الدعوات الخطيرة التي أطلقها الاحتلال الإسرائيلي بتهجير سكان قطاع غزة، تحمل في طياتها العديد من الأهداف، ربما أبرزها تصفية القضية الفلسطينية، وتصدير الفوضى إلى دول الجوار، وبالتالي ضرب الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، عبر تحويل ساحة المعركة، إلى أراض أخرى بعيدا عن الأرض المتنازع عليها، خاصة بعدما ما شهد الإقليم حالة من الاستقرار، بعد تعافيه نسبيا من تداعيات "الربيع العربي"، والتي ساهمت بصورة كبيرة في ابتعاد القضية عن مركزيتها، مرحليا إثر التهديدات الكبير التي لاحقت الأمن الداخلي للدول العربية، جراء انتشار الميليشيات المتطرفة، وعدم استقرار الأوضاع، على خلفية حالة من الغضب الشعبي العارم، استثمرتها دولة الاحتلال في المزيد من التوسع والاتساع في كل أنحاء الأراضي الفلسطينية.
فلو نظرنا إلى سياسات الاحتلال في السنوات الماضية، نجد أن ثمة محاولات صريحة لـ"طمس" الهوية الفلسطينية، وهو ما بدا في العديد من المراحل، تبدو المستجدات في غزة مجرد أحد حلقاتها، وهو ما بدا في الاستهداف المتواتر لمدينة القدس، وتوسيع دائرة الانتهاكات بها، وفي القلب منها المسجد الأقصى، والذي شهد اقتحامات كثيرة، بينما أضفت عليها سلطات الاحتلال صبغة رسمية عبر مشاركة مسؤولين حكوميين، في استفزاز صريح لملايين المسلمين، بينما اتسعت الانتهاكات نحو استهداف المقدسات المسيحية، وهو ما يبدو في إثارة بعض القضايا، على غرار فرض ضرائب على كنائس المدينة، منها 190 مليون دولار على كنيسة القيامة وحدها في عام 2018، مما دفع البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بطريرك القدس وسائر أعمال فلسطين والأردن إلى إغلاقها في عام 2018.
ولم يتوقف الأمر على استفزازات الاحتلال لأهل المدينة المقدسة، وإنما انتهجت سياسات أخرى، من شأنها طمس هوية المدينة، عبر تغيير طابعها العربي والإسلامي، وبالتالي تجريدها مما تحظى به من خصوصية، في ضوء اعتبارها مركزا للديانات الإبراهيمية الثلاثة من خلال العمل على استهداف القبور، وإرساء ما يسمى بـ"الحدائق التوراتية"، بالإضافة إلى أعمال التجريف التي طالت المقبرة اليوسفية، وذلك بهدف تقويض الحضارة العربية للمدينة، والتحول نحو تهويدها.
طمس الهوية الفلسطينية، لا يقتصر على ممارسات الاحتلال بمدينة القدس، والتي تمثل أحد أهم أركان "الشرعية الدولية"، على اعتبار أن الجانب الشرقي منها سيكون العاصمة المستقبلية للدولة المنشودة، وإنما امتد في أحد مساراته، إلى استهداف المناهج التعليمية، حيث كرست مناهج من شأنها إرساء سياسة "طمس" الهوية الفلسطينية، في إطار تكريس الأكاذيب في عقول التلاميذ، عن فلسطين وأرضها وتاريخها، ناهيك عن محو الحقائق المرتبطة بمدينة القدس والمسجد الأقصى.
الموقف الإسرائيلي المتعنت تجاه التعليم في فلسطين، لا يقتصر على المناهج، وإنما امتد إلى استهداف المدارس وإغلاقها حال عدم اتباعها للمناهج الإسرائيلية، بل ووصل الأمر إلى اعتقال المعلمين، والعمل على حذف كل ما له علاقة بالانتماء الوطني الفلسطيني، من خلال تحريف الكتب المدرسية الفلسطينية وتزويرها، وتهديد المدارس الفلسطينية لإرغامها على تبني الكتب المحرفة بالإكراه، الأمر الذي يمثل انتهاكا صارخا للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والمواثيق والاتفاقيات ذات العلاقة التي تقضي بحماية حق التعليم الطبيعي.
بينما تبقى عملية التوسع الاستيطاني، سواء في الضفة الغربية أو القدس، الوجه الثالث لعملية طمس الهوية، وهو ما يبدو في زيادة حجم المستوطنات الإسرائيلية بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية، إلى حد ابتلاع الأرض، حيث يعيش في الضفة الغربية، اليوم، نحو نصف مليون مستوطن في 132 مستوطنة، و146 بؤرة استيطانية بين أكثر من 3 ملايين فلسطيني، ولا تشمل هذه المعطيات نحو 230 ألف مستوطن يعيشون في 14 مستوطنة إسرائيلية، مقامة على أراضي القدس الشرقية.
وهنا يمكن القول بأن دعوات التهجير هي مجرد حلقة جديدة من مسلسل "تجريد" الفلسطينيين من حقهم في إقامة دولتهم، ومحاولة جديدة للالتفاف على الشرعية الدولية، عبر تجريدهم من مواطنيهم، من خلال إجبارهم على ترك أراضيهم، والنزوح إلى دول أخرى، بالإضافة إلى طمس هويتهم، خاصة في القدس، عبر استهداف مقدساتهم، وحرمانهم من الخصوصية التي تحظى بها مدينتهم، ناهيك عن السيطرة على عقولهم عبر نشر الأكاذيب في المناهج التعليمية، وتجريدها من الهوية الوطنية الفلسطينية، باعتبارها الطريق لتشكيل عقول النشء الصغير، وهو ما يعني تجريد الدولة المنشودة من كافة أركانها، وهي مواطنيها وهويتها، وخصوصيتها وطابعها الحضاري.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع