أنغام مقدسة.. رسائل السماء عبر الحناجر والموسيقى
رحلة طويلة قطعها النص المقدس بين تعدّد القراءات ومدارس الأداء.. مُؤسّسو دولة التلاوة يقودون مسيرة دائمة من التطور والمُتشدّدون يعترضون ويرفضون الإبداع
هل يكره الله الموسيقى؟ وهل الغناء رجس من عمل الشيطان؟ ولماذا اتّسعت حناجر المُطربين وتكلَّست حناجر المُرتّلين؟
كيف يوصى الرسول بالتغنِّى ويجحد المُتّبعون الوصية؟ وهل يتداول القُرّاء على امتداد العالم قرآنًا واحدًا أم سُوَرًا ونصوصًا بعدد حناجر القُرّاء وأنفاس السامعين؟!
"تعلّموا القرآن وغنّوا به" و"اقرأوا بحَزَن فإنه نزل بالحَزَن" و"اقرأوا القرآن بلحون العرب" أحاديث نبوية تفتح الباب للإبداع فى الأداء القرآنى
القراءة بالمقامات أول مداخل الإبداع البشرى فى التعاطى مع القرآن و"متطرفون" يُحرمونها بدون سند من الدين أو العقل
وصايا الرسول ومشاحنات الصحابة وتعدد الروايات تحمل مسموحات لا حد لها فى التفاعل مع القرآن وإنتاج الآيات صوتيا
فقهاء العصر الأول اختلفوا حول إدخال موسيقى المقامات فى التلاوة.. المالكية والحنابلة رفضوا والأحناف والشافعية أجازوا واستمعوا
نهضة الموسيقى وتقنيات الأداء الصوتى ارتبطت بتطور مدارس القراءة.. وحناجر القرآن تأثرت وأثّرت فى حناجر الغناء
عشرات الآراء والكتب من فقهاء القرون الأولى حتى شوقى ضيف وطه حسين وكمال النجمى تؤكد تأثير الموسيقى على تطور رؤية المسلمين للنص والواقع
- آباء الموسيقى فى آخر قرنين خرجوا من عباءة القرآن والإنشاد.. وكثير من المطربين بدأوا مؤذنين وقراء قرآن
- طفرات موسيقية عديدة حققتها مدارس الأداء طوال 14 قرنا.. وتجارب عديدة للتلحين خلال القرن الأخير
- القضية محل نقاش بين القراء والمطربين منذ عقود.. وأم كلثوم وعبد الوهاب وزكريا أحمد والسنباطى أصحاب أشهر محاولات الغناء القرآن
- اختلاف الرواة وتفاوت القراءات وتعدد المدارس بين الشرق والغرب يفتح الباب لأنماط من الأداء المتنوع جماليا وموسيقيا
- لا نص ولا دليل على حُرمة القراءة بالمقامات.. وتقنيات الترتيل والتجويد تسمح بإنتاج أشكال عديدة من الغناء البسيط والمركب
- كُره الأصوليين للموسيقى يرتبط بمناخ العصر الجاهلى.. والإسلام لم يأخذ موقفا عدائيا تجاه الفن والإبداع
- فيلم تونسى وأغنيات إيرانية وتركية وكنيسة لبنانية وفرقة إندونيسية يقدمون نماذج عديدة للمزج بين الآيات والنغمات
- الفقه المتشدد يصادر جماليات التلاوة بإغلاق باب التجديد وحصار حناجر النساء وحرمانهن من حق الظهور الرسمى فى دولة التلاوة
- حضور النساء فى الإذاعة ومحافل قراءة القرآن قبل 7 عقود قدمت تنوعا موسيقيا وجماليا أفاد النص وأثرى مدارس القراءة والترتيل
- محمد رفعت ومصطفى إسماعيل ومحمد عمران وعبدالباسط عبد الصمد وغيرهم قراء لم يعتبروا الموسيقى رجسا وجمعوا بين العزف والغناء والقرآن
- أنماط توليد المقامات والإيقاعات تسمح باستحداث صيغ مفتوحة وتقنيات الترتيل والتجويد تحتمل شكلا مُبتكرا للغناء الحرّ
- رواحل القراءة ومدارس الأداء من العراق لمصر والمغرب وأفريقيا تقدم رؤى موسيقية وتطريبية لا تختلف عن تقنيات الغناء
- المقامات والموسيقى تُحقق الرسالة التعبيرية المعززة لفهم وتدبر الآيات.. وجماليات التحزين والتطريب تضيف للدلالة وتعزز تأثيرها على المتلقين
- السنباطى اعترف بحلم أم كلثوم فى غناء القرآن وصالح جودت أكدت تلحين زكريا أحمد له وأنيس منصور: استمعنا لنصف سورة الرحمن بغناء عبدالوهاب
- الطَرَب يستند إلى المدود وحركات التشكيل ونفس التقنيات المتحققة فى الغناء حاضرة بقوة لدى قراء القرآن ومدارس الترتيل والتجويد
رحلة طويلة قطعها القرآن فى حناجر القراء، وشدّ وجذب عاشهما فى أرواح الموسيقيين، استفاد خلالها القُرّاء من الموسيقى، واستفاد الموسيقيون من القراءة.. هنا نقترب من رحلة رسالة السماء على سُلَّم النغم!
صدفة عابرة، وضعت لى قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل الأسطورية من سورة «ق»، التى أدّاها فى مسجد السلطان «أبو العلا» خلال ستينيات القرن الماضى، فى قائمة عشوائية على «يوتيوب» إلى جوار تجارب غير مألوفة، أو صادمة للمعتاد والراسخ فى وعى السامعين. بدأت بصوت رخيم، وقور، يتهادى على مقامى البياتى والرَّسْت بآيات من سورة آل عمران، وفى خلفيته آلة نفخ بالغة العذوبة والشجن، تتراوح بين البياتى والصبا والحجاز التركى، ثم إلى تجربة أكثر جنونًا. مطرب يكشف أداؤه عن عُجمة وعَنَاء فى مضغ الحروف العربية، ينشد آيات من بعض قصار السور على موسيقى غربية الطابع، يتجاور فيها الجيتار مع آلة وترية، لا تقل غرابةً عن صاحبها، مازجًا الآيات ببيت شعر من إحدى قصائد نزار قبانى. لم يكن الأمر أغنية أو حتى ترتيلاً مُلحّنًا، وبقدر الغرابة وعدم القدرة على التوصيف كانت الدهشة، وبقدر الدهشة كانت الرغبة فى البحث، والفضول للاكتشاف، والخطوة الأولى بين الآيات والنغمات على سُلَّمٍ موسيقى صاعد نحو السماء.
محمد عبد الوهاب والشيخ مصطفى إسماعيل وفي اليسار الشيخ وزوجته
مجاورة صريحة بين السماوى والبشرى
كانت التجربة الأولى مقطعًا افتتاحيا لفيلم "بابا عزيز"، للمخرج التونسى ناصر خمير، 2006، بإنتاج إيرانى أوروبى مشترك، وظّف المُخرج الآيات مع خلفية موسيقية، فى افتتاحية يظهر فيها شخص كأنه مسجون داخل حفرة، يدور حول نفسه بهيئة قريبة من رقص المولوية، مع عرض "تترات" الفيلم الذى يناقش قضية التحوّلات الروحية، عبر استعراض رحلة عجوز مُتصوّف مع حفيدته باتجاه اجتماع لجماعته فوق أحد الجبال.
القراءة الافتتاحية من فيلم بابا عزيز
يبدأ المقطع، الذى وضع تصوّره الموسيقى الفرنسى من أصل يهودى مغربى، أرماند آمار، محترف الموسيقى التصويرية للدراما منذ 1997، بتآلفات من السُلّم الصغير الغربى، تُلامس مقام "النهاوند"، يلعبها ليفون ميناسيان على آلة الدودوك Doudouk (المزمار الشعبى فى أرمينيا)، وهى آلة مزدوجة اللسان تُنتج نغمًا دافئًا وخشيوميًّا، ومن عائلة قريبة لـ"البلابان" فى أذربيجان وإيران، ومن الناى التركى المُعدّل من الناى التقليدى، ثم يبدأ المُنشد السورى الراحل حمزة شكور قراءة الآيات من 33 حتى 37 من سورة آل عمران.
انطلق "شكور" فى قراءته من مقام "شورى" أحد تنويعات البياتى، وهو مقام مُركّب من "حجاز صول" فى الجواب والقفلة "بياتى رى"، بأداء من منطقة القرار، مُوظِّفًا صوته العريض فى إنتاج مسلك تطريبى تَحزينى، قبل أن يتحوّل فى منتصف القراءة لمقام الرَّست، بينما ترتفع "الدودوك" إلى مجال الحجاز التركى، ثم تتراجع قليلا تاركة الواجهة لإيقاعات العازف كيرن شيميرانى، التى أخذت طابعًا يشبه أجواء الحضرة الصوفية، وتآلفت مع خطوط وتقسيمات من مجالات الحجاز والصبا فى الخلفية، تبدّل بينها الناى والعود التركيّان، و"أربجينون" التى تشبه "الكمان" بأبعاد أكبر وصندوق أوسع، و"نيكل هاربا" الآلة السويدية الشعبية، شبيهة عائلة الكمان لكن بقياسات أكبر ومفاتيح تغيير مثل القانون والأكورديون على الجانب.
المنشد الراحل حمزة شكور والموسيقي أرماند آمار وعازف الدودوك ليفون ميناسيان
أما التجربة الثانية، الأكثر صدمة وإدهاشًا، فكانت غناء مستقلاً عن الدراما، للمُغنّى والمُلحن وكاتب الكلمات الإيرانى محسن نامجو، المولود فى 1976. كانت الأغنية أسبق بسنة تقريبًا من تجربة "بابا عزيز". حاول "نامجو" فيها صنع سياق حكائى بتضفير آيات من عدة سور، فاختار الآيات الثمانية الأولى من سورة "الشمس"، والأربعة الأولى من سورتى الضحى والمزّمل، والآيتين الأوليين من النبأ، والآيتين 27 و28 من الفجر، والآيات الأولى والثانية والثالثة والسابعة من سورة التكوير، بتصرفات بسيطة أحيانا فى الترتيب أو أدوات التعريف، مع جملة "يُسمعنى حين يراقصنى كلمات ليست كالكلمات" من قصيدة نزار قبانى الشهيرة.
أغنية شمس للمطرب الإيراني محسن نامجو
مزج المطرب الإيرانى فى أغنيته التى سمّاها "شمس" بين طابع الموسيقى الشرقية، وأجواء الروك والبلوز المسيطرة على مشروعه الغنائى، مُعتمداً على مزج النغمة بالصوت فى تلوينات أدائية، ومستعينا بالجيتار وآلة "سه تار" الإيرانية التقليدية، مع إيقاعات ذات طابع غربى، وتوظيف الغناء كمدخل إضافى للتوقيع عبر مقاطع "آهات" تشبه النبر على فواصل زمنية متساوية. واعتمد لحنًا للمذهب المتكرِّر من مقام "نهاوند"، مع تنويعات للآيات من الصبا، وأداء يشبه الترتيل التقليدى لسورة الضحى بتنويعة على البياتى.
فى معالجته لمزيج الآيات يسهل ملاحظة أنه سعى لبناء قصة درامية، وكأنه يتتبّع الأمر منذ نشأة الكون إلى الإسلام، ويربط الآيات بجملة "نزار" التى ترد كأنها على لسان إحدى أمهات المؤمنين، كفاصل كاشف عن عُمق النص القرآنى وأثره واستثنائيته. لاحقًا حرّك القارئ الإيرانى عباس سليمى دعوى قضائية بحق "نامجو"؛ لتقضى المحكمة فى 2009 بسجنه خمس سنوات، لكنه لم يُسجن فى ضوء إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية قبل القضية والواقعة كلها بسنوات.
مغامرات موسيقية ومشاحنات دينية
أثارت محاولتا حمزة شكور ومحسن نامجو جدلاً واسعًا وقت ظهورهما المتزامن تقريبا، ولكن تتبّع الأمر يكشف أنهما ليستا الوحيدتين فى مسار الاشتباك مع القرآن موسيقيًّا، وأن بابًا واسعًا من الجدل حول الأمر بدأ ينفتح منذ تسعينيات القرن الماضى، لو سلّمنا جدلاً بأنه كان مغلقًا.
سورة الفاتحة للمطرب التركي عمر فاروق
فى 1992 أصدر التركى عمر فاروق ألبومًا باسم "وراء السماء"/ Beyond the Sky، مُتضمّناً محاولة لتلحين سورة الفاتحة، اعتمد فيها صيغة موسيقية مفتوحة لا تستند لإيقاعات ظاهرة، وإنما نظّم التدفق الإيقاعى فى مقطوعته عبر تتابع فواصل موسيقية مُتجانسة، والاستناد لتقطيع الآيات بطريقة مُنتظمة، دون تخلٍّ عن ضوابط القراءة التقليدية. مرّت التجربة بسلام رغم الاعتراضات، ولم يواجه "فاروق" متاعب قانونية، ربما لأن تركيا وقتها كانت فى مرحلتها العلمانية، قبل أن تسقط فى قبضة المد الأصولى الذى تصاعد مع نجم الدين أربكان فى التسعينيات واستمر حتى الآن مع إردوغان. لكن لم يُكرّر "فاروق" تجربته.
طلال سلامة ومارسيل خليفة وعمر فاروق ومحسن نامجو
فى ديسمبر 1999 حركت النيابة اللبنانية عريضة اتهام بحق مارسيل خليفة، تتضمّن اتهامه بـ«تحقير الشعائر الدينية»، فى ضوء غنائه قصيدة محمود درويش "أنا يوسف يا أبى"، التى يقول فى آخرها: «هل جنيت على أحد عندما قلت إنى رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين». هاج وماج رجال الدين السنة، وتقدّمهم مفتى البلاد وقتها محمد رشيد قبانى، لتتحرّك التهمة ويمثُل "مارسيل" للتحقيق، وقتها قال فى تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية BBC إنه لم يطلب البراءة لأنه لم يرتكب جُرماً، قبل أن تقضى إحدى المحاكم لاحقاً ببراءته؛ تأسيساً على انتفاء سوء النية، وعلى عدم استخدام الآية بكاملها، و"ترتيله لها بخشوع"!
بعدها بسنوات، وتحديدا فى أبريل 2014، شهدت أوركسترا جاكرتا تجربة مُلفتة للمزاوجة بين الموسيقى والقرآن، إذ وضع الإندونيسى فيرو آديانسيا صيغة أوبرالية للآية 13 من سورة الحجرات «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى....»، غناها المطرب فارمان بورناما، بتمكُّن وروحانية يستحلبان طاقة صوته «التينور» اللامع. مرّ الأمر بهدوء تام فى إندونيسيا، وكانت الضجة والاعتراضات من نصيبنا، إذ شنّ عدد من رجال الدين فى مصر والسعودية هجومًا حادًا على التجربة وصُنّاعها.
أوركسترا جاكرتا والآية 13 من سورة الحجرات
فى مارس التالى، اشتعلت أزمة حادة فى البحرين، بدأت من مسابقة مدرسية قيل إن طالبًا مشاركًا فيها قدّم معالجة غنائية لآيات قرآنية، بمصاحبة موسيقى وإشراف اثنين من المُدرّسين، وبينما نفت وزارة التعليم مُستشهدة بتقرير المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذى قال إن الأمر لا يعدو ابتهالاً اقتبس آيتين من سورة الفاتحة، شكَّل البرلمان لجنة تحقيق، وأمرت النيابة بحبس الأربعة احتياطيًّا بتهمة المساس بالدين، رغم أن اللجنة نفسها قالت إن «الطالب كان مُحترِمًا للدين وغير مستهزئ أو مستهتر»، واستمرت الضجّة حتى مارس 2016، لتنتهى بمعاقبة الطالب والأستاذين، وتنفيذ وزارة التعليم ثمانى توصيات للمسابقات والمناهج وتدريس القرآن.
بعدها بشهور (سبتمبر 2017)، كان طلال سلامة على موعد مع أزمة شبيهة، بتداول مقطع مُصوّر من حفل نظمته الهيئة السعودية للترفيه، وشارك فيه بأغنية اسمها "وطن"، يقول فيها: "ما أجملك دين وملك/ ما أروعك ربّ الخلايق فضّلك/ بالسيرة والذكر الحسن/ محروسة من كل الفتن/ ومعوّذة برب الفلق/ من شرّ كل ما خلق"، لتتأجّج موجة هجوم على المطرب السعودى، تتّهمه بغناء القرآن وإهانة المُقدّسات، بينما قال ناشطون ومُغرّدون على "تويتر" إن "سلامة" لم يُغنّ القرآن، واستخدم "معوّذة" بدلاً من "قل أعوذ"، ووضع "كل" ضمن بنية "من شر ما خلق"؛ حتى لا يصبح النص قرآنيًّا بالصيغة التوقيفية، مُتّهمين إمارة قطر بتوظيف حسابات وأشخاص مُوالين لها للنَّيل من المطرب والمملكة، فى ضوء أزمة الدوحة مع الرباعى العربى، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، التى اشتعلت فى يونيو من العام نفسه، لا سيما أن أغنية "سلامة" قديمة ومعروفة منذ 2016.
القارئ الشاب محمد صلاح نافع
فى محاولة أحدث منها، اقترب القارئ الشاب محمد صلاح نافع من صيغة قريبة للتلحين المباشر فى قراءة لسورة "التين والزيتون"، فبينما حافظ على أحكام التلاوة والتجويد بدرجة كبيرة، اقترب فى تعاطيه صوتيًّا عبر تقنيات غنائية من الترخيم والوقفات والركوز والإمالات، لمستوى يكاد يكون غناءً صريحًا للآيات.
بجانب المحاولات السابقة، كانت هناك محاولة قبل عدة أعوام لجوقة "الفيحاء" فى كنيسة "مار مارون الجميزة" بالعاصمة اللبنانية، قدمت خلالها أسماء الله الحسنى مسبوقة بأداء بين الترتيل والغناء للآية 180 من سورة الأعراف "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها..." على طريقة أقرب لـ"الأكابيلا"، التى تستعيض عن الآلات الموسيقية بالأصوات البشرية، مع الحفاظ على خط وترى فى الخلفية، وبقدر تعدُّد المحاولات التى استعرضناها وغيرها، وما سبقتها من أفكار وأحلام لموسيقيين راحلين، سنأتى على ذكر بعضها، يبزغ ويتضخّم السؤال المهم: كيف نقرأ القرآن؟
جوقة الفيحاء في كنيسة مار مارون الجميزة ببيروت
وصية الرسول فى قراءة القرآن
المدخل الأول لتحديد الضابط الشرعى لقراءة القرآن لا يمكن أن يمر من غير طريق النبى، حامل النص وصاحب وصيّته، وقد ورد فى الصحيحين عن أبى هريرة أنه قال: "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن"، وأورد النسائى وأبو داود عن البراء بن عازب قوله صلى الله عليه وسلم: "زيّنوا القرآن بأصواتكم"، وأورد البخارى ومسلم عن أبى هريرة أيضا: "ما أذن الله ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنّى بالقرآن"، ورُوى عن عقبة بن عامر أن النبى قال: "تعلّموا القرآن، وغنّوا به، واكتبوه، فوالله إنه لأشدّ تفصِّياً من المخاض من العقل"، وفى حديث ابن ماجه: "اقرأوا هذا القرآن بحَزَن فإنه نزل بالحَزَن"، وقال حذيفة: "إذا قرأتم القرآن؛ فاقرؤوه بحَزَن"، وروى حذيفة بن اليمان: "اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها"، وتُورد كتب الحديث والسيرة القصة الشهيرة مع أبى موسى الأشعرى، إذ مرّ الرسول وهو يقرأ، فقال له: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود"، فردّ أبو موسي: "لو أعلم أنك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا"، ويُروى أن النبى قرأ سورة الفتح على راحلته فرجَّع فى الحروف، حسب رواية عبد الله بن مُغَفَّل: "رأيت النبى على ناقةٍ له، يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح، فرجّع فيها...".
التغنّى لغويًّا هو تحسين الصوت، وعمليًّا هو التصرف بالمدّ والإطالة والإمالة لتحقيق التطريب، واللحون جمع لحن، وهو أن يتفنّن القارئ فى قراءته ليصدر أصواتًا مصوغة بأساليب معينة من قبيل التغريد والتطريب، والترجيع ترديد الصوت فى الحَلق بكيفية قد ينتج عنها تغيير بنية اللفظ ليقترب من التلحين، والثابت من سابق الروايات وغيرها ممّا يقع فى الباب نفسه، أن النبى دعا للتغنّى بالقرآن، مع ما يحتمله من تصرُّف فى النطق وتلوين للصوت، وحضّ على قراءته بألحان العرب وما فيها من تطريب وإمتاع، ورجّع فى قراءته مُردّدًا الحروف فى الحَلق بما يحتمله الترجيع من إطالة فى أزمان المُدود وتغيير فى الحرف وتردُّده، وبالتبعية تغيير بنية الكلمة.
وتحمل كثير من الروايات الصحيحة أدلّة مباشرة على اختلاف الصحابة حول قراءة القرآن فى زمن النبى وحضرته، منها ما يرويه الطبرى عن زيد بن أرقم أن رجلاً جاء للنبى قائلا: "أقرأنى عبدالله بن مسعود، وأقرأنيها زيد وأقرأنيها أُبى بن كعب، فاختلف قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟" فسكت الرسول، و"علىّ" إلى جانبه، فقال علي: "ليقرأ كل إنسان كما علم، كل حسن جميل"، وورد فى الصحاح الستة أن عمر بن الخطاب سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما تعلّم من النبى، فأخذ بردائه وانطلق به، وبعدما قرأ كل منهما كما يقرأ، قال الرسول لكل منهما: "هكذا نزلت"، وفى الترمذى والنسائى أن رجلا قرأ عند عُمر فغيّر عليه، فاختصما عند النبى، فأجاز قراءة الرجل، فوقع فى صدر "عمر" شىء، وعرف الرسول ذلك فقال: "إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابًا أو عذابًا رحمة"، وحكى أُبى بن كعب رواية شبيهة، وطال الشكّ كُتّاب الوحى أنفسهم فيما ورد من روايات عن سعيد بن المسيب وعبدالله بن أبى السرح وابن خطل، فقال "سيد الناس" عن عليّ: "كان ابن خطل يكتب للنبى، فكان إذا نزل (غفورا رحيما) كتب (رحيما غفورا) فقال ابن خطل: ما كنت أكتب إلا ما أريد"، وأورد الواقدى رواية شبيهة عن ابن أبى السرح، وجاء فى مسند أحمد عن عبدالله ابن مسعود: "تمارينا فى سورة فقلنا (خمس وثلاثون آية أو ست وثلاثون آية)، فانطلقنا إلى رسول الله فوجدنا عليًّا يناجيه، فقلنا إنّا اختلفنا فى القراءة، فاحمرّ وجه رسول الله، فقال عليّ: إن رسول الله يأمركم أن تقرأوا كما علمتم"، وورد فى المُستَدرك وصحيح البخارى بحاشية السندى أن عبدالله بن عمر اختلف مع رجل على سورة (حم) فانطلقا إلى الرسول، فإذا وجهه قد تغيّر، وقال: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف"، ثم أسرّ إلى "علىّ" فقال: "إن رسول الله يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم"، ويكمل ابن عمر: "فانطلقنا وكل رجل منّا يقرأ حروفًا لا يقرؤها صاحبه". وكتب السيرة والحديث تزخر بمئات الروايات الشبيهة.
ما تؤكده سوابق الروايات، أن النبى ترك بابًا مفتوحًا للسعة والتنوع فى قراءة القرآن، حتى أنه قَبِل كل قراءة ما لم تُغيّر المعنى، وعلى تعدُّد وتكرار مرات اختلاف الصحابة واحتكامهم له، لم يقض بخطأ أى منهم، أو يردّ قراءة قارئ، وقال فى أكثر من رواية إنه سأل الله التخفيف حينما أنزل عليه القرآن، فخفَّف حتى وصل لسبعة أحرف، والمعنى نفسه فى رواية على بن أبى طالب: "إن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شافٍ كافٍ".
القراءة بين التوقيف والألحان
فى ضوء السعة التى أقرها النبى، ربما يصعب اعتبار القراءة بالألحان/ المقامات أمرًا مرفوضًا، ولكن الحادث أن كثيرين من الفقهاء لم يُقرّوها، فأفتى المالكية والحنابلة بكراهة التلحين، ويقول الإمام مالك: "لا تعجبنى، إنما هى غناء يتغنّون به ليأخذوا عليه الدراهم"، ورُوى عن ابن حنبل: "الألحان لا تُعجبنى، والقراءة بها بدعة لا تُسمع"، وعلى الجانب المقابل أقرّها الحنفية والشافعية استنادًا لروايات عن عُمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس وعبدالله بن مسعود وغيرهم، وذكر الطحاوى أن أبا حنيفة وأصحابه كانوا يسمعون القرآن بالألحان، وقال محمد بن عبدالحكم: "رأيت أبى والشافعى ويوسف بن عمير يسمعون القرآن بالألحان".
أما فى معنى الغناء والتغنّى لدى الفقهاء، فيقول ابن الأنبارى: "المراد به التلذّذ والاستحلاء له كما يستلذّ أهل الطرب بالغناء، وأُطلق عليه تغنّيًا من حيث أنه يفعل ما يفعل الغناء"، وقال الحافظ بن رجب الحنبلى فى "فتح البارى": "المراد أن يجعله عِوَضًا عن الغناء، فيضرب به ويتلذّذ به ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد غيره ذلك فى الغناء"، وأكد أن هذا المعنى رُوى عن ابن مسعود، وتحدث الحافظ بن حجر عن صفة التغنّى قائلا: "ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم، فإنّ حُسَن الصوت يزداد حُسْنًا بذلك"، ويقول ابن القيم فى "زاد المعاد" عن قراءة الصحابة: "كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة"، ويورد الطبرى عن عُمر بن الخطاب قوله: "من استطاع أن يغنّى بالقرآن غناء أبى موسى فليفعل"، وكلها تؤكد جواز التلذّذ بالقرآن والاستمتاع به والطرب بقراءته، وأيضا جواز الدُربة والتعلُّم، إذ تزيد الاستطاعة بالمعرفة والتجريب والدراسة، ومنها دراسة المقامات والألحان.
مبعث الخلاف بين الفريقين، ومن تبعهما، هو حدود التغنى والتلحين، فبينما يرى المُقرّون أن القراءة بالألحان التزام بأمر نبوى مباشر بالتغنّى والحَزَن وتحسين الصوت، يرى الرافضون أن هذا المسلك يُهدّد سلامة اللفظ العربى ووقار النص القرآنى، انطلاقًا من قولهم بتوقيفية القراءة، وفق ما أقرّه قُرّاء العصر الأول، وعدم قبول التصرّف من قُرّاء العصور التالية.
طبعة حديثة من كتاب الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين
مسألة توقيفية النص تفتح بابًا للتساؤل، فى ضوء اختلافات الصحابة والتابعين فى القراءة، التى يقول فيها طه حسين فى كتابه "الفتنة الكبرى": "تظاهرت الروايات أيضًا بأن المسلمين اختلفوا فى قراءة القرآن أيام النبى نفسه، ولم يكن اختلافهم فى اللهجات، وإنما كان اختلافهم فى الألفاظ، دون أن تختلف معانى هذه الألفاظ. وقد اختصم المختلفون إلى النبى نفسه؛ فأجاز قراءتهم جميعًا، لأنها لم تختلف فى معناها، وإنما كانت تختلف فى ألفاظها"، ويقول الراغب الأصفهانى إن "ابن عباس" كان يُجوّز قراءة القرآن بمعناه، مُستدلاًّ بما رُوى عنه أنه كان يُعلّم رجلاً: "طعام الأثيم" فى الآية 44 من سورة الدخان، فلم يُحسن الرجل نطق "الأثيم"، فقال له: "الفاجر بدل الأثيم"، وأخرجه ابن عبدالبر والباقلانى وآخرون، ورُوى عن أنس عن آية "إن ناشئة الليل هى أشدّ وطأ وأقوم قيلاً" من سورة المُزّمل، أنه قرأ "وأصوب قيلاً"، فقيل له: يا أبا حمزة إنما هى وأقوم، فقال: "إن أقوم وأصوب وأهيأ واحد"، وروى أبوزيد الأنصارى عن أبى سرار الغنوى أنه كان يقرأ: "فجاسوا خلال الديار" بحاء غير مُعجمة، فقيل له إنما هى "جاسوا"، فقال: "جاسوا وحاسوا واحد"، وذهب سفيان بن عُيينة وابن جرير وابن وهب والقرطبى، ونسبه ابن عبد البرّ لأكثر العلماء، إلى أن "المُراد بالأحرف السبعة سبع لغات فى كلمة واحدة، تختلف فيها الألفاظ مع اتفاق المعانى وتقاربها، مثل: هلمّ، وأقبل، وتعال، وإلىّ، وقصدى، ونحوى، وقربى"، وقال أبوالفضل الرازى وابن قتيبة وابن الجزرى إن الاختلاف فى الأحرف السبعة على سبعة وجوه: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، واختلاف تصريف الأفعال من ماضٍ ومضارع وأمر، واختلاف وجوه الإعراب، واختلاف النقص والزيادة، واختلاف التقديم والتأخير، والاختلاف بالإبدال، واختلاف اللغات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإظهار والإدغام. ووفق هذه المسموحات الواسعة لا يُتَوَقّع أن يُحدِث الغناء أو التغنّى اختلافًا أعمق ممّا هو حادث بالفعل بين الرواة وقُدامى القراء.
صراع الرواة.. مدخل إلى تعدُّد الرؤى
كان المُتَّبع فى القرون الثلاثة الأولى أن من قرأ على شيخ تبعه، ومن قرأ على أكثر من شيخ له أن يتبع أحدهم أو يؤلف لنفسه قراءة من بين القراءات، ويقال إن أبا جعفر الطبرى المتوفى 310 للهجرة جمع قراءته من اثنتين وعشرين قراءة، وكان من تلاميذه "ابن مجاهد" الذى اختار القراءات السبع الشهيرة، بينما روى الإمام الهذلى فى كتابه "الكامل" خمسين قراءة، وروى أبوحاتم السجستانى أربعًا وعشرين قراءة، وذكر أبوعبيد وابن جرير أكثر من عشرين قراءة، وقال مكى بن أبى طالب: "ذكر الأئمة فى كتبهم أكثر من سبعين ممّن هو أعلى رتبة وأجلّ قدرًا من السبعة"، ويقول نافع: "قرأت على سبعين من التابعين، فما اتفق عليه اثنان أخذته وما شذّ فيه واحد تركته"، وقد اختلف راوياه "وَرش وقالون" فى أكثر من ثلاثة آلاف حرف من قَطع وهمز وتخفيف وإدغام وغيرها، وقرأ أبوعمرو على "ابن كثير" ويخالفه فى أكثر من ثلاثة آلاف حرف، وأخذ الكسائى من حمزة ويخالفه فى نحو ثلاثمائة حرف، ويقول مكى بن أبى طالب عن سبب تقنين القراءات، إن "الرواة عن الأئمة كانوا فى العصرين الثانى والثالث كثيرًا فى العدد، كثيرًا فى الاختلاف، فأراد الناس فى العصر الرابع أن يقتصروا على القراءات التى تُوافق المصحف، على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به"، وقد انتقد كثيرون من العلماء ابن مجاهد فى تسبيع القراءة، منهم تلميذه ابن أبى هاشم الذى قال فى كتاب "البيان" مُضعِّفًا قراءة ابن عامر: "لولا أن أبا بكر شيخنا جعله سابعًا لما كان إسناد قراءته مُرضيًا، وكان سليمان بن مهران الأعمش أولى منه"، وقال القرطبي: "ما وُجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف فى حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم، فذلك لأن كلاً منهم اعتمد على ما بلغه فى مصحفه ورواه، إذ كان عثمان كتب تلك المواضع فى بعض النسخ ولم يكتبها فى بعض".
وصنّف الدارسون روايات القرآن على صور ستة، منها: "المتواتر" وهو ما نقله جَمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، و"المشهور" ما صحّ سنده بأن رواه العدل الضابط ووافق العربية ولو بوجهٍ ووافق رسم المصحف العثمانى واشتهر عند القراء، وما صحّ سنده وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وأجازوا القراءة بالمتواتر والمشهور فقط، ما يعنى أن قراءات عديدة لأربع صور من الروايات أخرجها المُصنّفون من عِداد القرآن، بينما كانت حاضرة ويُقرأ بها فى زمانهم. ويبدو أن خلاف التوقيف لم يظهر إلا فى القرن الرابع وما بعده، مع بدء التأسيس لعلم القراءات بشكل أكثر تماسكًا على يد ابن مجاهد وبعض سابقيه ولاحقيه، فبينما تشير عموم المصادر إلى أن صحف أبى بكر لم تشتمل على الأحرف السبعة، فإن عثمان بن عفان استند لها فى نسخ مصحفه الجامع الذى أرسله للأمصار، مُوحّدًا القراءة على رسم واحد، إلا ما سمح به اختلاف القراءات نتيجة غياب نَقط الإعجام واحتمال قراءة الكلمة على أكثر من صورة، فساعد رسم المصحف بغياب النقط والشَّكْل على بقاء جُملة قراءات لا تُخالف خطّه، فتعدَّدت قراءات أهل الأمصار، ويُؤكد الرواة والمؤرّخون أنه ترك الصحابة فى زمنه يقرأون على غير ما فى المصحف، وفى هذا تُنسب روايات عدة لعلىّ بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهما.
إحدى مخطوطات مصحف عثمان بن عفان
النظر للمصاحف المتداولة الآن سيكشف عن أمر يمسّ مسألة التوقيف، فطبعة مصر من قراءة حفص عن عاصم عدد آياتها 6236 آية، وطبعة تونس لقراءة قالون عن نافع 6214 آية، وطبعة السودان لرواية الدورى عن أبى عمرو 6204 آيات، أما عن القراءات التى ربما تكون قد نشأت من مشابهة رسم الخط، فمنها ما جاء فى سورة القصص: "فاستغاثه الذى من شيعته"، قرأها سيبويه "فاستعانه"، ومن الروم: "غُلبت الروم فى أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيَغلبون" قُرئت: "غَلَبت الروم من أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيُغلَبون"، ومن يس: "فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، قُرئت "فأعشيناهم" من العشى أى سوء البصر، ومن سورة الأعراف: "ولا تتّبعوا من دونه أولياء"، قرأها مالك بن دينار: "ولا تبتغوا"، ومن سورة ص: "بل الذين كفروا فى عزة وشقاق" قُرئت: "فى غرّة وشقاق"، ومن الأنفال: "يا أيها النبى حرّض المؤمنين على القتال"، جاء فى قراءة حكاها الأخفش: "حرّص المؤمنين..."، ومن التكوير: "وما هو على الغيب بضنين" قُرئت: "بظنين"، ومن الحجرات: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا" قُرئت: "فتثبّتوا"، ومن سورة يوسف: "ليسجنّنه حتى حين"، قرأها ابن مسعود "عتّى حين" وهى لغة هذيل، ومن الرعد: "فأما الزبد فيذهب جفاءً"، قرأها رؤبة بن العجاج: "فيذهب جفالاً"، ومن سورة يوسف: "ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق"، قُرئت: "إن ابنك سُرِّق"، وتشتمل كتب القراءات والتجويد والتراجم، بل وكتب النحو واللغة، على مئات الأمثال لاختلاف القراءات فى ضوء الأحرف السبعة، أو مُشاكلة الرسم وما أنتجته من تنوّع طوال عقود ظلت فيها المصاحف دون نَقط أو شَكْل، ووصل الاختلاف إلى قراءة النبى نفسه، حسب روايات متواترة فى كتب الصحاح، أوردها كتابا "قراءات النبى" لأبى عمرو الدورى والدكتور عطية أبوزيد محجوب، فمن سورة المائدة مثلا: "عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم"، أن النبى كان يقرأها: "من ضل من الكفار إذا اهتديتم"، ومن سورة التوبة: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم"، كان يقرأها: "الذين اتبعوهم"، ومن الذاريات: "إن الله هو الرزّاق ذو القوة المتين"، كان يقرأها: "إنى أنا الرزاق"، كما تؤكد روايات عدّة أن النبى كان يتحلّل من الهَمز فى غالب قراءته، بجانب الإمالة والمدود وبعض السمات فى الوقف والهاء، بشكل قد لا يُطابق ما أوردته كتب القراءات والتجويد لاحقًا.
هل يكره الله الموسيقى؟
ما تقدّم يؤكّد أن مسألة التوقيف، من حيث اعتبارها مانعًا يحول دون القرآن ومقامات الموسيقى، ليست مسألة نهائية قاطعة ومُقيمة للحُجّة على القرّاء، فالقراءات السبع التى وضعها ابن مجاهد، وأوصلها اللاحقون عشراً، وأُضيف لها أربع قراءات قيل إنها شاذة، بينها من الاختلافات ما يطال المدود والإمالة والتفخيم والترقيق والهمز ونطق الحروف والكلمات، بل وبِنيتها أيضًا، وكلها مسموحات للقراءة بالألحان، تضمن نظريًّا ألا يخرج أى قارئ فى أى مقام عن رواية واحدة صحيحة على الأقل من روايات الآية، فلماذا إذن اعترض فريق من الفقهاء على القراءة بالألحان؟
الأقرب للمنطق أن شيئًا من الحذر اكتنف علاقة المسلمين بالغناء، ربما لأنه ارتبط فى جانب كبير منه بغناء الأنصاب والحانات فى العصر الجاهلى، وأنهم ابتغوا بالرفض وسيلة لتنقية الدين من أمر يرونه شبهةً، لكن المشكلة أن هذا المسلك الفقهى لم يعتمده القرآن ولا الرسول، إذ لم ترد لفظة الغناء باشتقاقاتها فى القرآن، ولم يرد عن الرسول قولٌ فصل فى مسألة تحريمه، وبينما يستند المُفسّرون والفقهاء لتأويلات، منها: "ومن الناس من يشترى لهو الحديث" لقمان 6، و"اجتنبوا قول الزور" الحج 30، و"الذين هم عن اللغو معرضون" المؤمنون 3، وآيات أخرى شبيهة، مُفسّرين لهو الحديث وقول الزور واللغو باعتبارها الغناء، أو يستندون لحديث ابن خطل وجاريتيه اللتين كانتا تهجوان الرسول، وقال يوم فتح مكة "اقتلوهم ولو تعلّقوا بأستار الكعبة"، متجاهلين أن الأمر مَردُّه الهجاء والسبّ وليس الغناء، فإن كتب الصحاح فى الوقت نفسه تورد روايات عن الرسول تُجيز الغناء، منها ما روته عائشة: "دخل علىّ رسول الله وعندى جاريتان تُغنّيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، فدخل أبوبكر فانتهرنى وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله! فأقبل عليه رسول الله فقال: دعهما"، رواه البخارى ومسلم، وقالت عائشة أيضًا: "كانت جارية تغنّى عندى، فاستأذن عمر، فلما سمعته الجارية هربت، فدخل النبى يبتسم، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله، كأنه يسأله عن سبب ضحكه، فقال: كانت جارية تغنى فلما سمعت خطواتك هربت، فقال عمر: لن أرحل حتى أسمع ما سمع رسول الله، فاستدعى الرسول الجارية فأخذت تغنّى وهو يسمعها"، ورُوى أن الرسول سمح بالغناء فى زواج فاطمة، وأنه سأل عائشة فى زواج بعض الأنصار: "هل أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم، قال: فبعثتم معها من يغنى؟ قالت: لا، قال أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟"، وروى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد أن امرأة جاءت إلى رسول الله فقال: "يا عائشة أتعرفين هذه؟ قالت: لا يا نبى الله، فقال: هذه قينة بنى فلان، تحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، قال: فأعطاها طبقًا فغنّت"، وروى ابن عبد ربه أن النبى مَرًّ بجارية تغنى: "هل علىَّ ويحكم إن لهوت من حرج" فقال: "لا حرج إن شاء الله"، والثابت أنه غنّى وترنّم مع الصحابة يوم حفر الخندق فى غزوة الأحزاب، وكان يمدّ صوته ويرجّعه، ويقول الدكتور شوقى ضيف فى كتاب "الشعر والغناء فى المدينة ومكة": "ظل الغناء بالمدينة فى عصر الرسول والخلفاء الراشدين، ولم تكن تسرف فيه، إلا أنها على كل حال كانت تأخذ منه بنصيب، وهناك أحاديث كثيرة تؤكد أن الرسول لم يكن يُحرّم الغناء، بل على العكس كان يُبيحه".
كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي
فى مقابل من يُحرّمون الغناء من الفقهاء، وهم كثير، يقول أبوحامد الغزالى فى باب "آداب الوجد والسمع" بكتاب إحياء علوم الدين، إن سماع الصوت الطيب من حيث أنه طيب لا ينبغى أن يُحرّم، مؤكّدًا أنه "حلال بالنص والقياس" مستشهدًا بسماع النبى لجاريتين تغنّيان كما أورد البخارى ومسلم من حديث عقيل عن الزهرى، وقال فى موضع آخر: "من لم يُحرّكه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فاسد المزاج ليس له علاج"، وبينما يُرجّح البعض سبب التحريم من جانب فريق الفقهاء لدخول الموسيقى والإيقاعات على الغناء، فإن روايات أخرى تشير إلى أن الرسول استمع للغناء من القيان بالموسيقى والإيقاع، وأنه أعطى إحداهن طبقًا لتدقّ عليه وتغنّى، ولعل السبب الحقيقى للتشدُّد مع الأمر ارتباط الموسيقى والغناء بمظاهر الوثنية والجاهلية، والرغبة فى مجافاة هذه المظاهر، كاجتهاد من أصحاب هذا الرأى، لا يقوم عليه دليل قاطع من الكتاب والسنة.
المهم فى الأمر، أنه رغم المرويّات والآراء المتواترة، فإن الغناء لم ينقطع عن العصر الأول، وعُرف من المُغنّين فى هذه الفترة وما لحقها: طويس المولود بالمدينة سنة 11 للهجرة وهو أول مغنٍّ فى الإسلام، إذ مارس الغناء فى عصر الخُلفاء بعدما تعلّمه من أسرى الفُرس، وهو أول من أدخل العود الفارسى للغناء العربى، وتتلمذ على يديه كثيرون أشهرهم ابن سريج والدّلال نافذ ونؤوم الضّحى وفند وسعيد بن مسحج، والأخير التقط النغم من بعض رجال الفرس الذين استقدمهم عبدالله بن الزبير لترميم الكعبة وكانوا يغنّون بالفارسية، وأيضًا سائب خاثر، الشاعر والمغنى الذى عاش فى عصر الراشدين، وتعلم الألحان الفارسية من أسرى الحروب، وهو أول من ابتكر الإيقاع المُسمَّى بالثقيل الأول، ومِن أشهر تلاميذه عزّة الميلاء وجميلة ومَعبد، وممن مارسوا الغناء فى العصر الأول بالمدينة سيرين بنت شمعون، أخت السيدة مارية القبطية وزوجة شاعر الرسول حسان بن ثابت وأم ولده عبدالرحمن، التى وفدت للمدينة بعد صلح الحديبية فى 7 هجرية، وحنين الحيرى، وابن محرز، ورحمان، ومحمد ابن عائشة، و"حبابة" التى عاشت بالمدينة فى القرن الأول، والغريض المولود فى مكة وتلميذ ابن سريج، وجميلة جارية بنى سليم التى عاشت بالمدينة فى القرن الأول وتعلّمت الغناء من سائب خاثر وابن محرز وابن عائشة، وابن جامع المولود فى مكة زمن الأمويين، وعُريب، وإسحاق الموصلى، و"بذل"، أشهر مُغنّيى العصر العباسى الأول.
القرآن لا يُعادى الإيقاع
أغلب الظن أن فريقًا من الفقهاء التبس عليهم الأمر فى مسألة القرآن والإيقاع، فمع اتهام المشركين للقرآن بأنه يُحاكى الشعر، وارتباط ذلك فى صورته البدائية بالإيقاع، رأوا مجاوزة الإيقاع إلى نمط مُطلق وغير مقيد من القراءة. لكن النظر فى الأمر يكشف أن القرآن نفسه لا يُعادى الإيقاع، إذ اعتمد تردُّدات وتمثُّلات عديدة لإيقاعات الشعر فى كثير من آياته، منها: "قل هو الله أحدْ" مع الوقف، و"إنّا أعطيناك الكوثرْ"، و"قل لو كان البحر مِدادا"، وغيرها من النماذج التى تشيع على امتداده، كما اعتمد التسجيع القريب من نمط التقفية الشعرية، وهو بناء إيقاعى موسيقى بالأساس، والتوازن السطرى كما فى سُوَر الشمس والكوثر والتكاثر وغيرها، إضافة إلى تردُّدات الفواصل المُشاكلة لتردّدات فواصل الإيقاع، مثال آية "فبأى آلاء ربكما تكذبان" فى سورة الرحمن، التى تتردّد 31 مرّة على فترات شبه متساوية، فى مسلك إيقاعى لا تُخطئه الأذن.
عرفت الثقافة العربية الإيقاع فى الشعر، الذى استقرأه الخليل ابن أحمد الفراهيدى بالقرن الثانى للهجرة، وقعَّد للبحور ووضع الدوائر العروضية، ومن مدخله بدأ الغناء لدى طويس وسائب خاثر وعزة الميلاء وابن مسجع وغيرهم، ثم ما لبثوا أن ابتكروا الغناء المُتقن الذى يفارق فيه المُغنّى وزن الشعر إلى إيقاع مُستقل للغناء، لتبدأ مسيرة تطوير الإيقاع وصولاً إلى الفارابى والكندى وابن سيناء وصَفىّ الدين الأرموى.
نص عن المزمار من كتاب الفارابي والدوائر الإيقاعية من كتاب الأدوار للأرموي
الإيقاع لغة من الوقع، وهو الضرب بالشىء، وأوقع المغنى أى بنى ألحان الغناء على مواقعها وموازينها، يقول الفارابى فى كتابه "الموسيقى الكبير": "إن الإيقاع هو النقلة على النغم فى أزمنة محدودة المقادير والنِّسَب"، وقال ابن سينا فى فصل الإيقاع من بحث الموسيقى بكتاب النجاة والإيقاع: "كل نقرة ينقل عنها إلى نقرة أخرى، فإما أن تنتقل فى مدة لا تمحى فى نقلها عن الخيال صورة الأولى حتى تكونا فى الخيال كالمتوافيين معُا، وإما ألّا يكونا"، ويُعرّف صفىّ الدين الأرموى الإيقاع فى رسالته بأنه: "جماعة نقرات بينها أزمنة محدودة المقادير، لها أدوار متساوية الكمية على أوضاع مخصوصة، ويُدرَك تساوى تلك الأزمنة والأدوار بميزان الطبع السليم".
فى العصر الأموى تنوّعت الإيقاعات لتصبح ستة: الثقيل الأول، والثقيل الثانى، وخفيف الثقيل، والرَّمَل، وخفيف الرمل والهزج، وأُضيف لها لاحقًا خفيف الثقيل الثانى، وخفيف الهزج، لتصبح ثمانية إيقاعات. ومع ثباتها اندفع الموسيقيون لتوليد إيقاعات جديدة وفق نظرية الدوائر العروضية لدى "الخليل"، وممن أجادوا فى ذلك الفارابى وإخوان الصفا والأرموى، ووصلت اجتهادات الابتكار والتوليد فى أحد الإيقاعات إلى 176 نقرة تم تركيبها حسب قواعد الفارابى، وسُمّى هذا الإيقاع "الفتح"، وقاد تطوّر الموشّحات فى اتجاه آخر بابتداع الإيقاعات المُتناوبة ضمن الموشّح الواحد، ثم بروز امتداد إيقاعى آخر عُرف بـ"مراسيم زرياب"، إذ أصبح العمل يتشكّل من مجموعة ألحان على إيقاعات مُتنوّعة، عُرفت بـ"النوبة الأندلسية"، وأنتج التوليد مئات الإيقاعات غير المُتماثلة، اعتمادًا على أسلوب التوليد الرياضى الذى ابتدعه "الفارابى" بمزاوجة الوحدات الإيقاعية الصغيرة بحسبة التبديل والتوفيق، تأسيسًا على نظرية الدوائر العروضية فى الشعر، وقد وثّق أستاذ الموسيقى السورى أحمد رجائى أغا القلعة 342 إيقاعًا مُتداولة فى الموسيقى العربية، والأمر يفتح الباب لتخيُّل إمكانية إنتاج مزيد من الإيقاعات مختلفة الأطوال، وربما إنتاج إيقاعات مفتوحة غير مُتكرّرة، تنسف فكرة التواتر والتكرار المُتتابع التى تُخيف الفقهاء من الموسيقى.
فى المسار ذاته، ابتدع صفىّ الدين الأرموى فى كتابه "الأدوار" طريقة لتوليد المقامات، قياسًا على توليد الفارابى للإيقاعات، أى بآلية الدوائر العروضية أيضًا، عبر إعادة ترتيب الأجناس الموسيقية بتبديل وتوفيق، لاستنباط عقود ومقامات جديدة، ويتحدّث الدكتور أغا القلعة فى بحث "الأجناس الموسيقية المتداخلة" الذى قدمه لمؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة 1992، عن أساس جديد للتوليد الموسيقى اللا مقامى، عبر تجنيس المقامات الأساسية والفرعية بمُزاوجة الأجناس والعقود، لاستنباط مقامات جديدة للموسيقى الاصطناعية، ربما تصلح للغناء والقراءة بالتجريب والاستساغة، ويشير "القلعة" إلى أن عدد المقامات التقليدية الناتجة من تركيب ثلاثة أجناس فقط ضمن المقام الواحد يصل إلى 1332 مقامًا، وأننا لو قبلنا الامتداد المطلق للمساحة الصوتية وعدم تحديد عدد الأجناس، فإن النواتج المحتملة ستُصبح أكبر، وقد تصل إلى آلاف المقامات.
الجلىّ من تتبّع الأمر، أن المقامات ليست علما مُبتَدَعًا، وإنما استقراء للقيم الموسيقية والنغمية الشائعة فى غناء الناس وقراءتهم للقرآن، كما استقرأ أبوالأسود الدؤلى قواعد النحو، واستقرأ الخليل إيقاعات الشعر. أى أنها علم سابق على القرآن، من حيث كونها قِيمًا موسيقية مُوزّعة فى الكلام والغناء، ومتنامية على امتداد قرون، لكن اللبس بشأنها حدث مع التقعيد الذى صنع منها معمارًا مُتماسكًا وجَليًّا أمام الفقهاء، فشعروا تجاهه بشىء من الريبة والرهبة، لم يشعروه وهو مُوزّع ومتناثر فى كلامهم وقراءتهم، وهى النقطة التى يُفسّرها المؤرخ الموسيقى كمال النجمى فى مقال "عظماء المُقرئين ومستقبل التغنّى بالقرآن"، الذى نشرته مجلة الهلال فى عددها التاريخى عن القرآن (ديسمبر 1907)، بقوله: "نشأ التغنّى فى مكة والمدينة نشأة طبيعية فى ظل القرآن، ولكن الحدود الصوتية الفنية التى كان يتحرك فيها المتغنّون جعلت التغنى أقرب إلى المصحف المُرتّل الذى نسمعه الآن، فلم يكن مُتاحًا للمتغنى فى الصدر الأول إلا حيّز معلوم شديد البساطة تتحرك فيه أوتار حناجر القراء. كان الغناء العربى نفسه غير موجود بكيانه الضخم الذى لم يتكامل إلا بعد منتصف القرن الثانى. فلم يكن معقولا والأمر كذلك أن يتغنى المتغنون بالقرآن فى الصدر الأول إلا بما أُتيح لهم من بسائط العلوم الموسيقية، فى أبعد صورها عن التعقيد والتركيب والتكثيف، فكان مدّ الصوت وترقيقه ورفع طبقته بلا دُربة صوتية ولا معرفة موسيقية"، ويتابع النجمى مقاله: "فلمّا اتّسعت علوم الغناء والموسيقى؛ اتسع القراء فى التغنى. وبدلاً من الأصوات الفطرية غير المُدرّبة ظهرت أصوات مُدرّبة مصقولة، تتغنّى بإحكام ومعرفة بمواقع النغم".
الدكتور طه حسين والدكتور شوقي ضيف والمؤرخ الموسيقي كمال النجمي
نقطة أخرى فى الإيقاع، يمكن التقاطها عبر مسألة الاقتباس من القرآن، إذ أجاز الفقهاء الأمر مع النثر والشعر، ومنها ما نقله تاج الدين السبكى عن أبى منصور البغدادى: "أبشـر بقـول الله فى آياته/ إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، وأورد السيوطى فى كتاب "الحاوى للفتاوى" أمثلة للأمر، وقال المرجع الشيعى اللبنانى محمد حسين فضل الله إبان قضية مارسيل خليفة: "لا نجد أية إساءة فى تضمين القصيدة آية قرآنية، كما لا نجد أن تلحين القصيدة المتضمنة للآية يمسّ قداسة القرآن أو يسىء إليه"، وهو ما يدفع لإعادة النظر فى شأن الغناء والتوقيع، فإذا جاز الاستشهاد بالقرآن فى الشعر، مع ما يحمله هذا من إنزاله على أوزان الشعر وإيقاعاته، وإذا كان القرآن نفسه لا يكره الإيقاع ولم يقاطعه، فإن كراهة القراءة بالألحان والمقامات من باب أنها تُنزل القرآن على الإيقاعات وتسلسل النغمات، لا وجه لها فيما يسوقه المعترضون.
يقول الإمام ابن رجب: "قراءة القرآن بالألحان، بأصوات الغناء وأوزانه وإيقاعاته على طريقة أصحاب الموسيقى، رخّص فيها بعض المتقدمين؛ إذا قُصد الاستعانة على إيصال معانى القرآن إلى القلوب للتحزين والتشويق والتخويف والترقيق"، وبينما يقول ابن تيمية فى جامع المسائل بمجموع الفتاوى: "أما ما أحدث بعدهم من تكلُّف القراءة على ألحان الغناء، فهذا يُنهى عنه عند جمهور العلماء، لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه للقرآن بالغناء"، فإنه هو نفسه فى فتوى أخرى يُزهّد الناس فى أحكام التجويد، قائلا: "ولا يجعل هِمَّته فى ما حُجِب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة فى خروج حروفه وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمدّ الطويل والقصير والمتوسط، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه"، ناسفًا فكرة التوقيف فى قراءة الآيات، وفاتحًا الباب جزئيًّا للتصرّف النسبى المتفاوت بتفاوت قدرات الناس ومعارفهم.
أذن مُصغية ولسان معترض
فى محاولة للاقتراب من الحالة الراهنة لجدلية علاقة القرآن بالألحان ضمن بنية المجتمع بأطيافه وتنوعاته، أعددنا استطلاعًا مُكثّفًا للرأى، تضمّن خمسة أسئلة عن وجهة النظر فى الموسيقى والغناء، وقبول قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية، وفكرة تلحين القرآن بنغمات اصطناعية، أو بالصوت البشرى وحده، وسبب الرفض أو القبول، والقارئ المُفضّل ومرجع تفضيله، وشمل الاستطلاع عيِّنة قطاعية من 150 شخصًا.
توزعت العينة التى توصلنا لها عبر عدد من المُحرّرين ومُراسلى الصحف بالمحافظات وبعض موظّفى الأوقاف والفاعلين بالحقل الفنى من هواة ومُحترفين، بواقع 50 شخصًا من قُرّاء القرآن والمنشدين والأئمة والخطباء من اتجاهات فكرية ومذهبية مختلفة، بمراعاة تنوع المستويات العمرية وفئات التعليم من المتوسط حتى الدراسات العليا، و50 من الجمهور العادى من الجنسين بتنوّع الأعمار والتعليم والوضع الاجتماعى والخلفية الريفية والحضرية، و50 من المطربين والملحنين ودارسى الموسيقى والغناء، بدءًا من الطلبة حتى أساتذة الجامعة والعاملين بالفرق الحرّة والرسمية.
لم تأت النتيجة النهائية للاستطلاع صادمة أو مفاجئة، ولم تنحرف عن مستوى الاستقطاب المسيطر على النظر للموضوع فيما يخص الموسيقى والغناء، أو قراءة القرآن بالمقامات، إذ قال 70% من إجمالى العيّنة إنهم لا يرون فى الموسيقى والغناء شيئًا مخالفًا للدين، ولكن توزّعت هذه النسبة بين فئات العيّنة بشكل مختلف، فبينما رأى 40 من شريحة القراء والمنشدين والخطباء الموسيقى حرامًا، بنسبة 80% من حجم العيّنة الفرعية للشريحة الأولى، اتفق معهم 5 فقط من الجمهور العادى بنسبة 10% من عينة الشريحة الثانية، ولم يتفق معهم أى شخص من شريحة دارسى الموسيقى ومُمارسيها، وجاء الأمر معكوسًا تقريبًا فى مسألة قراءة القرآن بالمقامات، إذ عارضها 90 شخصًا بنسبة 60% من العينة الإجمالية، بواقع 40 من الشريحة الأولى و50 من الثانية، وأقرّها 60 شخصًا بنسبة 40%، بواقع 10 من الشريحة الأولى و50 من الشريحة الثالثة.
فيما يخصّ تلحين القرآن، رفضت الشريحة الأولى من العينة الأمر بشكل كامل، سواء باستخدام آلات أو الاكتفاء بأصوات البشر، وقَبِلَها 10 أفراد من الشريحة الثانية شريطة تجنّب الآلات، وقَبِلتها الشريحة الثالثة كاملة، لكنها انقسمت بين قبول توظيف الموسيقى الاصطناعية بواقع 10 أفراد، والاكتفاء بالصوت البشرى بـ40 فردًا، لتخرج النسبة النهائية بـ60% للرفض التام، و33.5% للقبول المشروط بتجنّب الموسيقى، و6.5% تقريبًا للقبول المطلق بحضور كامل للآلات والتوزيعات.
الشيخ مصطفى إسماعيل
أغلب الأسباب التى ساقها المُعترضون على تلحين القرآن تلخّصت فى تصوّرهم لحُرمة الأمر بنصوص دينية، وتوقيفية القراءة القرآنية وفق الروايات المعتمدة، ورؤيتهم لقدر من التعارض بين جلال النص وفكرة التلحين، أو خوفهم من مغامرات الموسيقيين وخيالهم، أما الموافقون على الأمر فتوزّعت آراؤهم بين عدم وجود نص واضح يحرّم ذلك، وتأثير التلحين فى تحسين الصوت وجودة التلاوة، والأثر النفسى والروحى الذى ستُحدثه الموسيقى فى قراءة القرآن وتلقّيه، أما فى السؤال الأخير عن القارئ المُفضّل جاءت القائمة بالترتيب: عبد الباسط عبد الصمد 40 شخصًا بـ26.6%، ومصطفى إسماعيل 35 بنسبة 23.3%، ومحمود الشحات أنور 31 بـ20.6%، والسيد متولى 21 بـ14%، ومشارى راشد العفاسى 9 بـ6%، وعبد الرحمن السديس 6 بـ4%، وسعود الشريم 5 بـ3.3%، وماهر المُعيقلى 3 أشخاص بـ2%، ودارت أغلب أسباب التفضيل حول إجادة التعبير بالصوت عن المعنى، والتطريب والإمتاع، وحالة الشجن التى يثيرها فى نفس السامع.
عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل وسيد متولي ومحمود الشحات أنور
فى خيارات الإجابة عن السؤال الأخير، وضعنا ثمانية أسماء تمثل اتجاهين: مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد والسيد متولى ومحمود الشحات أنور، لفئة قراء المقامات الموسيقية والتطريب، أما على الجانب المقابل، وفى ضوء صعوبة أن تجد قارئًا مُقاطعًا للمقامات بشكل كامل، وقع الاختيار على عبدالرحمن السُّديس وسُعود الشريم ومشارى راشد وماهر المُعيقلى مُمثّلين للقُرّاء البعيدين عن المسلك المقامى أو المُلامسين لحيّز الحياد الموسيقى ضمن بنية ترتيل مُنتظمة إيقاعيًّا، مع خُلوّ واضح من التلوينات وتذبذبات الخزينة النغمية لمصفوفة الموسيقى المقامية، لكن المفارقة فى إجابات المشاركين أنه فى مقابل رفض 60% لتوظيف المقامات فى القراءة، جاءت تفضيلات 84.5% تقريباً فى صالح فريق التطريب المقامى، وانحازت أسباب التفضيل للطاقة التعبيرية والإمتاع والشجن أو التَّحْزِين، وهى قِيم موسيقية غنائية بالأساس، حتى لو منحناها أسماء أخرى، ما يشير إلى قدر من التناقض يُخيّم على الوعى العام بالمسألة، حتى بين قطاعات من المُتخصّصين فى علوم الدين والموسيقى، وليس عامة الجمهور وحدهم، وكأنك أمام أُذن تُصغى وتستحسن، ولسان يرفض ويستهجن، ربما فى ضوء التباس مفاهيمى وغياب للتحديد والوضوح المعياريين فى التسمية والتوصيف، سواء لمدارس التلاوة، أو للموسيقى وعلوم المقامات، أى أننا فى هذه النقطة أمام سوء فهم بالدرجة الأولى، أكثر من كوننا أمام قناعات حقيقية مُؤسَّسة على ظهير معرفى.
القارئ الشاب محمود الشحات أنور
تجربة حيَّة لمُؤاخاة القرآن والموسيقى
المصادفة وحدها قد تقودك لصيد ثمين. كأن تلتقى أحد الأصدقاء القدامى دون موعد أو ترتيب، ووسط عشرات الموضوعات المثارة فى الحوار، تشير إلى الموضوع الذى يشغل تفكيرك، وتواصل العمل عليه بحثًا وقراءة، متحدّثًا بنشوة وشغف عن تتّبعك الشاق لرحلة الوفاق والشقاق بين القرآن والموسيقى طيلة أربعة عشر قرنًا، وتحكى عن تجربة فيلم "بابا عزيز" وما فيها من مُزاوجة حوارية شجية بين لحن موسيقى ولحن قرآنى، فيُفاجئك صديقك المستمع بترقّب واهتمام، بأن له صديقًا غيرك يشغله الأمر، لكنه يُمارسه بالفعل، مُستغلاًّ دراسته وممارسته للموسيقى، صانعا شيئًا شبيهًا بما تحكيه عن تلاوة "بابا عزيز"، فتشعر وكأنك مسافر وضع إحدى قدميه فى محطة الوصول، وتطلب لقاء هذا الشريك البعيد فى الهاجس نفسه، فيستأذنك فى سؤاله، وتنصرفان على وعد منه بتحديد مقابلة فى أقرب فرصة، حال موافقته!
مشاري راشد العفاسي وعبد الرحمن السديس وماهر المعيقلي وسعود الشريم
بعد يومين هاتفنى مُبشّرًا بقبول صديقه للقاء، وحدّد موعدًا فى اليوم التالى بأحد مقاهى وسط القاهرة، التقينا وتعارفنا وبدأ الحوار، تحدثنا عن أعلام قراءة القرآن، وتاريخ المقامات والموسيقى الشرقية، وما يتردَّد تاريخيًّا عن محاولات بعض الموسيقيين للاشتباك مع النص تلحينًا وتوقيعًا، كان الحديث عموميًّا بطيئًا، دون اقتراب من مسألة بحثى عن الموضوع، ودون حديث من الصديق الجديد عن تجربته، لكننى ألمحت لتجارب التفاعل الموسيقى مع النص القرآنى فى إيران وتركيا وتونس ولبنان وغيرها، دون أسماء أو تفاصيل، وعلى امتداد الحوار الذى استمر ساعتين بدا الوافد الجديد مُتحفّظًا نوعًا ما، رغم قدر من الفضول كان يلمع فى عينيه بين وقت وآخر، لكننى كنت أعلم منذ البداية أن اللقاء الأول قد لا يصل بنا لشىء، تبادلنا أرقام الهواتف وافترقنا على وعد بلقاء آخر.
منذ اللحظة التالية لانتهاء اللقاء، قرّرت أن أهدأ أسبوعًا ثم أدعوه لمقابلة ثانية، لكنه لم يترك لهذا السيناريو فرصة للاكتمال، إذ بادر فى اليوم التالى بمهاتفتى طالبًا اللقاء، حدّدنا موعدًا والتقينا بمفردنا هذه المرة. كان التخلّى عن الصديق المشترك مؤشّرًا إيجابيًّا على الارتياح وتطوّر الحوار فى الاتجاه المنتظر، وهو ما حدث بالفعل، إذ انطلق صديقى الجديد من تلقاء نفسه مُتحدّثًا عن افتتانه بفكرة المزاوجة بين القرآن والموسيقى، وقبوله التام لها، وحجم ما يمكن أن يُحدثه العناق بين التلاوة والعزف من ثراء للنص والنغم، فتحت هاتفى وأسمعته المقطع الحاضر معى دومًا من فيلم "بابا عزيز"، اندهش ولمعت عيناه مع تقدُّم القارئ فى آيات "آل عمران"، وتقدّم العازف على سُلّم البياتى، وما إن انتهى حتى بدت عليه حالة ارتياح وسلام نفسى. عبّر عن استغرابه من أنه لم يسمع المقطع من قبل، ثم صمت برهة قبل أن يُصرّح بأن له هو وأصدقاؤه تجربةً شبيهة، وأنهم يُنظّمون لقاءات دورية أشبه بـ"البروفات" لتلك التقنية، تحلّيت بالجرأة والطمع وطلبت مشاركتهم أحدها، وكان أكثر جرأة وكرمًا ممّا أتوقع، ووافق على الأمر.
فى موعد لاحق التقينا بشارع قريب من منزله، واصطحبنى إلى المكان الذى يلتقى فيه شركاء التجربة فوق سطح المنزل، وصلنا وتتابع وصول الباقين، اكتملت المجموعة وأمسك كل منهم آلته، "محمد" صاحب الدعوة على "الكمان"، مينا على الناى، آسر على العود، ومصطفى للقراءة والترتيل والإنشاد (الأسماء مستعارة حسب رغبتهم) طلبت سماع التجربة التى حدّثنى عنها، فأشار لـ"مينا" الذى بدأ العزف على مقام الصبا، وانطلق "مصطفى" بآيات من سورة مريم على المقام نفسه، وعلى مدى 10 دقائق كاملة تبادل القارئ والعازف حوارًا صوتيًّا موسيقيًّا، انتقل مصطفى من درجة الدوكاه إلى درجة الرست، مُتبدِّلاً من الصبا إلى الرست والنهاوند، بينما تبدَّل "مينا" فى درجة الدوكاه بين الحجاز والكرد، لم تَبدُ التجربة ناضجة بدرجة كاملة، لكنها لم تَخلُ من إحساس ذكى وشعور مُتّقد.
القارئ الراحل الشحات محمد أنور
أسأل عن سبب خوض المغامرة، فيرد "محمد" مبتسمًا بأن "مينا" صاحب الفكرة، إذ كان له جارٌ يتعمّد رفع صوت القرآن كلما أمسك الناى وبدأ تدريبه اليومى، ولاحقًا أصبح "مينا" يتعمّد الوقوف فى النافذة المجاورة والعزف من طبقة الجواب ليثير ضيق جاره كما يفعل معه، مُعلّقًا بابتسامة ساخرة: "مسيحى طائفى"، يضحك "مينا" ويلتقط طرف الحوار، قائلاً إنه اقترب من الأمر بالمصادفة البحتة، إذ كان يتزامن الموعد اليومى الذى خصَّصه للتدريب مع تشغيل أحد الجيران لتسجيلات قرآنية للشيخ الشحات محمد أنور، كما عرف لاحقاً، ومرة بعد مرّة بدأ يضع يده على القيم الموسيقية والتسلسلات النغمية والمقامية فى القراءات التى يسمعها، ويحاول مُحاكاتها، ثم عرض الأمر على "محمد" والمجموعة، لتبدأ تجربتهم معًا.
السؤال الأكثر إثارة كان بشأن "مصطفى"، الشاب العشرينى الذى درس فى أحد معاهد القراءات، وتعلّم الإنشاد على يد منشد معروف، وفى سياق طبيعى يُفترض أن يكون معارضًا لتلك التجربة، وهو ما يؤكّده "مصطفى" بالفعل، قائلاً إنه احتاج وقتًا طويلاً حتى يستوعب الفكرة ويستسيغها، وما زال يشعر بشىء من الحرج والخوف، لكن ما يُطمئنه أنها تجربة شخصية يتفق أطرافها على عدم إعلانها، وأنها تتم من أرضية إجلال للقرآن وسعى لاستكشاف عظمته، وليس بغرض إهانته أو الانتقاص منه.
قضيت مع المجموعة ثلاث ساعات كاملة، منعونى من التصوير أو حتى تسجيل الصوت، مفضّلين أن تظل تجربة شخصية خالصة، لكن خلال تلك الساعات استمعت لسبع تجارب مُتنوّعة، إحداها اقتربت من صيغة يمكن القول إنها محاولة لإقامة جُملة موسيقية موازية ومساوية للجملة اللغوية، فى قالب يتلمّس التلحين على أرضية تعبيرية، وكانت الحصة الأكبر من التجارب الباقية ثنائيات مقامية يشترك فيها القارئ مع إحدى الآلات على طريقة "بابا عزيز" أيضًا، مع قدر من الانتقالات المحسوبة، بينما الأكثر إدهاشًا فى القائمة تجربتان كان القارئ يُحلّق فيهما وفق بنية مقامية ثابتة، بينما كانت الآلات الثلاثة (العود والناى والكمان) تلعب ثلاثة خطوط/ ألحان مُستقلة فى الخلفية، فى صيغة "بولوفونية" مُتعدِّدة الأصوات، تتحاور كل منها مع القارئ، وتتحاور كلها معًا، صانعة بناء معماريًّا مُتعدِّد الطبقات، ومُتعدِّد الدلالات أيضًا.
بعد أسابيع، التقيت مُطرباً صديقاً من المعروفين فى الوسط الفنى وبين المثقفين. ناقشته فى الأمر ونقلت له تجربة الشباب الموهوبين؛ فاجأنى بأن السؤال نفسه ألحّ عليه، واستجاب للإلحاح فى عدّة محاولات، ثمّ أسمعنى مشروعاً تناول فيه سورة "الكوثر" على لحنٍ بسيط من السلَّم الخماسى "النوبى". صحيح أنه رفض توثيق التجربة أو الإشارة إليه، لكن تجربته الإضافية أكّدت لى أن المسألة أكثر انتشاراً وشَغلاً للاهتمام، وأن المحاولات أوسع وأعمق ممّا قد نظن جميعاً، أو قد يتوهّم المُعترضون!
الشيخ سيد مكاوي في سورة الضحى
مقامات مُقدّسة.. قرّاء ومُطربون فى دولة القرآن
على صعيد رحلة التجاور القرآنى الموسيقى، بدا مع الاقتراب من القرن العشرين أن تحوّلاً كبيرًا يتشكّل فى علاقة القرآن بالموسيقى، لم يكن تحوّلاً باتجاه الدمج والمؤاخاة، إنما كان أقرب للإزاحة التى تُجسّر المسافة بين الحقلين، فغادر فريق من الشيوخ مجالس القراء والمنشدين إلى مجالس الملحنين والمطربين، كان فى طليعتهم الشيخ إسماعيل سكر، والشيخ حسن جابر، والشيخ إبراهيم الفرّان، والشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب، والشيخ محمد عثمان، والشيخ يوسف المنيلاوى، والشيخ أبوالعلا محمد، والشيخ درويش الحريرى، والشيخ سلامة حجازى، والأخير بدأ رحلته بتعلّم القرآن وقراءته، وعمل مؤذّنًا ومنشدًا فى مسجد الأباصيرى بالقاهرة، قبل أن يتحوّل للغناء ويصبح أحد رواد المسرح الغنائى، بتشجيع عبده الحامولى وفتوى بالإجازة من صديقه الإمام محمد عبده، وأضحى "حجازى" بهذا التحوّل واحدًا ممن قادوا الغناء لمسالك تعبيرية، بجانب هيكله التقليدى المُستند إلى التطريب والزخارف والحليات، عبر توظيف الموسيقى لشرح وتفسير الكلام والاشتباك معه، ومحاورته والدوران حوله، بما يخلق أثرًا نفسيًّا مرتبطًا بمُراد الكلام ومحموله ومعانيه العميقة، واستمرّت خطوات التعبير على أيدى سيد درويش وزكريا الحجاوى وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب ومحمد القصبجى ورياض السنباطى وسيد مكاوى، وصولاً إلى إمام عيسى، وجميعهم من خلفيات دينية، وبدأوا بتعلّم القرآن قبل الانتقال لحقل الموسيقى، وامتدّ التحول حتى كارم محمود، الذى بدأ حياته قارئًا للقرآن فى المساجد، ثم انتقل للغناء، وحاز شهرة وضعته فى الصف الأول لمطربى الصنف الثانى من القرن العشرين.
القراء محمد بيلير وحامد شاكر ويونس اسويلص ورعد الكردي وعبد الله البريمي
فى سوريا، شهد النصف الأول من القرن بروز الشيخين على الدرويش وعمر البطش، اللذين أجادا القرآن ثم تعلّما الموسيقى، وكانا يتردّدان على زوايا الطرق الصوفية، قبل أن يشتغلا فى الغناء والمسرح. وتتابع المسار بين طبقات القرّاء وشيوخ الموسيقى السوريين، والأمر نفسه حدث بدرجات متفاوتة بين قراء وموسيقيى العراق وإيران وتركيا وتونس والمغرب والخليج العربى، ويمكن ملاحظته بتتبُّع مسارات رموز الغناء والإنشاد فى تلك المجتمعات، أو تتابع مدارس القراء ومسالكهم، سواء إلهان توك وفاتح سليم وفاتح قايا وحافظ بيلير وغيرهم فى تركيا، أو ضارى العاصى وأحمد خورشيد وعامر الكاظمى ورعد الكردى وغيرهم فى العراق، أو عبدالله جابر والحذيفى والعجمى والسديس والشريم وغيرهم بالسعودية، أو عبدالله البريمى وخليفة الطنيجى وصلاح بو خاطر وأسامة الصافى بالإمارات، أو عباس سليمى وجواد فروغى وكريم منصورى وحامد شاكر نجاد بإيران، أو رشيد العلاينى وعلى البراق ومحمد كتو وياسين إعمران ومصطفى البحياوى والعيون الكوشى ويونس اسويلص وغيرهم بالمغرب العربى.
الشيخ مصطفى إسماعيل يغني موّالاً من مقام السيكا
على الضفة المقابلة، جرت الإزاحة بإيقاع مغاير، لكنه كافٍ للكشف عن صورة للتعاطى مع القرآن، تختلف عمّا درج عليه الأمر قرونًا، فكان الشيخ محمد رفعت الذى أجاد توظيف المقامات فى القراءات القرآنية، وفى الوقت نفسه أدّى عددًا من الأدوار والأغنيات للإذاعات الأهلية فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، كما أوردت مصادر عديدة وأثبت رجاء النقاش فى كتابه "كلمات فى الفن"، والقارئ الشيخ على محمود الذى كان أستاذًا بمعهد الموسيقى، والشيخ محمد عمران الذى لم تَخلُ جلساته من الغناء، وله مقاطع مصوّرة يؤدى فيها أغنيات شهيرة، منها أغنية "حلم" للسيدة أم كلثوم من مقام السوزناك، المركب من (الراست فى درجة دو، والحجاز فى درجة صول)، والشيخ محمد صدّيق المنشاوى الذى يروى ابنه أن "أحد الموسيقيين الكبار فى الستينيات عرض عليه أن يلحّن له القرآن، فقال له: "يا سيدى، لقد أخذت الموسيقى من القرآن، فكيف تُلحّن أنت القرآن بالموسيقى"، والشيخ مصطفى إسماعيل بثروته النغمية والمقامية التى تجاوزت 19 مقامًا فى تلاواته، وأيضًا ببعض التسجيلات ذات الطابع الغنائى، منها مدخل موّال من مقام "السيكا" أداه خلال أحد اللقاءات الإذاعية، إضافة للهجرات العكسية من الغناء والإنشاد للتلاوة، وأبرز نماذجها طه الفشنى الذى بدأ حياته مُنشدًا قبل أن يتحول للقراءة، حاملاً معه حزمة من تقنيات الأداء والتلوين الطربى التى انطبعت على أسلوبه وحنجرته ومجالات أدائه.
الشيخ محمد عمران في أغنية "حلم" لأم كلثوم من مقام سوزناك
فى مرحلة تالية، بدأت حالة من الاندماج والاندغام بين القرآن والموسيقى تتحقق فى حناجر عشرات القراء، منهم عبدالباسط عبدالصمد، الذى كان يقرأ بالمقامات الأساسية وبعض تنويعاتها، ويجيد العزف على العود، ويمتاز صوته بجواب لامعٍ لا يفقد طاقته الشعورية وقدرته على التحزين والتطريب فى أبعد مجالاته ارتفاعًا، مع تحكّم مُتقن فى الوقف والإمالة والركوز، وعبدالعزيز حصّان، أستاذ المقامات والتلوين النغمى، المُجِيد لسبع قراءات والقادر على الانتقال بين خزينة نغمية ومقامية تكتنز بالمقامات الأساسية وكثير من فروعها، مع تعبيرية تُغلّف أداءه، وابتكارات مدهشة فى الوقف بصورة تُثرى القراءة موسيقيًّا ودلاليًّا، كأنه يقدّم طرحًا تفسيريًّا للآيات، والسيد متولى، الذى يملك صوتًا لامعًا متباعد الضفاف، مع إجادة للمدُود والعُرَب بصورة تضعه فى عداد المطربين، وتوظيف للمقامات الأصلية لإنتاج متواليات تعبيرية ودلالية للآيات، ومحمد الهلباوى الذى حصل على إجازة التجويد من الأزهر ثم درس فى معهد الموسيقى العربية، جامعًا بين التلاوة والإنشاد والتوشيح، وله تجربة مع أوبرا مرسيليا الفرنسية فى مزج الموشَّحات بألحان "موزار"، ومحمود الشحات أنور، صاحب النفس الطويل والتنوّع بالغ الثراء بين القرار الرخيم والجواب شاهق العلوّ، مع مسحة مبهرة من امتزاج التطريب بالتحزين، وقدرة على الانتقالات المقامية السَّلِسَة وخلق تفاوتات إيقاعية أفقيًّا ورأسيًّا، على طريقة والده، وصنع نسيج نغمى ومقامى مُتعدّد الأبعاد، بتجاور المقامات والتلوين فى الجوابات والقرارات وارتفاع الصوت وانخفاضه، والحصرى والفشنى والبهتيمى والمنشاوى والنقشبندى والطبلاوى والشعشاعى والبنّا وطوبار وأبوالعينين شعيشع وشعبان الصياد وحَجّاج السويسى وأحمد الرُّزيقى وسيد سعيد وراغب غلوش وحمدى الزامل وحجاج الهنداوى وعبدالفتاح الطاروطى وعشرات غيرهم، فى كل المدارس والأجيال، أسَّسوا لموجة هادرة من التطريب القرآنى.
القارئ الراحل سيد متولي عبد العال في تلاوة من مقام الرست
آباء الغناء ومحاولات تلحين القرآن
لم تكن تجارب حمزة شكور ومحسن نامجو وعمر فاروق ومارسيل خليفة وغيرها ممّا أوردناه، المحاولات الوحيدة للمزاوجة بين القرآن والموسيقى، فالتاريخ البعيد يُؤكّد أن آباء الموسيقى والإيقاعات العربية كالفارابى والأرموى وابن سينا والكندى وإسحاق الموصلى وزرياب، وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم، نشأوا فى حظيرة القرآن، والتاريخ القريب يشير إلى محاولات مباشرة من عبدالوهاب والسنباطى وزكريا أحمد وسيد مكاوى وغيرهم لتأسيس هذه المزاوجة، ليس وفق رؤية "تلاواتية" قائمة على المقامات والمعمار الموسيقى فقط، وإنما وفق رؤية "تلحينية" تعبيرية شاملة.
القارئ الراحل محمد عبد العزيز حصّان
ربما كان الظهور الأول لفكرة تلحين القرآن حديثًا، عبر دعوة تضمّنها مقال "القرآن والفنون"، فى عدد مارس 1956 من مجلة "الأدب" التى كان يصدرها الشيخ أمين الخولى، إذ دعا كاتبه للمزاوجة بين القرآن والفنون الحديثة فى إطار تقديم رؤية عصرية جمالية، وفى أغسطس 1958 نشرت صحيفة الأهرام خبرًا بعنوان «خمس سور من القرآن تم تلحينها» أوردت فيه أن مفتش الموسيقى بوزارة التعليم، صالح أمين، بدأ تلحين عدّة سُوَر لتوظيفها ضمن المناهج، وفى أكتوبر 1959 قالت صحيفة الأخبار إن زكريا أحمد يستعد لتلحين القرآن، وهو ما أشار صبرى أبوالمجد فى "موسوعة أعلام العرب" إلى أنه كان رغبة قوية لدى "زكريا" لتوظيف التلحين فى التعاطى مع القرآن، دون آلات موسيقية، سعيًا لحفظ المقامات العربية من التبدُّل أو الضياع، فى ضوء ما قاله هو نفسه فى أحد الحوارات من أن "تجويد القرآن وقف عند حدود التطريب، وآياته تستحقّ أن تُلحّن تلحينًا تعبيريًّا يخدم ما فيها من صورٍ ومعانٍ، بعيدًا عن الاستعراض التقليدى للمقام وبراعة المقرئ"، لكنه اصطدم برفض الأزهر، ولعلّ هذا ما يُفسّر فكرة الإعادة التى أشار لها صالح جودت فى مقال "مات شيخ الملحنين.. أراد أن يعيد تلحين القرآن"، الذى نشرته مجلة المصوّر بعد وفاة زكريا أحمد فى 1961، إذ تُؤكّد الأخبار والوقائع المُوثّقة أن الشيخ كانت له محاولات سابقة، وتجارب متلاحقة لإعادتها.
سورة الضحى بصوت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب
أبرز من حاولوا تلحين القرآن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وربما يرتبط الأمر بنشأته فى أجواء دينية، بين "الكُتّاب/ مكتب تحفيظ القرآن" بمسجد سيدى الشعرانى، وترتيله للقرآن فى شبابه، كما تُورد رتيبة الحفنى فى كتابها "عبد الوهاب.. حياته وفنه"، وتتلمذه على يد الشيخ على محمود، قارئ القرآن وأستاذ الموسيقى، وتشير إحدى القصص المُتردّدة عن علاقتهما إلى أنه فى العام 1941 وخلال تلحين قصيدة "الكرنك" التى كتبها الشاعر أحمد فتحى، وانتقى منها "عبد الوهاب" عشرين بيتًا لغنائها، تعطّلت قدرات موسيقار الأجيال عند البيت الثالث عشر الذى يقول "أنا هيمان ويا طول هيامى..." فلجأ لأستاذه على محمود، الذى أسعفه بنقلة غيّرت أجواء الأغنية بأداء يقترب من طابع الشيوخ، ضمن بنية مقام "الرست" ذى القدرات الصوتية الواسعة، ليعود اللحن بعد تلك الانتقالة السريعة إلى أجواء عبدالوهاب الرومانتيكية الناعمة.
غلاف الهلال 1970 عن القرآن وموضوع المصور 1961 عن الشيخ زكريا أحمد
لعل أول محاولة لتعشيق عبدالوهاب الموسيقى مع ظلال النص القرآنى كانت فى قصيدة «دعاء الشرق» للشاعر محمود حسن إسماعيل، خلال خمسينيات القرن الماضى، إذ اعتمد لحنًا افتتاحيًّا للكورس كأنه ترتيل قرآنى، تبعه رياض السنباطى خلال الستينيات فى "الثلاثية المقدسة" للشاعر صالح جودت، فى تجربة أدّتها "أم كلثوم" كأنها ترتيل أيضًا، على خطٍّ موسيقى واحد، فقيرٍ تقريبًا، دون إيقاعات، ويقول عنها السنباطى فى أحد الحوارات: "غنّت أم كلثوم آية من القرآن، وغيّرنا فيها حتى لا تبدو آية، هى والضحى والليل إن ما سجى، فلم نقل إذا سجى، حتى لا يُقال إننى أُلحِّن القرآن، وإنما هى محاولة من بعيد".
فى عدد أصدرته مجلة الهلال فى ديسمبر 1970 بعنوان "القرآن.. نحو رؤية عصرية جديدة"، أعدّ الكاتب ضياء الدين بيبرس تحقيقًا حول "تلحين القرآن بين أهل الفن ورجال الدين"، رفض فيه الشيوخ الأمر برُمّته، وقال عبدالباسط عبدالصمد إن "القرآن مُلحَّن بطبيعته"، وفضّلت أم كلثوم إغلاق الباب من الأساس، بينما دعم عبدالوهاب الفكرة وقال إن له محاولات سابقة فيها، وصفها بالخاشعة والناضجة، مُفرِّقًا بين التجويد والتلحين، فالتجويد مدّ الحروف زمنيًّا لتحقيق الاستقامة والوضوح، بينما التلحين مجال دلالى يعطى الآيات ما يناسبها من معانٍ، وبرّر رأيه بالقول إن "الآيات متباينة وسريعة الانتقال، ويؤدّيها القراء على نمط واحد، وقد يكون من الأفضل أن يتباين التعبير تباينًا يجعل المستمع يتدبّر الآيات، فتدبُّر القرآن هو منطلقى إلى فكرة تلحينه"، وأضاف: "أُقدِّر الخوف الذى قد ينبعث فى الصدور، وأُطمئن المشاعر الغيورة على الدين، فالقصد من كلمة تلحين عندى هو أداء كلام الله أداءً يحاول أن يتفق بقدر الإمكان مع معانيه، وطبعًا أتصوَّر أن يستلزم الأمر نوتة موسيقية"، وأيّد السنباطى الأمر، مُشترطًا أن يتصدّى له من تتوفّر فيهم شروط مُحددة، أبرزها العلم بالموسيقى والقرآن، ومعاصرة كبار القُرّاء، وخوض تجربة روحية معه، ورأى أن هذه الشروط تنطبق عليه هو وعبدالوهاب فقط، متابعًا: "إذا لم ترتقِ الألحان إلى المعانى النورانية التى تنبثق منه، فحينئذ يجب ألا يُلحَّن القرآن".
الشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ عبد الباسط عبد الصمد يعزفان على العود
رأى أم كلثوم الذى أورده التحقيق يصطدم بما نقله عنها السنباطى فى أحد الحوارات، بقوله: "كان من أحلامنا أن أُلحِّن وتُغنّى سورة الرحمن، وقد حاولت شيئًا من ذلك، ولكن خفت"، بينما يقول أنيس منصور فى مقال منشور بالعام 2004، إن عبد الوهاب "أسمعنا تلحينه لآيات من سورة الرحمن، وسألنا هل يمكن مصاحبة اللحن بموسيقى هادئة؟ لكنه ونحن أيضًا تردّدنا فى ذلك، فسوف يُساء فهمه"، وأشار أنيس منصور إلى أنه أراد أن يلتفت أحد إلى ذلك فى تقليد الأذان بإحدى أغنياته، والتفت الناس، لكنهم لم يذهبوا لأبعد من أنه حاول أن يُؤذّن، فلا أحد يقدر أن يقول إن عبدالوهاب يحاول أن يُلحّن القرآن"، ولكن أقوى ما أورده أنيس منصور وأكثره صدمة، قوله: "فى إحدى ليالى رمضان جمعنا، نحن بعض أصدقائه، وقال: سوف أُسمِعكم شيئًا وأرجو ألا تُعلّقوا عليه، وأسمعنا تلحينًا لنصف سورة الرحمن مع موسيقى هادئة فى الخلفية.. الله يا أستاذ، وبس".
الشيخ سيد مكاوي ورياض السنباطي والشيخ زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب
بجانب المحاولات السابقة، تتردَّد حكايات عن محاولات للشيخين سيد درويش وسيد مكاوى وغيرهما للاقتراب من القرآن تلحينًا، لكنها روايات غير ثابتة، ويظل الثابت أن فريقًا عريضًا من قُرّاء القرآن استفادوا من الطرب ودراسة الموسيقى، وطابورًا طويلاً من المُغنّين والمُلحّنين استفادوا من دراسة القرآن والإلمام بعلومه، وتبادلوا الفائدة، وهو ما يلخّصه قول الشيخ المنشاوى فى حوار: "علّمت السنباطى القرآن وعلّمنى المقامات"، وقد أخذت تجلّيات القرآن فى مسار التطريب أبعادًا عدّة، سواء الفريق الذى دشّن طريقة الغناء المشايخية المُعتمدة على اللعب بالإيقاع والترقيص والإمالة وترجيف الصوت وتعدُّد المقامات فى العمل الواحد، واستخدام "ومضات" مقامية سريعة للانتقال بين الأجناس المختلفة، أو الفريق الذى خرج من عباءة غناء الشيوخ إلى نمط غناء مُتقن، يستدعى تقنيات الإنشاد وفيضه الزاخر من التلوينات والتطريب والشحن الوجدانى، وتتّضح فيه المُدود والعُرَب فى أداء مُتأنٍّ، ويتخلّى عن ترقيص الصوت، ويترك مجالاً واسعًا لكل مقام، بعيدًا عن الانتقالات الحادة، السريعة، القائمة على ومضات خاطفة. وهو ما يُفصح عن نفسه بقوّة فى تسجيلى محمد عبدالوهاب وسيد مكاوى لسورة الضحى، فرغم اختلاف الروح والصوتين والمجال المقامى، فإن قدرًا من عِناق الغناء وتقنياته مع القرآن وعلومه، يبدو واضحًا ومُعلِنًا عن نفسه فى المحاولتين.
الشيخة مبروكة في تلاوة من سورة الإسراء
هل سرق المُتشدّدون نصف القرآن؟
الاشتباك مع مسألة موسيقى القرآن لا يمكن أن يتجاهل نقطة مُهمّة، تخصّ مساحة الثراء الطبيعى للنص، خارج جدل المَوسَقة والتلحين، وهو الثراء الطالع من حناجر البشر بتنوُّعها، وعلى اختلاف مجالاتها الجمالية والتعبيرية، الثراء الذى لا يكتمل إلا بحضور المرأة والرجل جنبًا إلى جنب.
لن يكون البحث عن المرأة فى رحلة تداول النص بحثًا شاقًا، لكنه لن يحمل عطايا بقدر حضورها وتأثيرها اجتماعيًّا وثقافيًّا، فبين مئات الأسماء المتواترة فى كُتب القراءات والتفاسير وعلوم التجويد، ستلحظ أسماء أمهات المؤمنين: عائشة بنت أبى بكر، وحفصة بنت عمر وأم سَلَمة، على استحياء، وبتردّد يقترب من النُّدرة أكثر من الوفرة، بينما منطق الأمور يتّسع لتخيُّل أن مئات الحافظات والقارئات حضرن بقوة فى العصر الأول، وتناسلن وسلّمن الراية لأجيال بعد أجيال، وأنه ربما جرى تغييبهن عمدًا وبسبق إصرار.
إذا أحصيت قرّاء القرآن الآن، فالمؤكد أنك لن تجد بينهن امرأة واحدة، بينما يحمل لنا التاريخ القريب أسماء عشرات من البارعات، منهن "أم محمد" التى ظهرت فى عصر محمد على، وأحيت الليالى وسط قادة الجيش، وقرأت فى قصر السلطان باسطنبول، وكريمة العدلية التى ذاع صيتها فى بداية القرن العشرين، وتروى مجلة "الراديو المصرى" بأحد أعداد أبريل 1936 أن الإذاعة قدّمتها مرتين فى يوم واحد، الأولى فى السابعة صباحًا قارئة للقرآن، والثانية مطربة فى الحادية عشرة مساءً، وتزوّجت الشيخ على محمود، القارئ الشهير وأستاذ الموسيقى الذى تتلمذ على يديه محمد رفعت وطه الفشنى وزكريا أحمد وأم كلثوم وعبدالوهاب وكامل البهتيمى، وكانت "كريمة" أحبّ تلاميذه إلى قلبه.
الشيخة منيرة عبده في تلاوة من سورة آل عمران
يضم سجل قارئات القرن العشرين الشهيرات بمصر: الشيخة مبروكة، ومنيرة عبده التى ذاع صيتها فى 1920 وانضمت للإذاعة مع انطلاقها بالعام 1934، وخوجة إسماعيل التى كنت مسؤولة عن التلاوات النسائية فى الإذاعة منذ تقديمها للمرة الأولى فى 19 أبريل 1936 بثلاث تلاوات فى يوم واحد، وسكينة حسن التى احترفت الإنشاد وقراءة القرآن وسجّلت عددًا من الأسطوانات، ويروى إبراهيم عنانى، عضو اتحاد المؤرخين العرب، أن الإذاعة اعتمدت 30 قارئة فى 1934، لكنهن اصطدمن لاحقًا بفتوى ظهرت مع بدء الحرب العالمية الثانية، تقول إن صوت المرأة عورة، ومن مفارقات الأمر قصة الشيخة "أم السعد"، التى تخصّصت فى القراءات العشر ومنحت الإجازة لمئات القراء من أنحاء العالم، وكان سندها من أعلى الأسانيد وأشهرها بين الدارسين، لكنها ظلّت ممنوعة عمليًّا، بالعُرف وتشدُّد الفقه، من الحضور المُعلن بين القرّاء وأساطين التلاوة.
بالنظر للتاريخ، سنكتشف أن المرأة كانت حاضرة بقوة فى عالم القرآن، فيحكى كتاب "أُسد الغابة" عن الصحابية أم ورقة الأنصارية، التى استأذنت النبى أن تتّخذ مؤذّنًا فى بيتها، فأذن لها، ويُروَى أنه كان يذهب لها ويسمع القرآن منها، وتشير كتب السير لعشرات أخريات أجدن القرآن حفظًا وترتيلاً، منهن أم الدرداء الكبرى، وأمها خيرة بنت أبى حدرد، وعمرة بنت عبدالرحمن، وأختها، وأم هشام بنت حارثة، المذكورة فى صحيح مسلم، ورابطة بنت حبّان أَمَة على بن أبى طالب، وحفصة بنت سيرين الأنصارية، التى قال عنها إياس بن معاوية: "ما أدركت أحدًا أُفضّله عليها"، واستمر الأمر فى العصور التالية حتى زُبيدة بنت أبى جعفر المنصور فى العصر العباسى، التى يُروَى أنه كانت لها مائة جارية يحفظن القرآن، وكان يُسمع فى قصرها كدوىّ النحل.
الشيخة سكينة حسن في تلاوة من سورة النجم
وإذا نظرنا للمغرب العربى والأندلس، سنجد عشرات النماذج التى تُوردها كتب التراجم، منهن عائشة القرطبية، التى قال عنها ابن حيان: "لم يكن فى زمانها من حرائر الأندلس من يُعادلها علمًا، وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف"، و"فضل القيروانية" التى كتبت مصحف جامع عقبة بن نافع، وعائشة البوزيدى، وأم العلاء العبدرية، وأم العز العبدرية، وزينب القرقولية، وعائشة الفاسية، وخديجة الدكالية، وخديجة الحميدى، ورحمة المكناسية، والسبع كُن أستاذات فى سبع قراءات ويُجوّدن بها، ورُقية اليعقوبية التى كانت تُفسّر القرآن، وصفية بنت المختار المُلمّة بعلوم التفسير والتجويد، وللاغيلانة ابنة الفقيه محمد غيلان، وكانت قارئة وفقيهة تفتى النساء، وحبيبة الكتّانى وشقيقتها خديجة، وتتسع القائمة لعشرات الحافظات من بيوت الفاسى، وابن سودة، والكتّانيين وغيرها.
النظرة الفقهية للأمر تكشف أن عشرات الفقهاء دأبوا طوال قرون على ترديد أن صوت المرأة عورة، وما يزال كثيرون من المشتغلين بالدين يذهبون المذهب نفسه، بينما لم يثبت فى القرآن أو عن الرسول ما يؤكد تلك الرؤية، وعن هذا تقول الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، فى تصريحات سابقة، إن الأصل فى الأمر أن صوت المرأة ليس عورة، وكانت الصحابيات يجلسن فى المحافل العامة ويُشاركن بآرائهن، ولم يقل النبى أو أحد من الخلفاء الراشدين لهن إن أصواتكن عورة. بينما تُسجّل كتب السيرة روايات تؤكد أن الرسول استمع للغناء من نساء، وإذا جاز سماع المغنّيات مع ما يتداوله الفقهاء من شكوك حول الغناء، فالأَولى أن يكون سماع القرآن من النساء أحبّ وأكثر قبولاً.
النقطة المهمة، أن تغييب المرأة عن ساحة القراءة ليس مجرد سلوك اجتماعى وثقافى يخصّ بنية المجتمع وأعرافه، لكنه سرقة أو تبديد مُباشر لنصف طاقة الموسيقى وثروة النغم فى القرآن، فإذا تجنّبنا المقامات الموسيقية تمامًا، والتفتنا للمقامات الصوتية وما تختزنه الحناجر من نغم ومدارج تبيان وتعبير، سنجد أن الحناجر البشرية مُوزّعة على ستة مستويات، أو أنواع للأصوات: (سوبرانو، وميزو سوبرانو، وكونترالتو، وتينور، وباريتون، وباص)، وإذا كان لكل واحد من الستّة مجاله الموسيقى والأدائى، حتى ضمن بنية المقام الواحد، وكانت الثلاثة الأولى للحناجر النسائية، فى مقابل ثلاثة للرجال، فإن تغييب النساء عن قراءة القرآن عسفًا، وبتوظيف مُوجّه للمرويات والتفاسير، هو فى جوهره تغييب مباشر لنصف موسيقى القرآن التى تُنتجها الحناجر، أو سرقة عمديّة لها.
التجويد المُغلق والتَّرَنّم المفتوح
كان غناء العصر الجاهلى قائمًا على ترديد وزن يُناسب وزن الشطر الشعرى، وقد يُعاد إنتاجه مع الشطر الثانى أو يدخل عليه تغيير. كان الغالب على الأمر توافق إيقاع الغناء مع إيقاع الشعر، ولم يتغير هذا إلا بظهور أسلوب الغناء المُتقن الذى ابتكره "طويس" ومن تبعه من مغنّيى المدينة، بعد الاختلاط بأسرى الفرس، وينقل المسعودى فى "مروج الذهب" أن "الحُداء فى العرب كان قبل الغناء، حيث كانوا يحدون به الإبل، وإنّ أول السماع والترجيع فيهم، ثمَّ ما لبث أن اشتُقّ منه الغناء وانتشر بين العرب، حيث كان لهم به ولع شديد، وبالنسبة لقريش لم تكن فى بادئ الأمر تعرف غير غناء النُّصُب، ثم ظهر فيها عزف العود المصاحب للغناء، وأقبلوا على غناء الجوارى"، وإذا كان مناط الخوف من القراءة بالألحان فى فكرة "التوقيع"، فإن فى مقابل الغناء المنضبط بإيقاع ظاهر، هناك "الموّال"، وهو غناء ارتجالى بدأ فى العصر العباسى، يعتمد على مقام موسيقى فى إطار مُطلق مَسرود، لا تنتظم أضلاعه انتظامًا رياضيًّا مُتكرّرًا، ولا يحكمه إيقاع منضبط ومتساوٍ، أى أنه نمط من الترنّم الحرّ أو المفتوح، الذى لا يُقيّده زمن إيقاعى صارم، يشبه بدرجة كبيرة نمط التغنّى التقليدى بالقرآن، الذى شاع فى العصور الأولى، ومن الأشكال أيضًا "النوبة الأندلسية" وهى تلحين فى مقامات مختلفة، بإيقاعات متباينة، يتم التبديل بينها فى نسيج واسع مُتعدّد الانتقالات.
أما فى علوم القرآن، فلم يُعرف "التجويد" اصطلاحًا وعلمًا إلا مع القرن الرابع الهجرى، والثابت أنه قام على الاستقراء الناقص، كما حدث الأمر فى النحو، بُغية وضع أُسس معيارية وصياغة ضوابط توقيفية للقراءة، وبحسب ابن الجزرى فإن أول مُصَنّف فى التجويد "القصيدة الخاقانية" الرائية لموسى بن عبيدالله أوائل القرن الرابع، تبعه أبوالحسن على بن جعفر السعيدى المتوفَّى فى القرن الخامس، فى كتابه "التنبيه على اللحن الجلىّ واللحن الخفىّ"، ثم مكّى بن أبى طالب القيسى فى كتابه "الرعاية"، وأبى عمرو الدانى فى كتابه "التحديد"، الذى يقول فى مقدمته: "ما علمت أن أحدًا من المتقدمين سبقنى إلى تأليف مثل هذا الكتاب"، ما يشير إلى أن مسألة التوقيف فى القراءة ووضع أحكام وضوابط لها لم تكن على صورتها الحالية قبل القرن الخامس، وفى كتاب "فن الترتيل وعلومه" يُحدّد الشيخ أحمد الطويل مراتب القراءة بأنها: "التحقيق، أى المبالغة فى المدود وتمثّلها القراءة الحجازية برواية ورش عن نافع، والترتيل أى إتقان الوقوف وتمثّلها القراءة الكوفية برواية حفص عن عاصم، والحدر أى القراءة السريعة برواية قالون عن نافع"، لكنّ تقسيمًا آخر يعتمد مراتب القراءة باعتبارها: التحقيق والتدوير والحدر، ويقول إن الترتيل هو صفة الإبانة والإيضاح الحاضرة فى المستويات الثلاثة، بينما التدوير هو مستوى وسيط فى سرعة القراءة مع التبدّل بين السرعة/ الحدر، والبطء/ التحقيق، وبحسب التقسيمين فإن مراتب القراءة لا تعدو كونها مسالك إيقاعية للتعامل مع القرآن لإنتاج مستويات من الألحان.
وفى عملية التلحين، يمكن أن يعمد المُلحّن لطريق من اثنين: إما أن يضع فكرته مُرفقة بإيقاع مُحدّد، أو أن تكون الفكرة مُرسلة، ليأتى الإيقاع تاليًا، ويمكن الاستغناء عنه والاستعاضة بآلة نبر كالعود لتنظيم تدفق اللحن، أو أن يكون التنظيم قائمًا على الغناء وصوت المُغنّى نفسه، إما بالفواصل المتماثلة، أو بالركوز وأزمان الوقف والترخيم وتأخير النبر، وبينما يرتبط الغناء بالتلحين، فإن للتلحين نفسه مستويين: الموزون بالإيقاع، أو المُطلق المسرود، وفى الأخير ينتظم الإيقاع عبر ضبط الفواصل وتوالى الجُمَل النغمية المُتماثلة، ولا يُشترط فى التلحين استخدام الموسيقى كمظهر وحيد للغناء، إذ يُمكن الأداء بالصوت وحده، ويُمكن أيضًا اعتماد الصوت وسيلة لتوليد الموسيقى، كما فى طريقة "أكابيلا" ونموذجها الأشهر أغنية "طمّنى كلمنى" للمطرب الراحل محمد فوزى، إذ يتم توظيف الأصوات البشرية فى لعب الجُمَل اللحنية من مستويات الأصوات والتآلفات المتفاوتة؛ لتلعب دورًا مزدوجًا فى آن: الخلفية النغمية، والتنظيم الإيقاعى، صانعةً حالة التطريب الكاملة.
الفنان محمد فوزي والمجموعة في أكابيلا "كلّمني طمّني"
الإجادة والإمتاع.. عناق القراءة والطرب
الطرب بحسب كتاب الدكتور معلا غانم "طَرَب وعُرَب" يتجلّى فى حروف المدّ، بينما تتجلّى العُرَب فى الحركات (فتحة، ضمة، كسرة، سكون)، فحركة السكون تعطى الأرضية الثابتة، أى مستوى الصمت المعيارى، ما يُبرز حركتى ما قبلها وبعدها، بينما تُعطى الشدّة قمة صوت الحركات، والمسافة الفاصلة بين المستويين هى المجال العُرَبى، أى أن الطرب فن ظاهر والعُرَب طرب خفىّ أو مُبطَن، إذ إنها نمط فى الإيضاح والإفصاح اللغوى، ومن هذا الباب يُمكن القول إن كل قارئ مُجيد يمتلك مجالاً عُرَبيًّا واضحًا، أى يمتلك شطرًا من الطرب، ومع قدرته على توظيف حروف المدّ توظيفًا ممتعًا وجماليًّا، فإنه يحوز الطرب من جوانبه، أى يُصبح مُطربًا بالقرآن، وهذا ينطبق على قُرّاء العصر الأول، وعلى فقهاء العصور التالية الذين حرّموا التطريب بالقرآن، بينما يتحقّق التطريب فى قراءاتهم، وفق نطاقات ثقافية وجغرافية مُتنوّعة بتنوّع المنشأ ومسار المعرفة.
يُمكن ملاحظة فارق التأثُّر والتأثير الثقافيين للمجتمعات فى أنماط الأداء القرآنية، بالنظر إلى خريطة انتشار القراءات ومسالك القُرّاء فى أدائها، فبينما تنتشر قراءة الدورى عن أبى عمرو فى السودان، بطبيعتها المناسبة لحناجر أهل المنطقة من شيوع الإمالة وقلّة العناية بالهَمز، تشيع قراءة ورش عن نافع فى المغرب بطابعها المقترب من الحدر، بما يتناسب مع أجواء الموسيقى والغناء الأندلسيين المُنتقلين للمغرب العربى، وبينما تفوح رائحة المقام العراقى التقليدى فى قراءات وأذان العراقيين، الذى يحتاج صوتًا قويًّا عريضًا ذا مساحة مُمتدة فى الجواب والقرار والميانة والبحَّة، يعتمد النجديون على التحزين بقماشته التقليدية، ويؤسِّس القرّاء المصريون معمار تلاوتهم على الخزينة النغمية لأنماط الغناء المُتقن وسلالم وتآلفات المقامات، والغريب أنه بينما يقرأ المغاربة برواية "ورش" المصرى، يقرأ المصريون برواية حفص الكوفى، وهى رواية سهلة تساعد على التمكين والتحقيق، وتخلو من التعقيد الذى يشيع فى روايات أخرى، مثل كثرة الإمالة عند حمزة والكسائى وخلف، وإشباع المدّ فى المنفصل والمتّصل، والسَّكْت المُتكرّر على الهَمز الذى قبله ساكن، موصولاً كان أم مفصولاً، والوقف على الهمز فى قراءة حمزة وهشام، وإمالة هاء التأنيث فى الوقف عند الكسائى، والمدود فى قراءة ورش، أو صلة ميم الجمع وسكونها واختلاف المدّ المنفصل فى قراءة قالون، والصلة المُتكرّرة فى قراءة ابن كثير المكى وأبى جعفر المدنى، وكثرة الإدغام للمثلين المتقاربين فى رواية السوسى عن أبى عمرو، أو العمل فى الهمز المتتالى فى كلمة أو كلمتين عند نافع وابن كثير.
علوم الموسيقى وعلوم القرآن
يقول الجاحظ عن الموسيقى: "كانت فى نظر الفُرس أدبًا، وفى نظر الروم فلسفة، أما فى نظر العرب فأصبحت علمًا"، ويقول ابن خلدون فى فصل صناعة الغناء بمقدمته الشهيرة، إن "أول ما ينقطع فى الدولة عند انقطاع العمران صناعة الغناء"، التى يُعرّفها بأنها "تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب مُنتظمة معروفة، يُوقّع كل صوت منها توقيعًا عند قطعه فيكون نغمة، ثم تُؤلَّف تلك النغمات بعضها إلى بعض على نسب مُتعارفة"، ويُفسَّر عدم تطوُّر الغناء إلا بعد توسُّع الدولة الإسلامية وتناميها بأن "صناعة الغناء تنشأ فى مجتمعات الترف التى تجاوزت مراحل الضروريات إلى الكماليات، ليبدأ المجتمع التفنّن فى المتع".
ويُميّز الدكتور نداء أبومراد، عميد كلية الموسيقى فى الجامعة الأنطونية بلبنان، فى كتابه "السيمياء المقامية"، بين اللغة واللسان والكلام فى علم اللسانيات، فاللغة كفاية مُشتركة عند البشر، واللسان يُوازى المقام الموسيقى المُحدّد للتخاطب من خلاله، والكلام يسرى عبر نظام مُحدّد لإنسان مُحدّد فى لحظة بعينها، ويشير لثلاثة أنساق مُوسيقية: "نسق إبراهيمى" يُؤدّى الكلمة فى قراءة ترتيلية تبليغية، و"نسق تشاركى دينى" يقود للنشوة ونراه فى قالب التوشيح بين الشيخ والبطانة أو التحميلة بين العازف والتخت، و"نسق إنشادى" فى الأهازيج الشعبية، وهى أنساق غير منفصلة تمامًا، ويحدث أن يتداخل أحدها مع الآخر لتُنتج أنساقًا جديدة، تحمل سمات مشتركة وآليات توصيل وإمتاع مُبتكرة، ويصل فى فكرته إلى أن درجات الارتكاز النغمية (البيوت) هى التى تُشكّل أساس الجُمل اللحنية للمقامات، كما تُشكّل الحروف تراكيب الكلمات، ويمكن اقتباس منهجيات حديثة كنظرية النحو التوليدى لدى نعوم تشومسكى لفهم آلية إنتاج النصوص الموسيقية انطلاقًا من بنية المقامات، وبالتبعية إنتاج مزيد من النصوص والنغمات.
أستاذ الموسيقى نداء أبو مراد
أما عن المقامات نفسها، فالمقام الصوتى هو مستوى اهتزاز النبرات ومجالها الزمنى والتردّدى، وهو الطابع الذى يمتاز به صوت مُعين، فصوت الأسد يعطى مقام الرست، والديك يعطى الصبا، والمقام الموسيقى بناء يتكوّن من أجناس وعقود، فكل مقام يتكوّن من جنسين أساسيين وأجناس فرعية، وكل جنس أربع درجات صوتية، وأحيانًا ثلاث، أما العقد فهو تآلف خمس درجات صوتية، وتتوزّع المقامات بين مستويين بنائيين فيما يخص الفواصل: مقامات تحتوى على ثلاثة أرباع النغمة (الحجاز والصبا والرست والسيكا والبياتى)، ومقامات حدّها نصف النغمة (النهاوند والكرد والعجم)، ولكل من المقامات الأساسية الثمانية وفروعها مجالات دلالية، فالصبا مقام عاطفى جيّاش بالمشاعر يليق بالآيات الروحانية ويصلح للتحزين والتطريب، ويناسب آيات الحزن والندم وأهوال يوم القيامة، والنهاوند يبدأ من أول السُّلَّم لأعلاه وهو مقام السراب وضياع الأمل، ويغلب عليه الحزن والخشوع ويناسب آيات الشوق والحب والمناجاة، والعجم فيه قدر من التعظيم والرفعة والصخب والرجولة ويقابل سُلّم "دو ماجير" فى الغناء الغربى، وتكون كل نغماته "بيكار" أى فى صورتها الأصلية دون رفع أو خفض، ويناسب آيات العزة والنصر واستشعار الهيبة والجلال الإلهى، والبياتى مقام أُنس وطَرَب ذو مدى مُتّسع للأحوال المُتقلّبة والمتبدّلة، ويدل على الحزن فى بعض فروعه، ويُناسب آيات التوحيد والعقيدة، والسيكا مقام تطريب وإمتاع ذو طابع عاطفى حاد، يمتاز بالبطء والترسُّل ويدفع للتدبُّر والتفكُّر فى الآيات وإظهار الفرحة والسرور، والحجاز مقام شوق وحنين مُفعم بالحزن، يصلح للتأمُّل والآيات الحزينة أو المتعلقة بيوم القيامة، والرست مقام قوى قويم يمتاز بالأُبّهة والفخامة والمرونة، ويصلح لاستعراض الصوت والتطريب، ويناسب آيات القصص والتشريع والجنة ونعيمها، والحجاز التركى يمتاز بالحزن والأسى، بمجال رحب فى أدائه الموسيقى، والكُرد سلس قريب من الأذن يبدأ من درجة (الرى) وينتهى بها، ويصلح لآيات الإرشاد والتوجيه ومعجزات الأنبياء وعظمة الله وصفاته.
الطبيعة التعبيرية للنغمات أشار لها ابن سينا بقوله: "بعض النغمات يجب أن تُخصَّص لفترات معينة من النهار والليل، ومن الضرورى أن يعزف الموسيقار فى الصبح الكاذب نغمة راهوى، وفى الصبح الصادق حسينى، وفى الشروق رست، وفى الضحى بوسليك، وفى نصف النهار زنكولا، وفى الظهر عشاق، وبين الصلاتين حجاز، وفى العصر عراق، وفى الغروب أصفهان، وفى المغرب نوى، وفى العشاء بزرك، وعند النوم مخالف"، والأمر نفسه أوضحه صفىّ الدين الأرموى فى حديثه عن شدّ أوتار الآلات، أو "الدوزان"، قائلا: "منها ما تُؤثّر قوة وشجاعة وبسطًا، وهى ثلاثة: عشاق وبوسليك ونوى. أما رست ونوروز وعراق وأصفهان فإنها تبسط النفس بسطًا لذيذًا لطيفًا، وأما بزرك وراهوى وزيرافكند وزنكولا وحسينى فإنها تؤثر بحزن وفتور".
وبجانب المقامات وطبيعتها، هناك ملمح يُميّز قارئًا عن قارئ، يُعرف بـ"الراحلة"، ويُقصَد بها الحدّ الذى يتعامل به الصوت مع النغمات صعودًا وهبوطًا، وهى أربع رواحل: "الحجازية" تعتمد على المرونة ونحت الصوت بنحافة ودقة دون تفخيم أو تطريب، وراحلة "التطريب" وهى مستويات متصاعدة تعتمد على تنغيم الصوت وانفتاحه وتتطلب مهارات كبيرة، و"العراقية" راحلة تحزين تمتاز بالخشوع وإبراز الآهات والشجن، و"الشامية" تعتمد على التحقيق والتشديد على المَخرَج، و"الأفريقية" تشيع فى السودان والصومال وتشاد ومالى والسنغال، ولا تتحرّى المخرج مُعتمدة على القصبة الهوائية والحلق، فيصدر الصوت فيها قصيرًا نحيلاً دون مطّ أو تنغيم.
الشيخ محمد رفعت في أحد الابتهالات الدينية
قراء الألحان يكتبون دستور التلاوة
أهم ما يتجلّى من استعراض كل هذه الجوانب، أن دعوة الرسول للتغنّى والتحزين وتزيين القرآن بالأصوات لا يمكن أن تتحقّق إلا بقدر من الإضافة التى يصنعها الصوت البشرى، وإذا كان الكلام فى ذاته مُحايدًا، فإن التحزين والتزيين والتغنّى صفات أداء لا قراءة عادية عارية من الموسيقى، إذ لن يتحقّق لقارئ أن يتغنّى ويتحزّن إلا لو سكب شيئًا من شعوره بالنص، وطبع به صوته، مُؤدّيًا بمدّ وتلوين وتفاوتات إيقاعية، وهى القيم نفسها التى تحملها المقامات الموسيقية، وهكذا يمكن القول إن الرسول - ولو لم يُشر للمقامات صراحة ًفى دعواه، إذ لم تكن عُرفت وقتها - فإنه فى حقيقة الأمر لم يكن يقصد بهذه الدعوة إلا ما نعرفه الآن من القراءة بمقامات الموسيقى.
الشيخ محمد عمران مع عبد الوهاب والشيخ سيد النقشبندي مع أم كلثوم
الناظر فى القيم الموسيقية العربية؛ سيجد أن من بين ثمانية مقامات أساسية، سبعة مقامات تنحو للحزن، فى مقابل مقام وحيد يقترب من البهجة فى شكله الأساسى، لكن بعض تنويعاته تنتج أنماطًا تحزينية، ما يُؤكّد أن توظيف المقامات فى خدمة القراءة لا يخرج بالأساس عن دعوة التحزين، كما لا يخرج عن دعوة التغنّى، وإذا كان الأمر على تشعُّبه وامتداد ضفافه لا يشى بصورة من الصور بأن القرآن أو الرسول حرّما الغناء أو الموسيقى، أو حرّما التغنّى بالقرآن، أو قراءته على الألحان والمقامات، فإن سؤالاً مُركّبًا يُثار حول مُنجز فقهى ضخم ينحو منحىً مُعارضًا ومُتشدّدًا تجاه الفكرة، ولا يردّ هذا السؤال أو ينفيه أن التغنّى قائم بالفعل، إذ إن بقاء التعاطى الفقهى مع الأمر على صورته الموروثة، يسمح لمن شاء من المُتشدّدين بأن يُخرج طوابير القُرّاء فى عموم البلدان الإسلامية حاليا من حظيرة القرآن وضوابط القراءات السليمة، وبالفعل يتهم هذا الفريق أفذاذ شيوخنا مثل رفعت وعبدالباسط والمنشاوى ومصطفى إسماعيل بالابتداع والافتئات على القرآن!
القول الذى يحتج به البعض بتوقيفية القراءة لا يبدو أنه يصمد طويلاً أمام اختلاف وتنوّع القراءات القائمة، وأضعافها من الاختلافات التى طمرتها عملية الانتقاء للقراءات المعتمدة والشائعة، من بين عشرات القراءات التى أطلق عليها الراصدون والجامعون رصاصة قاتلة وواروها التراب، ورغم هذا فإن ما يتوفّر فى القراءات المعروفة حاليًا من مسموحات المُدود والهمز والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام، يكفى لإنتاج أنماط عديدة ومُتّسعة من التغنّى، وفق ضوابط لا تخرج عن صحيح النص، وفى الوقت ذاته تستفيد من المُنجز الموسيقى والمقامى الكبير، الذى أنتجته الثقافة الموسيقية العربية والإسلامية.
الثابت فى الأخير، أن تجارب حمزة شكور ومحسن نامجو وعمر فاروق ومارسيل خليفة وطلال سلامة وأوبرا جاكرتا وغيرها، وإن تعدّدت الملاحظات بشأنها، فإنها تظل احتمالاً قابلاً للتكرار وإثارة الضيق والملاحظات، فى ضوء رؤية فقهية رسميّة تُغلق الباب فى وجه المزاوجة العميقة بين القرآن والمقامات، والتجريب فى هذا الإطار، لكن رغم هذه الرؤية الضيقة والتضييقية، ما يزال مئات القرّاء على امتداد البلدان العربية والإسلامية يكتبون دستور دولة التلاوة فى شكله العصرى المُتطوّر يومًا بعد يوم، بحناجر حدودها التقديس والإيمان بالنص الذى لا نهاية لإعجازه البديع، وملؤها الأنغام والمقامات التى لا نهاية لسحرها وتجلّياتها المبدعة!
القارئ المصري محمود الشحات أنور
القارئ المصري عبد الفتاح الطاروطي
القارئ الإماراتي عبد الله البريمي
القارئ العراقي عامر الكاظمي
القارئ العراقي رعد الكردي
القارئ المغربي يونس اسويلص
القارئ الإيراني حامد شاكر نجاد
القارئ التركي محمد بيلير
هذا الخبر منقول من اليوم السابع