عام قد انقضى أو مر، على مقتل "الأنبا آبيفانيوس" أو قارورة الطيب كما لقبه تلاميذه من الباحثين أو أخوته من الرهبان، قارورة الطيب تلك قد انكسرت فظل عطرها يفوح ويسرى فى ماء الكنيسة الراكد، وكأن مقتل رئيس دير أبو مقار على يد اثنين من الرهبان قد حرك ما كان ساكنًا، وفتح الطريق أمام من كان ينتظر.
كان عامًا قلقًا، اجتازته الكنيسة القبطية مستندة إلى إرث طويل من العبور فوق الأزمات بل والوثوب فوقها، فظلت صامدة ألفى عام لا يهزها ريح ولا يزحزحها الزمن إلا أن العام هذا قد غير كثيرا فى شكل الكنيسة المعاصرة، أو إنه مرحلة انتقالية ما بين عصر وعصر.
بوفاة الأنبا آبيفانيوس، انفتح باب العلم أمام شباب الباحثين من الأقباط لقراءة ما تركه الأسقف الراحل، إذ حرص طوال حياته على العمل فى صمت، يقرأ الكتب، يحقق الأبحاث، ويصدر الدراسات فى دير الأنبا مقار الذى يعتبر بمثابة جامعة بحثية للكنيسة القبطية، هذه العزلة الاختيارية جعلت من الشيخ الراحل رجلا معروفا فى الأوساط العلمية، مجهولا لدى عموم الأقباط الذين اعتادوا الاستماع لعظات آباء الكنيسة المشاهير، نجوم الوعظ على المنابر، أو رجال عصر البابا شنودة الذين تولوا مقاليد الأمور فى الكاتدرائية كالأنبا بيشوى مطران كفر الشيخ الراحل، والانبا يؤانس أسقف أسيوط الحالى وسكرتير البابا شنودة، والانبا إرميا سكرتير البابا شنودة أيضًا، وغيرهم الكثير من أساقفة إيبراشيات الأقاليم ممن حرصوا على الظهور فى فضائيات الكنيسة وصعدوا على منابرها.
حادث القتل الرهيب، دفع عوام الأقباط للتعرف على ما تركه الأسقف الراحل من كتب ومعرفة تباينت ما بين تحقيق التراث والترجمة عن لغات الإنجيل القديمة مثل اليونانية والعبرية ومن بينها كتاب مفاهيم انجيلية، وسفر التكوين "الترجمة السبعينية بالمقارنة مع النص العبرى والترجمة القبطية، وخولاجى الدير الأبيض – ترجمة عن اللغة القبطية ودراسة، والقداس الباسيلى – النص اليونانى مع الترجمة العربية، وتحقيق لكتاب بستان الرهبان أشهر كتب الرهبنة القبطية.
رحيل الأسقف دفع تلاميذه وأخوته بدير الأنبا مقار، لإتاحة كتبه بصيغ إلكترونية على المواقع المسيحية المتخصصة، بالإضافة إلى تسجيلات صوتية لأشهر عظاته وأفكاره، بينما أصدر دير بوزى الإيطالى كتابا عن حياته فى ذكرى الأربعين إذ كان الأسقف الراحل على صلة بالدير يتبادل مع آبائه الكتب والأبحاث والترجمات، وقد سبق وأن حضر مؤتمرا عقده الدير منذ ثلاثة أعوام فى ذكرى وفاة القمص متى المسكين.
كذلك، فإن الذكرى الأولى لوفاته قد شهدت إصدار كتاب ثالث، بعد كتاب ثانى أصدرته مكتبة الإسكندرية للدراسات المسيحية يتصدر غلافه صورة الأسقف المغدور ويضم أبرز كلماته ودراساته وأفكاره
كيف حركت وفاة الأنبا آبيفانيوس الماء الراكد فى الكنيسة؟
كان الأسقف الراحل يتبنى شباب الباحثين فى اللاهوت والعقيدة القبطية كأب روحى وعالم جليل، يقرأ لهم ويشجعهم ويساعدهم بما أوتى من علم ومعرفة فى حقول اللاهوت بتلك القدرات المعرفية الهائلة التى امتلكها، أصر التلاميذ على استكمال مسيرة الأسقف الراحل وظهرت أسماء جديدة على منابر الوعظ الكنسى مثل أمجد بشارة وكيرلس بشرى وموريس ميخائيل بالإضافة إلى شباب باحثى مدرسة الإسكندرية للدراسات المسيحية التى يشرف عليها الراهب القس سيرافيم الباراموسى، فضلا عن عدد من المبادرات الشبابية لدراسة اللاهوت والعقيدة المسيحية بعيدا عن أسوار الكنيسة الرسمية مثل مبادرة اليثيا التى يقوم عليها عدد من الشباب لتبسيط المصطلحات الكنسية والبحث فى التراث الآبائى.
لم يقتصر الدور الذى لعبته قضية الانبا آبيفانيوس، على شباب الكنيسة من باحثى اللاهوت بل امتدت لتشمل العودة لتراث الكنيسة الآبائى على مستويات متعددة أهمها الرهبنة القبطية، إذ قاوم الانبا آبيفانيوس طوال حياته ما رأى إنه انحرافا عن رهبنة القرون الأولى واعتبر فى الحوار الذى أجراه مع آباء دير بوزى الإيطالى أن المال أصل كل الشرور وتسبب فى إفساد الرهبنة، بالإضافة إلى رأيه الواضح تجاه تولى الرهبان مناصب الكهنة معتبرا أن هذا الأمر تسبب فى حروب داخل الأديرة وهو الأمر الذى دفع البابا تواضروس لإيقاف منح الرهبان الرتب الكهنوتية لمدة ثلاث سنوات ضمن مجموعة قرارات عرفت باسم قرارات ضبط الرهبنة.
وفاة الانبا آبيفانيوس جرح وعلامة فى تاريخ الكنيسة القبطية، ورغم قسوة الحادث الذى انتهى بحكم إعدام على الراهبين "إشعياء وفلتاؤس المقارى" إلا أن الكنيسة أفادت منه أكثر مما خسرت، وأكدت لشعبها وللتاريخ إنها صخرة قوية لا تهزها ريح قادرة على المقاومة والصمود مثلما فعلت طوال ألفى عام مضت.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع