لو قرأ أبي ما قرأته في عينيك الآن ، فأنه سيضعنا في غرفة ويغلق علينا الباب قائلاً : امكثا بها وعيشا ما بقى لكما من العمر ، فلستما في حاجة لأي شيء من احتياجات البشر .

دفعها عادل برقة وهو يقول حالما :

_ أرجوكِ قودي سيارتك فورا وسأتبعك بسيارتي فأنني أشعر بالغيبوبة الجميلة تلفنا ، وأخشى أن نظل في مكاننا للأبد نتناجى حيث لا شمس ولا قمر .. الفجر فقط .

قالت ميرفت ضاحكة :

_ أحذر فقد أروغ منك في الطريق ، حتى تضل الوصول إلى منزلي .

قهقه عادل قائلاً :

_ كلانا سيقود السيارة بقلبه ، وبين قلبينا رباط لا تستطيع قوة أن تفصله .

 كما توقع عادل كيف سيكون اللقاء بينه وبين الكاتب ناجي عنايت ، لم تبدو في عينيه سوى نظرة عتاب رقيقة ، يسأل ميرفت عن سبب تأخرها ، استطاعت بقبلتها الرقيقة وابتسامتها الحلوة  أن تمحوها سريعا ، لتمتلئ عينيه بنظرة حنان وحب يحتويها بين ذراعيه كطفلة صغيرة ، ضحكت وهي تشير نحو عادل وتقول :

_ إذا كان هناك من يستحق العقاب فهو هذا المختطف يا أبي .

_  كيف أصدر حكما بالعقاب عليه ولم تعرفيني به بعد ؟!

أجابت ميرفت بحب خط على وجهها أروع لوحة فنية للجمال :

_ إنه عادل ابن الدكتور عزيز علوي الطبيب المعروف يا أبي ، هو أيضا سيصبح طبيبا العام القادم بإذن الله .

سأل ناجي عنايت والابتسامة لم تفارق شفتيه؟

_ وما الذي جمع طالب الطب مع طالبة الآداب ؟

_ يقول عادل أني جنية خرجت من بحور الشعر .

_ إذا فالشعر هو الذي جمع بينكما .

قالت ميرفت وقد التحمت نظراتها مع نظرات عادل :

_ نعم يا أبي شعرنا بأن أبياته التفت حولنا ، لم نستطع منها فكاكا ، ذهبنا سويا وقدمني إلى أمه الطيبة ، ثم أصر أن يأتي معي لأقدمه إلى كاتبه المفضل.

قال ناجي وعيناه تتفحصان عادل بإعجاب :

_ ألن تدافع عن نفسك يا فتى قبل أن أصدر حكمي .

_ ليس لديَّ ما أقوله يا سيدي ، سوى إنني لم أذق الشهد طوال حياتي ، كما تذوقته في أبيات الشعر وهي تنساب من بين شفتيها ، كخرير المياه العذبة في الجداول ، انجذبت للحديث معها ، دون أن أدري كبلت قلبي بخيوط حريرية ، قالت حاول الفكاك ، لم أحاول ، استسلمت للأسر بكامل إرادتي .

قال ناجي عنايت مبتسما وهو يربت فوق كتف عادل :

_  دفاع قصير جدا لكنه أقوى دفاع سمعته في حياتي .

قال عادل ببساطة :

_ أفهم من هذا أنك ستنظر إلى قضيتي بعين الرحمة يا عمي .

قال وفي عينيه نظرة تفهمها ميرفت جيدا :

_ لن أنطق بالحكم قبل أن نحتسي الشاي من يد ميرفت .

قالت ميرفت وهي تنسحب من الغرفة :

_ أمرك يا سيادة القاضي .. ، تعلم أن أباها يقصد أن يبعدها ليكون له حديث خاص مع عادل ، ميرفت لا تعد الشاي ، لديهم خادم خاص للمضايفات.

نظر ناجي عنايت نحو عادل مدققا ثم قال :

_ فوجئت بك الليلة ، ميرفت لم تخبرني بأي شيء عنك من قبل ، منذ متى كان تعارفكما ؟

قال عادل وهو يعد نفسه للدفاع عن حبه :

_ تعارفنا وليد ساعات قليلة يا عمي .

قال ناجي عنايت مندهشا :

_ منذ ساعات قليلة وأتيت لتخطبها يا عادل ؟!

أجاب عادل :

_ شرارة الحب الطاهر تتولد في ثوان ، وإذا تولدت من المستحيل أن تنطفأ ..  قرأت لك كثيراً عن الحب يا عمي وقولك هذا إجابة كافية لسؤالك .

_ سعيد باستماعي لإجابتك ، لكن هناك أشياء لا بد أن أحدثك بها ، من حقك أن تعرفها على أن تكون سرا بيني وبينك فقط ولا تُعلم بها ميرفت ، سأُحدد لك موعداً لنتقابل فيه على انفراد دون علم ميرفت .

قال عادل وقد انتابه بعض التوجس :

_ رهن إشارتك يا عمي ..

 

*********

      قطع رصيف المحطة جيئة وذهاباً ، المرة الأولى له خارج قريته ، أفرغ القطار حمولته من الركاب ، مُخلفين وراءهم عرباته وقد امتلأت بفضلات الطعام وقشر القصب ، لتزيدها بشاعة فوق بشاعتها . نسى جاد الكومي أو تناسى كل شيء عن القطار ، وجد نفسه تائها حتى عن باب الخروج للطريق . الناس حوله تسلك في كل اتجاه ، لا يدري أي مجموعة يسير في رِكابها حتى تطأ قدمه الطريق ، بعدها يتدبر أمر مواصلة تقِله إلى معرفته الذي يعمل في طائفة المعمار . لا يعرف عنه سوى أنه يجلس بعد انتهاء يومه من العمل الشاق على أحد مقاهي شبرا ، لم يكن الأمر بالسهولة التي كان يتوقعها ، سأل أحد المارة عن كيفية الوصول إلى المقهى التي يرتادها عمال البناء في شبرا . سخر منه وقد رأى فيه القروي الساذج .. بطل من أبطال النكت التي تطلق على أبناء الجنوب.. مازحه قائلا : يمكنك أن تجلس مكانك ،سأرسل لك المقهى برواده حتى لا تتحمل مشقة الذهاب ، فطن جاد الكومي إلى مزحة الرجل السخيفة ، كاد أن يطلق يده في وجهه ، تراجع خشية مشكلة ولم تمض عليه سوى لحظات في القاهرة . لم يتلق جاد سوى نظرات السخرية إجابة عن سؤاله الساذج ، لا يعلم أن حي شبرا توجد به مئات المقاهي التي تمتلئ بالعمال كل ليلة . غربت الشمس وهو لم يزل يسأل ، شعر بالألم يمزق قدميه اللتين لم تتوقفا لحظة واحدة عن السير ، خشي أن يستقل الحافلة  فتأخذه إلى جهة لا يعرف كيف يخرج منها ثانية ، علاوة على حرصه أن يتدبر كل قرش معه ، حتى يضمن على الأقل قوت يومه ، إلى أن يعثر على معرفته الذي وعده بالعمل فور قدومه . أجبره الظلام للجلوس في مقهى صادفه في طريقه ، أسكت صراخ معدته ، أغرته رائحة الفول والطعمية المنبعثة من المطعم الذي يجاور المقهى ، بعض الارتياح وهو يرتشف من كوب الشاي بصوت لفت الأنظار إليه ، لم يبال بالعيون المحملقة في وجهه بعد أن شعر بالسكينةِ في معدته ، أودع بداخلها أربعة أرغفة ممتلئة بالفول والطعمية ، أنسته مؤقتا مشكلة البحث عن معرفته . لم يشعر بالارتياح للنظرات التي يرمقه بها الجالس على المنضدة المقابلة له ، أثار جُرح قديم يعتلي جبهته ، شغل نفسه بالمعركة المحتدمة بين مجموعة تلعب الورق وهم يرمون زميلهم الذين يطلقون عليه القشاش بنظرات نارية ، اعتاد أن يسلبهم أموالهم التي يشقون بها طوال النهار ، تراودهم الشكوك في أنه يغش في أوراق اللعب ، لم يتمكنوا من اثبات التهمة بصفة قاطعة ، وإلا كانوا مزقوه كما يحدث بين الوقت والآخر في هذا المقهى الذي تحيط به الشبهات من كل جانب . انتبه جاد إلى صاحب الجُرح وقد انتقل للجلوس على نفس المنضدة التي يجلس عليها ، ابتسم ابتسامة كشفت عن فم ممتلئ بقطع من الأحجار الصفراء ، اعتلى بعضها حفر سوداء نقبها السوس . بالرغم من قرويتة وقدمي زوجته المشققتين لم يشعر بهذا القدر من الاشمئزاز من قبل . جامله القدر ليريحه من تقززه ، أرسل بسيارة شرطة داهمت المقهى ، هدفها البحث عن صاحب الأسنان المنفرة وجيبه العامر بالمخدرات . قبل أن يفيق جاد وجد نفسه مجدولا بين إثنين من المخبرين يتبادلان صفعه بتلذذ واضح ، أُرغم على الدخول لداخل سيارة الشرطة ليرافق ذو الأسنان المنفرة وبضعة أشخاص تحوم حولهم الشبهات . أوقعه حظه السيئ بانتقال ذو الأسنان المنفرة للجلوس معه على منضدة واحدة ، اعتبروه شريكا معه بالرغم من محاولاته المستميتة وصراخه لتبرئة نفسه ، في النهاية صمت لسانه تحت وطأة الصفعات الثقيلة . الشعور بالندم على تركه لقريته والإحساس بالمهانة ويداه رهينتا القيد الحديدي ، أوعزتا لعينيه لترسلا بدموعهما أمام الضابط ، قص عليه خطواته منذ أن حطت قدماه على رصيف المحطة . حالفه الحظ باعتراف صاحب الأسنان المنفرة بأنه لم يره قبل هذه اللحظة . اقتنع الضابط ببراءته وأمر بإطلاق سراحه . توسل إليه جاد أن يبقيه حتى الصباح لأنه لا يعرف أين يذهب ، أشفق عليه الضابط . أبدى جاد همة في خدمته وتنظيف مكتبه طوال الليل وتسليته في نوبتجيته بحكاياته عن القرية ، مما دفع الضابط أن يرسل معه شرطي يرافقه ليريه المقهى الذي يتخذه طائفة المعمار مقراً لهم ، يحتسون به الشاي صباحا ويسهرون به ليلا . قفز الحظ أمام جاد بعد معاناة يومه السابق ، ليجد معرفته جالسا على المقهى يحتسي شاي الصباح ، لم يصدق أنه يعرض عليه ليذهب معه ليبدأ العمل فورا ، قَبِلَ بالرغم من الشعور بالتعب والإجهاد طوال ليلتين ، منذ أن غادر قريته لم تذق عيناه النوم ، ذهب للعمل وقد فارقه الشعور بالندم على تركه لمسقط رأسه .

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة

 

 **********************

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************